التباسات نقل الكبد

التباسات نقل الكبد

يتناول هذا المقال المشكلات الناجمة عن بعض الأعضاء المتبرَّع بها في عمليات الزرع أو النقل, وهو مكتوب بزاوية رؤية لجراح واضح تحيزه لهذا النوع من التدخل الطبي, وهو دفاع لا يحتّم البراءة بل قد يثير العديد من الالتباسات المضادة.

أضحى ما كان حلماً مستحيلاً بالأمس حقيقة بارزة للعيان اليوم وغدت زراعة الكبد عملية جراحية روتينية تجرى في كثير من المراكز المتخصصة حول العالم. ولكن كثيراً ما يتردد على لسان العاملين في هذا الحقل بأن نجاح زراعة الكبد هو من ألد أعدائها وأنها - أي زراعة الكبد - قد أصبحت ضحية نجاحها!

لقد أدى النجاح المنقطع النظير والنتائج الجيدة التي صاحبت زراعة الكبد في العقد الأخير من الألفية الثانية إلى إضافة أمراض أخرى إلى قائمة أمراض الكبد المزمنة التي تحتاج إلى زراعة, وهذا بدوره أدى إلى ازدياد هائل في عدد المحتاجين للزراعة يفوق كثيراً عدد الأعضاء المتبرَّع بها. ومما زاد الطين بلّة حصول نقص حادّ في عدد المتبرعين مما جعل هذا الفارق يزداد فجوة يوما بعد يوم وبشكل مريع, أدى بالفعل إلى وفاة عدد كبير من المرضى المنتظرين على قائمة الانتظار للزراعة وخاصة الأطفال منهم لعدم توافر سبل للغسيل الكبدي أو الديلزة الوريدية لمرضى الفشل الكبدي مثلهم في ذلك مثل مرضى الفشل الكلوي على الرغم من الأبحاث الكثيرة التي تجرى لتصنيع كبد صناعية, فلا عجب إذن أن يدهم الموت عددا من المرضى المنتظرين قبل أن يأتيهم فرج الزراعة, فنسبة هؤلاء في أوربا تفوق 10% من عدد المسجلين على القائمة. وتشير الإحصائيات الأمريكية لعام 2000م إلى وفاة 5700 شخص من المنتظرين للزراعة.

مسببات

وعلى الرغم من ازدياد عدد المحتاجين إلى الزراعة في السنين الأخيرة, فإن هذا لم يواكبه زيادة في عدد المتبرعين بالأعضاء, فقد غيرت زراعة الأعضاء مفهوم الموت وتعريفه من توقف القلب عن الخفقان إلى توقف الدماغ وموته حتى ولو كان القلب لايزال نابضا, وقد أدى هذا التغيير في المفهوم إلى معضلة كبرى في الأخلاقيات من الناحية الطبية - القانونية, فهل يعقل حقا اعتبار من لايزال قلبه نابضا بالحياة بنكا لعدد من الأعضاء يمكن أن يستفيد منها من هم على قائمة الانتظار للزراعة?

يكون التبرع عادة بأخذ الأعضاء من مريض توفي دماغه لأي سبب من الأسباب بإذن مسبق منه أو بعد أخذ موافقة ولي أمره عن رضا وطيب خاطر ودون مقابل مالي, إلا أن فكرة (الموت الدماغي) هذه لاتزال غير مقبولة في عدد من الدول مثل الصين واليابان على الرغم من انتشار أمراض الكبد التي تحتاج إلى زراعة هناك. كما أن التبرع في دول كثيرة من العالم قد لا يحظى برضى وقبول حسن من العامة لأسباب عدة منها عدم الاقتناع بقدسية التبرع أو عدم وضوح, أو بالأحرى الحجة بعدم وضوح, الفتاوى الشرعية.

ويبدو أن هناك عاملين مهمين يحولان دون مبادرة الناس للتبرع بأعضائهم في العالمين العربي والإسلامي, الأول عدم وعي الناس بأن التبرع عمل سامٍ وفيه أجر عظيم للمتبرع من الله سبحانه وتعالى, وأن فقد عزيز عليهم ينتج عنه إنقاذ حياة عدد لابأس به من مرضى الفشل المزمن للأعضاء. فمتبرع واحد ميت دماغيا ينفع مريضين من مرضى الفشل الكلوي ومريضاً من مرضى الفشل الكبدي ومريضاً آخر يحتاج إلى زراعة قلب أو رئتين, وآخر يحتاج إلى بنكرياس أو أمعاء دقيقة أضف إلى ذلك القرنيتين. أي أنه بتبرع إنسان واحد قد ينتفع على الأقل 6 أو7 مرضى هم في أمس الحاجة لهذه الأعضاء.

الثاني هو الفتاوى الشرعية وكيفية تعامل العامة معها, لقد أحل الإسلام التبرع بالأعضاء وحث عليه لإنقاذ حياة إنسان آخر شريطة عدم التمثيل بجسد المتبرع وشريطة الحصول على إذن مسبق من المتبرع أو ولي أمره بالموافقة. وجاءت فتوى المجلس الإسلامي المنعقد في عمان بالأردن عام 1986م والتي اعتبرت الموت الدماغي مطابقا لتعريف الموت في الشريعة الإسلامية داعماً كبيراً لفكرة التبرع بالأعضاء. وعلى الرغم من أن هذه الفتاوى واضحة وصريحة ولا تشكّل عائقاً أمام التبرع النبيل بالأعضاء, فإن عدداً كبيراً من الناس يتخفى تحت ستار الجهل بهذه الفتاوى, ويتذرع بغموض بعضها كسبب لعدم موافقته على التبرع.

يقدّر الباحثون أن العدد المطلوب للمتبرعين يجب أن يقارب 50 حالة تبرع سنويا لكل مليون نسمة من المواطنين, وإذا ما افترضنا على سبيل المثال أن عدد سكان بلد ما يبلغ 20 مليون نسمة فيفترض وجود حوالي 1000 متبرع سنويا, إلا أن الحصول على مثل هذا العدد سنويا قد يكون ضربا من الخيال في عالمنا العربي والعالم الثالث عموما.

وكم من مريض شُخصت حالته بالموت الدماغي ولم يُستفد من أعضائه, لعدم جرأة الأطباء المشرفين على علاجه أو قلة خبرتهم في التحدث مع الأقارب ومناقشتهم بشأن التبرع بالأعضاء. وعليه لابد من توفير السبل والإمكانات والخبرات والنصائح لكل المستشفيات وخاصة أقسام العناية المركزة والأطباء العاملين فيها, كسبيل إلى تحسين نسبة التبرع بالأعضاء من المرضى الذين يتوفاهم الله دماغياً. وهذا ما تمّ فعله في ألمانيا التي ارتفع عدد المنتظرين للزراعة فيها إلى 14000 مريض بينما تمت الزراعة لــ4000 مريض فقط خلال العام المنصرم. كما أن قرابة ثلث المرضى المصابين بأمراض مزمنة في القلب والكبد وفي حاجة للزراعة يموتون وهم في انتظار زراعة أعضاء مناسبة لهم. لذلك دأبت الجمعية الألمانية لزراعة الأعضاء على التركيز على أقسام العناية المركزة في 1400 مستشفى من كبريات المستشفيات الألمانية, وقد ساعد هذا على ارتفاع عدد المتبرعين بنسبة 20% في خلال عامين. ولكن مازالت هناك نسبة كبيرة من الأقارب تفوق 50% في بعض المناطق الألمانية ترفض فكرة التبرع بأعضاء من يعزون عليهم. ومن المقلق حقا أنه في دولة غربية متقدمة كألمانيا يبلغ عدد من يحملون بطاقات تبرع ما نسبته 4% فقط من عدد المتبرعين, لقد عبّر عن هذا القلق بروفيسور مارتن مولزهن رئيس جمعية التبرع بالأعضاء بألمانيا في كلمته أمام الأعضاء في اجتماع الجمعية السنوي بمدينة هايدلبيرغ هذا العام. وعبر مولزهن عن أسفه تجاه عدم مساعدة وتعاون بعض المستشفيات مع جمعيته, وأثنى الحضور على النظام المتبع في وسكانسون الأمريكية والقاضي بخصم جزء من المعونات المالية السنوية للمستشفيات غير المتعاونة في مجال التبرع بالأعضاء. ولكن الأطباء المجتمعين رفضوا رفضا باتا فكرة إعطاء الأطباء المتعاونين مكافأة مالية لقاء تعاونهم في هذا المجال كما هو متبّع في إسبانيا. إذ إن هذا سيزيد من قلق العامة وتخوّفهم من أن يتمادى الأطباء في تشخيص الموت الدماغي والتسرع في طلب الإذن من الأقارب بالتبرع بالأعضاء ركضا وراء ربح مالي.

الحلول... ألوان من التبرع

أجبرت الحاجة الباحثين على إيجاد بدائل ومصادر أخرى للأعضاء للتقليل من عدد المتوفين على قائمة الانتظار, ومن هذه التطورات قبول أعضاء من متبرعين مسنين (أكبر من 60 عاماً) مادامت الشروط للتبرع مستوفاة وليس هناك ما يمنع التبرع. وقد تمّ العمل بهذا في مجال زراعة الكلى دون حدوث مضاعفات تذكر مما شجع العاملين في مجال زراعة الكبد لتطبيق هذا الأمر كوسيلة لإنقاذ حياة بعض المرضى المحتاجين.

وكذلك قبول بعض الأعضاء التي لا تستوفي جميع شروط التبرع بل معظمها, والتي في أحسن الظروف قد ترفض لغرض التبرع Marginal Organs, ولكن مع شح عدد المتبرعين يمكن التغاضي عن بعض شروط التبرع ليزيد بذلك عدد الأعضاء المتوافر للتبرع, بالطبع دون التأثير سلبيا في نتائج الزراعة.

ولقد أثبتت الأبحاث التجريبية على الحيوانات في إسبانيا أنه وبعد توقف القلب ولفترة لا بأس بها يمكن الاستفادة من أعضائها للزراعة والحصول على نتائج مقبولة إذا ما حُفظت حرارة أعضاء الجسم في درجة منخفضة قبل الاستئصال, وقد أصبحت هذه وسيلة إضافية لجني الأعضاء البشرية في مراكز كبرى في دول أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وهولندا, وتكمن المشكلة هنا في الحصول السريع على الإذن بالتبرع قبل فوات الأوان.

ويبدو أن الفجوة بين عدد المتبرعين وعدد مَن يحتاجون إلى الزراعة أوسع بكثير بين المرضى الأطفال مما هي عليه بين البالغين. وهذا ما يؤدي إلى وفاة عدد كبير من الأطفال وهم على قائمة الانتظار للتبرع قبل أن يأتيهم الفرج والزراعة المرتقبة. كان هذا الأمر مقلقا جدا للباحثين مما حدا جراح الكبد الفرنسي الشهير (بيزموث) على اللجوء الى فكرة زرع جزء من فص الكبد الأيسر لأحد الأطفال المنتظرين وحققها بنجاح في عام 1989م. لقد قلصت هذه الطريقة قائمة انتظار الأطفال لزراعة الكبد وقللت عدد الذين يموتون وهم ينتظرون.

وقد كان ما تبقى من الكبد في السابق يرسل إلى مختبرات أبحاث علم الكبد بعد استئصال الفص الأيسر والتبرع به لطفل. لكن النقص الحاد في الأعضاء المتبرع بها أجبر الباحثين على اللجوء إلى تجربة زرع ما تبقى من الكبد لمريض بالغ على قائمة الانتظار. ومن هنا انبثقت فكرة تقسيم الكبد المتبرع بها إلى قسمين يزرع كل قسم لمريض بالغ فبدلا من أن ينتفع بالكبد مريض واحد أصبح النفع يعمّ مريضين. إلا أن إجراء عملية الزراعة لمريضين في يوم واحد وفي مركز واحد قد يكون مرهقا للفريق الطبي العامل ومكلفا جدا لذلك المركز, لذلك كان لزاما تقسيم الكبد وإجراء عملية زراعة واحدة في مركز وإرسال القسم الآخر إلى مركز طبي ثان بعد التنسيق المسبق بين المركزين لإجراء عملية الزراعة الثانية هناك.

وعندما يتبرع أحد الوالدين لطفلهما بجزء من فص كبدها أو كبده الأيسر, يدخل هذا في إطار تبرع الإنسان الحي, وقد أجريت أول عملية زراعة ناجحة لجزء من كبد إنسان حي في عام 1989م. لقد فتح هذا السبق الطبي الباب على مصراعيه لكي يكون للوالدين دور مهم في إنقاذ حياة مَن يعزّ عليهم من فلذات أكبادهم بالتبرع لهم. لقد ساعد انتشار هذه العملية في تقلص عدد الأطفال المنتظرين على قائمة الزراعة وكذلك تخفيض عدد مَن يموتون وهم ينتتظرون. إلا أن هذا النوع من الزراعة كان في البداية موضع نقد لاذع من قبل بعض الباحثين نظراً لما قد يسببه من خطورة في بعض الأحيان للمتبرع الحيّ. ولكن التطور الكبير الذي أحرز في مجال جراحة الكبد في العقد الأخير من الألفية الثانية جعل من حدوث مثل هذه المضاعفات والوفيات أمرا غير مسموح به. وقد أدى النجاح الذي تمّ إحرازه في هذا المجال في التبرع للأطفال إلى تطبيق هذه الفكرة على البالغين بزرع أحد فصّي الكبد (الأيسر أو الأيمن) من كبد إنسان بالغ حي لمريض بالغ مناسب له في المواصفات. ولكن بعض المضاعفات الجراحية وعددا صغيرا من الوفيات التي صاحبت مثل هذه العمليات وخاصة تلك المتعلقة باستئصال الفص الأيمن من كبد المتبرع وهو الأكثر صعوبة, أضفت ظلالا من الشك في نفوس بعض الباحثين, إلا أن هذا النوع من التبرع يعتبر في الوقت الحالي الحل الوحيد والمناسب لعلم زراعة الأعضاء في الدول التي لا يتوافر فيها المتبرعون بسبب عدم الاعتراف بالموت الدماغي سواء كان ذلك لأسباب دينية أو اجتماعية.

من الحيوان للإنسان

تبقى الحاجة دوما هي أم الاختراع, والحاجة إلى أعضاء لإنقاذ أرواح المرضى تفتقت عنها فكرة زرع كبد بعض الحيوانات القريبة في تركيبها من الإنسان للمرضى الذين طال انتظارهم دون توافر كبد مناسبة لهم. وأنسب هذه الحيوانات هو الخنزير لكون أعضائه تماثل في حجمها أعضاء الإنسان. كما أن توالده الكثير سيوفر مصدراً غير محدود للأعضاء. وإذا ما تمّ تطبيق هذا النوع من الزراعة فستنتهي بالفعل أزمة شح الأعضاء في الحال وإلى الأبد, كما أن هذا سيتخطى كل التساؤلات التي تثار حول الموت الدماغي والتغيير الذي أعقبه في تعريف الموت عند المعارضين. كما سيجعل هذا من عملية الزراعة أمراَ مخططا ومنسقاً له مما سيعود بالنفع على النتائج المرتقبة. وفعلا تم إجراء عدد من الحالات في عامي 1992 و1993م ولم تكن النتائج في بداية الأمر مشجّعة نظرا لارتفاع نسبة رفض جسم الإنسان للكبد المزروعة وكذلك الالتهابات القاتلة. ولكن ما زال هذا النوع من التبرع موضع اهتمام بالغ من قبل بعض الباحثين الذين لا يرون بارقة أمل في ازدياد عدد المتبرعين مستقبلا. وتعتبر بريطانيا من أكثر الدول تقدماً وتحمّسا تجاه هذا النوع من الزراعة.

من المصاعب التي تواجه المتحمسين انتقال عدد من الفيروسات التي لا تشكّل خطرا على الحيوان إلى الشخص المتبرع له مسببة مخاطر كبيرة وعدوى للآخرين قد ينتج عنها وباء يهدد البشرية. وكلما كثر التشابه بين الحيوان المتبرع والإنسان سهل انتقال هذه الفيروسات. وهذا بالفعل يشكّل خطراً وقلقاً بالغاً لأقارب المريض والطاقم الطبي والتمريضي المعالج. أضف إلى ذلك انه لا توجد رؤية واضحة فيما إذا كانت عملية الأيض الكبدية في جسم الخنزير تعادل نظيرتها في الإنسان. ناهيك عن أن حياة العضو المتبرع به من الحيوان قد تكون أقصر بكثير من تلك التي يتمتع بها العضو البشري, لذلك لابد من إجراء عملية زراعة أخرى لاستبدال العضو بعد انتهاء فترة صلاحيته.

ومشكلة أخرى هي أنه مع توافر أعضاء الحيوانات للتبرع سيقل حتما حماس الناس وإقبالهم على التبرع بأعضائهم, كما أن التركيز على هذا النوع من التبرع سيتسبب في هدر الأموال على الأبحاث الخاصة به وتغيير وجهة إنفاقها بدلا من تركيز صرفها في سبيل إيجاد سبل أخرى لعلاج نقص التبرع بالأعضاء.

ولكن على الرغم من كل هذه الصعوبات, يمكن قبول زراعة كبد خنزير لإنسان كحل مؤقت يقي المريض شر الموت إلى حين توافر عضو بشري مناسب.

المحكوم عليهم بالإعدام

ظهرت في بعض الدول موضة استئصال أعضاء السجناء الشباب المحكوم عليهم بالإعدام فور إعدامهم بغرض التبرع بها للمرضى المصابين بفشل الأعضاء من دول أخرى من دون معرفة ما إذا أعطى هؤلاء السجناء موافقة خطية بالتبرع بأعضائهم عن رضا وطيب خاطر. وقد وجد بعد التحقق أن هذه الأعضاء تباع ولا توهب إذ إن المستفيد (المتبرع إليه) يدفع مبلغا ماليا يتراوح ما بين 17000 و40000 دولار مقابل العضو المزروع. وطبعا لم يكن هذا مقبولا وجوبه بعاصفة من النقد والتنديد من قبل الجمعيات الطبية العالمية التي حثت الأطباء على عدم المشاركة في أعمال تجارة الأعضاء المحظورة, وعلى الرغم من هذا النقد, فإن المرضى المصابين بفشل عضو من الأعضاء ينظرون للأمر بمنظار آخر. فمادام شراء عضو بشري سيوفر للمريض حياة جديدة, فهو لا يرى بأسا من عملية الشراء هذه والتي تعارضها جمعيات التبرع بالأعضاء. لذلك نرى كثيرا من المرضى وخاصة الموسرين من مختلف الدول يشتري أعضاء من دول فقيرة تدفع الحاجة فقراءها لبيع أعضائهم عبر مكاتب سمسرة غير شرعية مقابل مبالغ مالية تسد حاجتهم. وكلنا نعلم قصة الأخوات الهنديات الثلاث اللاتي لم يستطع والدهن تأمين احتياجاتهن المالية للزفاف, فقامت كل واحدة منهن ببيع كلية لها مكنتهن من إتمام مراسم الزواج. ولكن تعميم مثل هذه التجارة سيجعل من الغني هو المستفيد الأول للزراعة, وسيكون الفقير هو الممول الرئيسي للأعضاء. وهذا من الناحية الطبية والقانونية غير مقبول البتة, ناهيك عما سيترتب على هذا من ترويج لاختطاف وسرقة الأعضاء البشرية والمتاجرة بها كما هو حاصل الآن ولكن على مستوى ضيق في بعض دول أمريكا الجنوبية.

خلايا للزراعة

أثبتت التجارب التي أجريت على الحيوانات أن خلايا الكبد يمكن استخلاصها ومن ثم زراعتها بالتجويف البطني أو في الكبد أو الطحال لتقوم بوظائفها الطبيعية في الحيوانات التي تم إعطاب أكبادها بطرق مختلفة. كما أنه يمكن تجميد هذه الخلايا وحفظها لمدة أربعة أسابيع يمكن خلالها زراعتها إذا ما استدعت الضرورة دون فقد الكثير من صلاحيتها الوظيفية.

ولهذه الطريقة فوائد جمّة إذ لا حاجة إلى عملية جراحية ولا حاجة إلى استئصال الكبد الأصلية كما أنها تزيد من استعمال العضو المتبرع به استعمالا صحيحا دون تفريط. وبالفعل تم إجراء بعض التجارب في هذا المجال على بعض المرضى بنجاح, إذ زرعت الخلايا الكبدية عبر تيار الدم الوارد إلى الكبد تحت التخدير الموضعي, مثلها في ذلك مثل زراعة جزر لانجار هانس البنكرياسية. وتستخلص الخلايا من كبد متبرع بها وتتم تصفيتها وتنقيتها ثم فحصها لمعرفة مدى صلاحيتها, ومن ثم زرعها لمريض محتاج أو حفظها مجمدة لمدة أسابيع قليلة لاستعمالها عند الضرورة. ولكن هناك بعض المشاكل التي تواجه هذه الطريقة. أهمها عدم القدرة على تخزين الخلايا لفترة طويلة والحاجة إلى كمّ هائل من الخلايا لعلاج مريض واحد. ناهيك عن صعوبة تشخيص الرفض والتكهن في عدم حاجة المريض إلى الأدوية المثبطة للمناعة. ولكن ليس هناك من مشكلة إلا ولها حل, والحلول التي يسعى الباحثون لوضعها هي تطوير السبل المتوافرة لتجميد الخلايا الكبدية وحفظها واستعمال عامل للنمو يساعد على تكاثر الخلايا, كما يمكن الآن معالجة الخلايا جينيا لكي لا يعتبرها الجسم غريبة فيهاجمها بغرض القضاء عليها. وبهذه الوسيلة لا تكون هناك حاجة إلى تعاطي المريض الأدوية المحبطة للمناعة بعد زراعة خلايا الكبد. وإذا ما أصبحت هذه الطريقة روتينية فإنها حتما ستخفف العبء الجاثم على صدر توافر الأعضاء وسيكون حلا لمشكلة شح الأعضاء وخصوصا في حالات الفشل الكبدي الحاد التي يحتار فيها الأطباء في تحديد ما إذا كان المصاب يحتاج إلى زراعة كبد طارئة أو قد يكون الفشل مؤقتا تفيق بعدها الكبد الأصلية من سباتها العميق لتقوم بوظائفها خير قيام دون الحاجة إلى زراعة مما يوفر ذلك العضو لمريض آخر هو في أمسّ الحاجة إليه.

لقد شجع هذا النجاح على التفكير بزرع الخلايا الكبدية البشرية من كبد إنسان سليم لعلاج مرضى الفشل الكبدي الحاد وبعض أمراض الكبد الأيضية. وإذا ما تم التغلب على العقبات المذكورة فسيكون هذا حلا ناجعا للنقص الحاد في الأعضاء البشرية.

أمراض الكبد المزمنة

العمل الحثيث على إيجاد علاج للأمراض التي تؤدي إلى تليّف الكبد سيقلل حتما من الحاجة إلى الزراعة مستقبلا. من أهم هذه الأمراض وأكثرها انتشارا على مستوى العالم التهاب الكبد الوبائي لفيروسي بي وسي. لقد غيّر استخدام دواء اللاموفيدين وجه زراعة الأعضاء للمرضى المصابين بهذا الوباء حتى أصبحت مراكز زراعة الأعضاء لا ترفض منحهم فرصة الزراعة للمحتاجين منهم, حالهم في ذلك حال المرضى غير المصابين. فهل سيصبح استخدامه في علاج التهاب الكبد الوبائي المزمن روتينيا? وهل سيمنع هذا الدواء تطور المرض إلى مرحلة تليف الكبد والحاجة إلى زراعة? كما أن استخدام اللقاحات الواقية ضد فيروس التهاب الكبد الوبائي B كجزء لا يتجزأ من برنامج التطعيم الوطني في كثير من الدول التي ينتشر فيها هذا الوباء سيساهم حتما في دحر هذا الداء من الوجود مستقبلا. ولاتزال البحوث جارية في إيجاد لقاح مماثل لالتهاب الكبد الوبائي C, ولا مناص من السعي الحثيث وتكثيف الجهود تجاه توفير الإمكانات والموارد لإيجاد علاج لأمراض الكبد الأخرى التي قد تؤدي إذا ما لم تعالج إلى تليف الكبد والحاجة في نهاية المطاف إلى زراعة.

الاستنساخ كحل

على الرغم من أن بعض العلماء يعتقدون اعتقادا جازما بإمكان استنساخ أعضاء الجسم البشري كالكبد وغيرها, إلا أن البعض الآخر لا يجزم بذلك ويعتقد أن هذا يعني إلى حد كبير استنساخ بشر للاستفادة من أعضائهم, وهذا في حد ذاته يشكّل عبئاَ أخلاقيا كبيرا على هذا النوع من الأبحاث. ولكن النقص الحاد في توافر الأعضاء سيفتح المجال واسعا أمام المؤيدين للاستنساخ ولو لم يكن هناك تصريح رسمي في الشروع به.

وكبديل لاستنساخ البشر للاستفادة من أعضائهم يقترح بعض الباحثين إنشاء بنوك تحفظ بها خلايا المنشأ Stem Cells التي تنمو تحت ظروف معينة إلى أنواع مختلفة من الأنسجة, ويمكن الحصول على هذه الخلايا من الحبل السري الذي يحتوي على نحو 15000 نوع من الأنسجة البشرية. وينصح المعارضون للاستنساخ بضرورة دعم وإجراء أبحاث علمية للتعرف على كيفية الحصول على أعضاء كالكبد والكلى والقلب وغيرها من الأنسجة من خلايا المنشأ هذه للاستفادة بها في الزراعة للمحتاجين دون اللجوء إلى الاستنساخ.

وماذا بعد?

فزراعة الكبد التي خرجت من حيّز التجارب, أصبحت اليوم العلاج الناجح والوحيد لعدد كبير لا حصر له من أمراض الكبد المزمنة. ولكن النقص الحاد في عدد الأعضاء المتبرع بها والذي صاحب هذا النجاح الكبير أصبح حجر عثرة في طريق تقدم زراعة الأعضاء, ودون التبرع المستمر بالأعضاء يبقى علم زراعة الأعضاء علما لا نفع منه لآلاف المحتاجين من المرضى الذين قد يموت معظمهم وهم ينتظرون ما لم تتوافر لهم سبل أخرى لإبقائهم على قيد الحياة مثل الكبد الصناعية والتبرع من إنسان حي أو طرق أخرى تعوض عن الحاجة إلى التبرع البشري.

 

عبدالواحد نصر المشيخص







موقع الكبد بالنسبة لأعضاء الجسم الداخلية