المدينة

المدينة

وحشة

احتفت بي الشمس رغم نوة الميلاد الممطرة, ومنحتني مساحة دفء, وصفاء, رغم الألم المنتظر عن بعد في السحاب الرمادي الذي يتجمع في أفق البحر بحذر.

حملت حقيبتي الصغيرة, واخترقت الشوارع الضيقة حتى النبي دانيال, مررت بالمحلات التي أضاءت أنوارها مبكراً, وتلكأت أمامها بعض الوقت, يجذبني التراجع كلما تقدمت خطوات صغيرة إلى الأمام, أضعت الطرق التي أحفظها عن ظهر قلب, أحاول أن أؤجل اللقاء, حتى إذا لم يعد هناك مفر ظهر الجامع يحتل الناصية, فسألت عن البناء رغم أن ملامح المدينة حفرت في أنسجتي دكان البن, دكان الإسكافي, القهوة, حتى إذا رأيت العلم الأزرق فاجأتني الأنوار المطفأة للمركز الثقافي اليوناني, والعسكري النحيف المختفي في الظلمة بجوار الكشك الخشبي. دفعتني ضآلته لتحيته بإيماءة بعد أن كدت أتوقف لأحادثه لمجرد التأكد من وجوده هنا بديلا لدوريات البوليس, وأنوار الموتوسيكلات, والضباط برتبهم الصغيرة والكبيرة, وشبابهم الغض, ووجوههم التي تحمل آثار النعمة, دفعتني رغبتي في الاستمرار المؤرجح إلى أن ألمح ضوءاً شاحباً أصفر, أطل من بين درجات الرخام, فنظرت إلى أعلى, وعرفت أن بشراً ما لابد بالداخل, ركضت حتى لا أفر, ووصلت إلى طاولة الاستقبال ليرشدني العامل إلى غرفة وحيدة مضاءة يسكنها المدير الجديد للمكان.

خاطبته في نشاطه بسرعة, وهربت قبل أن أصرخ ويظن بي الجنون, فلم أكن أنا من حادثه, وكنت أنا الذي صمت عن سؤاله أين موسكوف الآن? وأين الجالية اليونانية? وأين النشاط والناس? وخرجت إلى الشارع تخنقني إجابات أعرفها. كادت تصدمني عربة حنطور انزلقت من مكانها فجأة. نام الحصان والسائس يرمقه من القهوة المجاورة, تذكرت رحلتنا في منتصف ليلة شتوية سعيدة, اصطفت فيها العربات, وأقلتنا جميعا كل حضور مؤتمر كفافي من العطارين إلى قلعة قايتباي, وحتى قصر رأس التين حيث تعالت الأصوات تغني ألحان سيد درويش والسنباطي وثيودراكس معاً من كل العربات في وقت واحد, واختلطت أصوات الجبل بأشعار سفيرس وايلتيس وأصوات البحر وصلاح جاهين وحسين السيد وشوقي. أنقذني جفول الحصان من الاصطدام بي, فنظرت إلى قدمي التي أوقفها حجر, ورأيت بازلت الشارع, وقد ازداد تآكلاً ومال على الجانبين جامعاً خيوطاً صغيرة من المطر الذي أرسل زخات لم أحسها إلا حين رأيت الماء.

قذفتني الشوارع إلى فندق المتروبوليتان الذي شهد عالمنا الذي ذوى, ورأيت واجهته التي شهدت تجديدات جعلتها أكثر وضوحاً للخارج بعد استبدال الزجاج البني بزجاج أبيض يكشف مدخل (اللوبي) الفندق, إلا أن هدوءه, واختفاء وجوه العجائز اليونانيين والتي حلت محلها عيون مصرية شابة لتجار - هكذا حدثني قلبي - تناسب إسكندرية اليوم بعالمها الجديد الذي يركض فيه حصان ليس مجنحاً يمحو بذيله الماضي الذي كان لنا.

مقهى

كان الشاطئ هو آخر ما تستطيع أقدامنا أن تحملنا إليه, فرحنا بالحرية, ورحنا نستنشق العبير الإلهي للريح, بعد أن استطعنا اقتناص زمن ما لنا, رغبة وحيدة في تماسك الأذرع مثل أطفال انفلتوا إلى الحقول في غفلة من الأمهات, ولم نفعل, وقبل أن نعبر الطريق إلى المقهى الذي حددناه للقائنا ولكلام كثير كنا على وشك البوح به, التقينا صديقاً مشتركاً, أصر على دعوتنا لنشرب الشاي في منطقته, وألح, وصغرنا دون أن نعلم لماذا? وجلسنا حول طاولة سرعان ما ضمت رفقاء آخرين جذبتهم أصواتنا الفرحة التي تخفي شجناً لا يستطيع غيرنا رؤيته وذبحنا الوقت الذي رتبنا له طويلاً حتى حانت لحظة الرحيل فاستأذنت وتركته بينهم!!

السنجاب

شدتني صورة كبيرة لسنجاب مرح تصدرت واجهة محل لملابس الأطفال في شارع صفية زغلول.

لماذا صورت لنا رسوم الأطفال عيون السنجاب باسمة? لماذا صورتها كاميرات مخرجي الأفلام التسجيلية قلقة, مرحة ونفاذة إلى القلب? رغم أنني حين اقتربت من السنجاب الحقيقي ذات يوم - وأنا أحمل في مخيلتي معرفة خاصة له - وجدت في عينيه انطفاء وخوفا بديلا للرغبة, ورأيت جسده المذعور يفر بسرعة ويتسلق الشجرة العالية أمامي في حديقة البيت في واشنطن, ولم يكن هذا الذي رأيته لعباً معي, بل كان هروبا لكائن صغير يتلاشى من الخوف, فلما اقتربت منه ذات صباح في حديقة عامة - السنجاب حيوان تحت الحماية محرم الصيد في أمريكا - وقف وانتظرني حتى اقتربت منه كانت عيناه ميتتين من سكينة العادة التي يتمتع بها حيوان مدجن (وقف الأطفال يلقون إليه بالطعام). تركته ورحت أستجمع صورة سنجاب من المطاط البرتقالي اشتريته ذات يوم لطفلي له سنة أمامية مرتكنة على أخرى في فم يضحك بخبث طفولي محبب, واحتميت بمعرفتي القديمة له.

الحوار

ماذا حدث لي? لماذا أصبحت دائمة الانتباه للحوار الخفي بين الرجل وأنثاه?

هل هو تأثير البحر? الضربات الحتمية للموجة والاستسلام الأبدي للشاطئ.

بالأمس, حين تعرفت على هذه المجموعة التي كنت أعرفها اسماً من قبل لاحظته:

يضحك بصوت صاخب. يأكل بشراهة. يتمايل مع النغم ويصر على اختيار الأغاني التي نسمعها بنفسه. يهتز على إيقاعها. لا ينساها وهي تتكلم, أو تجلس. يرعاها بيديه كلما مر بجوارها يستمتع بمذاق فيبحث عنها, ويطعمها منه. إذا انتعش من قفشة تلفت ليعرف إن كانت تشاركه, فإن لم تكن صاح كطفل خائف من أن يفوتها مشهد التقاط سمكة ترفرف فوق سطح الماء. خشيت عليها من عيني اللتين تسرحان وراء حركة أصابعه فوق ساقها أو ذراعها. أحببت هذه الرعاية الصاهلة لها.

تساقطت المعلومات في حجري: كيف يهوى الطعام بشغف - طبيعي مع كل هذا الحجم - كيف يعمل ساعات طويلة لأيام متصلة دون كلل. كـيف أنه ديكتاتور, قالت عنه إنه رهيب. قلت أعرف, وكنت صادقة لقد كان مثل كائن خارج من مقلاع لا يستطيع أحد أن يقف في طريق إرادته, وكان نقيض الموات الذي خبرته طوال العمر, فلماذا لا أكون أكثر الناس معرفة به.

 

هالة البدري