الإنسان والبيئة

الإنسان والبيئة

خمسة عقبان عربية قد تذهب ولا تعود!

والحقيقة التي يجب أن نبدأ بها هذا الحديث, أن الطيور - بصفة عامة - تعاني اضطهاداً بشرياً مستمراً, إذ يلاحقها الإنسان بأعمال الصيد الجائر, ويسلبها موائلها الطبيعية, ولا يتوقف عن تلويث البيئة, فيمتد هذا التلوّث إلى غذائها, ويضر بحيويتها. إذن, فليست هذه العقبان العربية الخمسة, فقط, هي التي يهددها خطر الانقراض, فهذا التهديد ينسحب, بدرجة أو بأخرى, على أنواع أخرى عدة من الطيور, في البر والبحر, غير أننا نكتفي, في هذه العجالة, بالتنبيه إلى موقف هذه العقبان الخمسة, وهي: عقاب السمك الإفريقي, أو (الصيّاح) - عقاب البحر أبيض الذيل - العقاب قصير الإصبع - البهلوان - العقاب الأرقط.

والأمر الجدير بالملاحظة, أن هذه العقبان عربية, ولكن (لبعض الوقت), فهي تعيش في السماوات وعلى الأرض العربية جانبا من السنة, هو فصل الشتاء غالباً, مهاجرة من الشمال الأوربي والجنوب الإفريي. من هنا, فإن أي جهود تبذل لصون هذه العقبان, يجب أن تتركّز في بلدان النشأة, بمساعدة مناطق الهجرة العربية.

وبالرغم من أن هذه العقبان تزور بلادنا شتاء, فقط, فقد أصبحت جزءا من منظومة البيئة العربية, وقد يؤثر غيابها في اتزان هذه المنظومة, فالعقبان طيور غير اعتيادية, لها وضعها الخاص في عالم الطيور البرية, إنها - إذا جاز التعبير - طيور فاخرة, ذات أحجام ضخمة, ولها مظهر جليل مُهاب, انظر إلى منقار العقاب, تجده مقوّسا, كحال المنقار في كل الجوارح, غير أنه يتميز, في العقبان, بالطول الاستثنائي والعمق, مما يوحي بحجم فرائس هذه الأنواع من سباع الطيور. كما أن لعيون العقبان تأثيرها البالغ في ترسيخ هيبتها, وهي, في الغالب, ذهبية اللون, ذات حجم نسبي كبير, متّسعة, لا تكفّ عن التحديق. وهي لا تعطي إحساساً بالراحة, بل توحي بالجهامة, فالعقبان طيور عابسة الوجه, وربما كان ذلك بتأثير من البروز الذي يعلو العين, ووظيفته الأساسية حمايتها. فإذا تركنا الوجه, إلى القدمين, قابلتنا مواطن القوة الأكبر في العقبان, وتتركّز في البراثن القوية الطويلة, إن أطول مخالب القدم في العقاب هو مخلب الإصبع الخلفية, الذي يتيح للعقاب أن يحكم قبضته على الفريسة, مهما كبر حجمها. وثمة من يذهب إلى القول بأن هذا المخلب هو سرّ بقاء العقبان في خريطة الحياة, حتى الآن, بالرغم مما تواجهه من ظروف معاكسة. إن مثل ذلك المخلب الخلفي, مثل إصبع الإبهام, الذي بفضله تمكن الإنسان من إحكام قبضته على الآلة وإقامة الحضارات. ولدراسة كيفية علم هذه البراثن القوية, قام العلماء بتصوير عقاب ينقضّ على فريسته, ثم عرضوا الشريط عرضا بطيئا, فظهر العقاب وهو يدفع قدمه, بقوة, للأمام, يضرب الفريسة, التي تنهار من هول الضربة, التي تساوي قوتها محصّلة قوة اندفاع القدم, وسرعة طيران العقاب.

وبالرغم من هذا السلاح الفعّال, الذي يجعل بمقدور العقاب أن يحصل على فريسة, من أجل الطعام, في أي وقت يشاء, فإن العقبان, بصفة عامة, لا تشغل نفسها بالقنص وقتا طويلا, إذ إن عملية صيد واحدة توفّر لها طعاما يكفيها عدة أيام, فالعقبان - بطبعها - غير أكولة, وعلى سبيل المثال, فإن نوعا من العقبان, هو (الذهبي) يعيش على ما يزن 200 رطل من اللحوم, في العام!

وأول عقباننا الخمسة, هو عقاب السمك الإفريقي, الشهير بالصياح, وهي شهرة فرضت نفسها على التسمية العلمية للعقاب, فأخذت الشقّ الثاني منها (هالييتاس فوسيفير), إنه لا يكفّ عن الصياح بينما يحلّق, طيلة النهار, فوق المسطحات المائية, ويقال إن صيحاته أخّاذة, وهي تزداد حدّة باقتراب موسم التزواج, ويعيش العقاب الصيّاح في المناطق التي تقترب فيها حدود الغابات من المياه (أنهار - بحيرات - محيط). ويرصد عقاب السمك الإفريقي فرائسه من الأسماك, وهو محلّق فوق سطح الماء, أو من مجثمه على فرع شجرة قريبة من المياه, فإذا كان سابحا في الهواء,فإنه ينقضّ بسرعة, ويغوص وراء السمكة, ليقبض عليها, ويخرج بها من الماء. فإذا كانت السمكة كبيرة, (أكثر من كيلوجرامين وزناً), فإن براثنه تقبض عليها, ولا تفلتها, وهي تسحبها فوق الماء, إلى أقرب صخرة أو شجرة, حيث يرفعها العقاب على مهل, ويبدأ في التهامها, ولا يفرّط هذا العقاب الإفريقي في سمكة يصطادها, حتى وإن كانت ثقيلة جدا, ومهما حاولت الإفلات بالغوص في الأعماق, حتى أن رواية إفريقية عنه, تقول إنه (يغرق ولا يخسر سمكة)!

ومشكلة عقاب السمك الإفريقي, أنه آكل أسماك, إذ يمثل السمك 90% من غذائه, في بيئة مائية يضربها التلوث بالكيماويات الصناعية والزراعية, وهي تدخل إلى المسطحات المائية, التي تعيش فوقها وإلى جوارها, وتستقر في لحوم فرائسه من الأسماك, فتنتهي إليه بتركيزات عالية, تؤثر في حيويته, وتنتهي بإهلاكه. ومن غير المنتظر أن تنتهي هذه المشكلة, في المدى المنظور, بل إنها تتفاقم, مع طموح خطط التنمية, في كل من دول الشمال التي يهاجر إليها, ومناطق الجنوب, مستقرّة, فكلها دول نامية, يتزايد نشاطها الصناعي, ومعه أعباؤه البيئية.

أما العقاب الثاني, فهو (عقاب البحر, أبيض الذيل), أوربي المنشأ, وكان واسع الانتشار, في القرن التاسع عشر, إلى أن تضخم نشاط تربية الأغنام, وشاع أن هذا العقاب يسرق الغنم, فبدأت مطاردته, لاقتلاعه من بيئته الطبيعية, التي احتلتها مزارع تربية الأغنام, وكابد العقاب عمليات إبادة شبه منظمة, من قبل أصحاب ذلك النشاط الدخيل. وقد انضم إلى تلك العمليات تجّار البيض والجلود, فشجعوا الصيادين, حتى أوشك عقاب البحر أبيض الذيل, المتهم ظلما, أن يختفي تماما من خريطة الحياة.
وتجري, في الوقت الراهن, محاولات لاستعادة هذا العقاب في بيئاته الطبيعية بأكثر من بلد أوربي, وعلى سبيل المثال, فقد حصلت أسكتلندا من النرويج على أربعة عقبان صغيرة, وأطلقتها في المنحدرات والمرتفعات المطلة على البحر, في محاولة لإعادة إعمار هذه المرتفعات بهذا النوع من العقبان,والمعروف أن النرويج تمتلك أكبر تجمع من عقبان البحر بيضاء الذيل في أوربا, ويصل تعداده إلى أربعمائة زوج.

والعقاب الثالث هو (قصير الإصبع), وهو من طيور البرية التي تتخذ من وسط أوربا مركزاً لوجودها, والتي تعرّضت لاضطهاد شديد, بالرغم من أنه يفترس الثعابين, فكان الأجدر به أن يلقى من العامة تشجيعاً (وإن كانت هذه الإشارة يجانبها الصواب من وجهة النظر البيئية), وعلى أي حال, فقد طورد في كل موائله المعروفة, ثم جاءت تقانيات الزراعة الحديثة, من آليات ومبيدات ومخصبات تربة, فزادت من أثقال الاضطهاد, عندما أضرّت بتجمعات الثعابين وغيرها من الزواحف, التي كان يأكلها هذا العقاب ذو الإصبع القصيرة. وبعد أن كان واسع الانتشار, تراجعت أعداده إلى ما يقرب ثلاثة آلاف زوج, في إسبانيا, بالإضافة إلى أعداد قليلة, في أماكن متفرقة بوسط أوربا.

العجيب من أمر هذا العقاب, الذي اختار الثعابين طعاما له, أنه غير محصّن ضد سموم الأفاعي, ولم يمنعه ذلك من الإقبال عليها, مطمئنا إلى غطاء كثيف من القشور, يحمي قدميه من اللدغات القاتلة, بالإضافة إلى سرعته الفائقة في الانقضاض, ومهارته الخاصة في إحكام قبضته القوية القاتلة على فريسته, فلا يتيح لها أي فرصة لاستخدام أنيابها السامة. ويقوم العقاب قصير الذيل (سيراسيتاس جالليكاس) - مثل غيره من عقبان أوربا - برحلة هجرة, خلال موسم الشتاء, عبر البحر المتوسط, إلى الشمال الإفريقي, وتمتد رحلة العودة من منتصف مارس إلى منتصف أبريل.

والبهلوان, هو العقاب الرابع.. واسمه العلمي (تيراثوبياس إكوداتاس), وقد وصفه عالم التصنيف الفرنسي (لوفيلان) بالبهلوان, لمّا رآه لأول مرة, وكان يقوم بحركات بهلوانية رائعة في الفضاء. أما قبائل (الزولو) الإفريقية, فتعرفه باسم المحارب, ولديها حكايات موروثة عنه, مرتبطة بالقتال والموت, وله اسم ثالث, عند مجموعة أخرى من القبائل الإفريقية, مضمونه هو (آكل المحاربين) - وهو اسم يلخص الدور البيئي (المهم) الذي يقوم به هذا العقاب - وذلك لأنه يأكل الحيوانات الميتة, فينتظر حتى تنتهي المعارك, ليأكل جثة المحارب الخاسر!

والأخير, هو العقاب الأرقط (أكويلا كلانجا), والحقيقة, أن صفة (أرقط) لا تنسحب - واقعياً - على هذا العقاب في كل مراحله العمرية, فهو أرقط في مرحلة ما قبل البلوغ, فقط, غير أن الاسم التصق بالعقاب في عموم أطواره. والموئل الأم للعقاب هو غابات الأغوار في وسط أوربا, حيث يتزاوج ويربي صغاره, ثم ينزح لأكثر من مشتى في الشمال الإفريقي والشرق الأوسط. وهو لا يميل إلى الوجود في تجمعات كبيرة, بل يعيش متناثراً في مساحات كبيرة, وربما كان ذلك وراء تأخر الإحساس بالتناقص في أعداد هذا العقاب, حتى أنه أصبح من الكواسر نادرة الوجود, واستتبع ذلك إدراجه في قائمة الكائنات الحية التي يهددها خطر الانقراض.

شعلة قمة الأرض!
من (ريو) إلى (جوهانسبرج)

في تقليد شبيه بما يحدث في دورات الألعاب الأولمبية, جرت في (ريو دي جانيرو) مراسم تسليم شعلة قمة الأرض إلى البلد المضيف, (جوهانسبرغ), عاصمة جنوب إفريقيا.

أقيم حفل انتقال الشعلة بمتحف الفن الحديث, بحديقة الفلامنجو, في وسط العاصمة البرازيلية, حيث سلّم الرئيس البرازيلي (كاردوسو), الذي استضافت بلاده القمة الأولى, بالعام 1992, الشعلة إلى الرئيس الجنوب إفريقي (مكيبي), الذي تستضيف عاصمة بلاده القمة الثانية, في الفترة من 26 أغسطس إلى 4 سبتمبر 2002. وشهد الحفل رئيس وزراء السويد, ممثلاً لبلاده, التي احتضنت عاصمتها في العام 1972 أول تجمع رئاسي لتدارس أحوال التنمية في العالم.

ومن المنتظر أن يشارك في قمة جوهانسبرج حوالي 65 ألفاً من الرسميين الدوليين, ومن المهتمين بشئون البيئة والتنمية, في مراكز البحوث والجامعات والمنظمات والجمعيات الأهلية في العالم, مما يجعل من هذه القمة أضخم مؤتمر جرى على أرض القارة السوداء, في تاريخها.

وقد خيّم على هذا الاحتفال جوّ من التشكك والتخوف من ألا تحقق القمة المرتقبة نتائج جوهرية, ينتظرها مئات الملايين من البشر, إذ إن الخلافات بين مجموعات الدول تبدو عميقة, والمصالح متصادمة. وقد ساعد على تجسيم هذا الشعور بالقلق إزاء قمة الأرض الثانية ما حدث في الاجتماعات التحضيرية الأربعة التي سبقت انعقاد القمة, والتي جرت على المستوى الوزاري, بجزيرة (بالي) الإندونيسية, حيث برز العديد من المشاكل, مما جعل من عملية إعداد (أجندة) القمة مهمة صعبة للغاية, وكانت أكبر العقبات متعلقة بالمسائل التجارية والتمويلية, الخاصة بخطط التنمية وبرامج صون البيئة.

كائنات تشاركنا البيئة
عقرب والعياذ بالله!

العقرب, ذلك الكائن المفصلي, ذو الكلاّبات الحادة والإبرة الشيطانية اللادغة, والأرجل الثماني, التي يتسلل بها إلى المواقع المظلمة, حيث يكمن بانتظار ضحاياه. إنه تجسيد لكابوس دائم يصيب البشر, في كل أنحاء العالم, بالهلع, وهو يحتل المرتبة الثالثة, بعد الثعابين والنحل, من حيث عدد البشر الذين يروحون ضحايا لدغاته القاتلة.

وبالرغم من أن خبرة البشر بالعقارب ضاربة في عمق التاريخ, فإن معلوماتهم المحققة عنها كانت, حتى وقت قريب, قليلة, وذلك لأنها - العقارب - نجحت في إخفاء نفسها بعيدا عن متناول البشر, فاختارت أماكن معيشة منوعة وغريبة, وكان العلماء يطاردونها تحت الصخور, في أوقات النهار فقط, وكانوا يعجزون عن الوصول إلى الأنواع التي تعيش في عتمة شقوق الصخور, وتحت الرمال, حتى اكتشف عالم الحشرات الأمريكي (ستان ويليامز) في العام 1968, خاصية توهج جسم العقرب تحت الأشعة فوق البنفسجية. وكان مردود هذا الاكتشاف أن ارتفع عدد أنواع العقارب المعروفة للعلماء, في الولايات المتحدة الأمريكية, فقط, من 38 إلى 92 نوعا. والجدير بالذكر, أن عدد الأنواع المعروفة, في العالم, يبلغ 1500 نوع. وبالرغم من كبر هذا الرقم, فإن بعض العلماء يراه نصف الرقم الحقيقي, وذلك لأن عمليات الكشف عن العقارب باستخدام مصابيح الأشعة فوق البنفسجية, المعروفة حاليا باسم مصابيح الضوء الأسود, ظلت مقصورة على مواقع قليلة متفرقة في العالم, بالرغم من مرور ربع قرن على اكتشاف هذا الضوء.

لقد كانت الأجداد الأولى للعقارب تعيش في البحار, وكانت تصل إلى ثلاث أقدام, طولا, وتتخذ أشكالا مرعبة, ويبدو أن ثمة ظروفا دفعتها إلى هجرة حياة البحر والصعود إلى اليابسة, منذ ما يقرب من 350 مليون سنة. وقد تطلّبت حياة اليابسة أن تتهيّأ لها العقارب, باكتساب عدد من القدرات الخاصة, وببعض التحورات في التركيب والهيئة, فاستغنت عن الخياشيم وامتلكت رئات, ودرّبت أطرافها حتى صارت للمشي بدلا من السباحة, غير أن أهم الصفات التي اكتسبتها العقارب, ومكّنتها من الاحتفاظ بموقعها في خريطة الحياة على سطح الأرض, فلم تنقرض, بالرغم من تعدد الأخطار التي تواجهها, وهي أخطار أدت إلى انقراض عديد من الكائنات الأخرى. أهم هذه الصفات المكتسبة, هي قدرتها على التحكم في عملية التحول الغذائي, وبالتالي, صون ما تتحصّل عليه من كميات الطاقة, وتنظيم استهلاكها, تحسباً لظروف شحّ الغذاء, التي ترغمها على الصوم زمنا قد يطول إلى سنة كاملة!

بالإضافة إلى ذلك, فإن صغار العقارب تخرج إلى الحياة على درجة عالية من القدرة على تحمّل مسئولياتها, بعد فترة احتضان ورعاية طويلة, في كنف الأمهات, إنها تتجمع فوق ظهر الأم, لأيام عدة, وربما لأسابيع, تستهلك خلالها المواد الغذائية المختزنة في أجسامها الهشة, وتمتص من الأم ما تحتاج إليه من الماء.

الأكثر من ذلك, أن العقارب اكتسبت قدرة فائقة على التأقلم والاستجابة للمتغيرات البيئية, فهي تتحمل العيش في الموائل المتباينة, في كل قارات العالم, عدا الأنتاركتيكا, فتجدها في أشد صحراوات العالم جفافا, وتحت الصخور المغطاة بالثلوج, على ارتفاع 14 ألف قدم, في جبال الهيمالايا, كما رُصدت أنواع من العقارب تعيش في كهوف على عمق نصف ميل, تحت سطح الأرض. وتصل قوة تحمل العقارب إلى حد مقاومة ظروف التغيرات واسعة المدى في درجات حرارة الوسط المحيط بها, من بضع درجات تحت الصفر, إلى 50 درجة مئوية, كما أن ثمة أنواعا تعيش قرب الشاطئ, ويمكنها تحمّل الحياة وهي مغمورة تماما بمياه البحر, لمدة يومين كاملين! وأخيرا, وليس آخرا, فقد لوحظ أن العقارب لا تتأثر عند تعرضها لجرعات مكثفة من الإشعاعات!

وتشتهر العقارب بأنها تأكل بعضها بعضا, وهو سلوك يراه نفر من علماء سلوكيات الحيوان وسيلة للتغلب على قسوة الظروف المعيشية التي تحياها العقارب, فهو (قارب النجاة) إن ضاقت عليها سبل العيش, ومن ناحية أخرى, فإن هذا السلوك - في ذاته - هو أداة لتشكيل تجمعات العقارب, حسب الفئات العمرية, فالعقارب الأحدث تضطر إلى تكوين تجمعها الخاص, المنفصل والمتباعد عن تجمع العقارب الكبيرة, من الآباء والأعمام, المتربصين بهم. كما أدى هذا السلوك إلى تنظيم أنشطة الصيد, بحيث يخرج الصغار لاقتناص الغذاء في أوقات مختلفة عن مواعيد الكبار, فلا يدخلون معهم في منافسة يخسرونها دائما, وقد يتحول الكبار إليهم, إذا عزّت الفرائس وندرت, ضاربين عرض الحائط بأواصر القربى!

وترصد العقارب أعداءها وفرائسها عن طريق المويجات الاهتزازية التي تصدر عن حركتها, ويمكنها التقاط هذه المويجات, من على بعد لا يزيد على قدم واحدة, عندما تنتقل إلى شعيرات حسّية, منتشرة على أقدامها, فتحدث الاستجابة, في جزء من الثانية, فتحدد اتجاه مصدر الحركة, وتتأهب العقرب, فتشرع سلاحها المميت - الإبرة السامة - في انتظار الضحية.

وتعيش العقارب في جحور تحفرها بنظام هندسي خاص, وعندما فكر الباحثون في استكشاف نظام هذا الجحر, صبّوا فيه رصاصا مصهورا, وانتظروا حتى برد وجمّد, فرفعوه, ووجدوه على هيئة حلزون نازل, بارتفاع تسع بوصات, وانتهى الباحثون إلى أن هذا الجحر ضروري جدا لحماية العقرب من جفاف البيئة الصحراوية, ومن الأعداء الطبيعيين... إذ إن كثافة توزيع العقارب في تلك البيئة تعد عالية, فثمة عقرب واحد في كل مترين مربعين, ومع هذه الكثافة, يصبح العقرب صيدا سهلا مؤكدا لبعض أعدائه, مثل السحالي وصغار الحيوانات اللبونة والبوم, بالإضافة إلى الأنواع ذات الأحجام الأكبر, من العقارب نفسها, فإذا لجأ العقرب إلى جحره, عزّ على أعدائه.

كما وجد العلماء أن عقارب الرمال تقضي 92 إلى 97 بالمائة من حياتها بالجحر, فهي لا تكاد تبارحه, إلا للضرورة القصوى, بحثا عن طعام, أو طلبا للزواج, فإن هي خرجت مرة ومرات, دون أن يصادفها طعام, فلا غضاضة, فهي ترتد إلى جحرها في لحظات, ولكنها تحتاج إلى تأمين خروجها من الجحر الحصين في رحلة الحب والزواج, فكيف يتأكد العقرب الذكر من وجود العقرب الأنثى بالخارج, ليتم الزواج?

اكتشف العلماء أن العقرب ينفرد بوجود زوج من الزوائد البطنية, كأنها أرجل ضامرة, تغطيها مصفوفات من شعيرات حسّاسة. ويعتقد العلماء أن هذه الزوائد الفريدة قد تطورت إلى قرون الاستشعار في الحشرات. وفي موسم التزاوج, ترسل العقرب الأنثى, طالبة الزواج, رسالة كيماوية, فتترك وراءها إفرازات خاصة, يقال لها (الفيرمونات), فإذا خرج الذكر من مكمنه, بحثا عن طعامه, فإنه يمسح المنطقة حول جحره, مستخدما زائدتيه البطنيتين, فإذا صادف الفيرمونات, أحسّ بها, ووصلته الرسالة, التي يفهم منها أن ثمة عقربا أنثى, تنتمي لنفس نوعه - وهذا مهم جدا - وأنها على مقربة منه, وتنتظر أن يتقدم, ويخطب ودّها! ويستجيب العقرب الذكر لرسالة أنثاه, فتنتابه موجة ارتعاشات, ويضطرب أسلوب حركته, فينتقل الإحساس بهذه الحركة غير العادية, عبر الرمال, إلى الأنثى, فتدرك أن (رجلها) بالقرب منها, وهو في الطريق إليها, وقد اختارها أمّا لأبنائه!

الجدير بالذكر, أن الفيرمونات, وسيلة الاتصال بين العقارب, هي خليط من مواد كيماوية, يختلف تركيبه بين أنواع العقارب, فلا يستطيع عقرب من نوع ما أن يحل رموز شفرة فيرمون أنثى من نوع مختلف, ولولا هذه الخصوصية لاستخدمت الإناث من أنواع العقارب الكبيرة فيرموناتها للإيقاع بذكور العقارب الصغيرة, لا للزواج, ولكن للافتراس!!

 

رجب سعد السيد







آكل الثعابين





العقاب الأرقط





شعلة قمة الأرض





 





أنثى العقرب