البريء... ومضة في حياتنا السينمائية

البريء... ومضة في حياتنا السينمائية

يظن كثير من الناس أن التصوير السينمائي مجرد تنفيذ آلي لخطوط عامة, ومن ثم تكون آلة التصوير هــــي البطل الحقيــــــقي فــــي العمل ولاتكاد تــــــكون في حاجة إلى إبداع الإنســــان. لكـــن هذه الوقفة من مصور سينمائي عربي معروف, أمام ذكريات أحد الأفلام التــــــي صورها للمخرج الراحل عاطف الطيب, تكشف كمّ العناء والمتعة في إنجاز معادل موضوعي لفلسفة يكاد يختص بها كل مشهد من مشاهد هذا الفيلم العلامة.

ربما يكون فيلم (البريء) واحداً من الإبداعات الفاصلة المتوهجة بالعطاء للمخرج الراحل عاطف الطيب, الذي كان لي شرف المشاركة كمصور في عدد من أفلامه وعلى رأسها هذا الفيلم.

هموم الوطن, وجسور الثقافة, ومعاناة الجيل نفسه, والرؤية الفنية ربما تكون مما يوحِّد بيني وبين الطيب, وفي أحاديث عديدة له عبّر عن ذلك الاشتراك في المفهوم بيننا كرؤية الفيلم بذلك الشكل البصري التعبيري الذي يعطي للصورة السينمائية تلك المصداقية والتي لها فعل السحر على الجمهور.

لم أحب فيلما من الأفلام التي صورتها كما أحببت فيلم (البريء) وربما هو أحب فيلم لكل العاملين فيه وقتها, فهو فيلم يثير في نفسي شجناً خاصاً وحباً حقيقياً لا أعلم سره.

وهذا الحب ظهر على الشاشة, وكان عاطف الطيب في أعظم حالاته الفنية تألقا وأكثرها نشاطا, حيث لم يكن المرض قد ظهر أو أثّر فيه بعد.

بعد التقاء السيناريست وحيد حامد وعاطف الطيب في فيلم (التخشيبة) أصبحا صديقين, وكان سيناريو (البريء) هو لقاءهما الثاني, ووحيد حامد من أبرع كتّاب السيناريو في مصر من ناحية الحرفة الفنية واختياره للموضوع. وبالتالي كان (البريء) يحمل فكراً عالمياً فهو لا يتحدث عن مصر بالذات, وإن كان جو الفيلم مصريا, بل يتعرض لقضية جوهرية هي قهر الفكر الحر في الإنسان وإذلاله وتسخيره لغرض ضد إرادته الحرة.

والمخرج السينمائي الواعي, مثل عاطف الطيب, عندما يختار نصا ما ليحوله إلى فيلم, فإن هذا الاختيار يحمل لا شك فكره, والتعبير عن آمال في نفسه تنتمي إلى آمال الإنسانية ككل, وربما هذه الآمال تبغي الهروب من الواقع المر, أو تطمح إلى محاولة التغيير إلى الأحسن, وكانت محاولات التغيير إلى الأحسن هي هدف عاطف الطيب في هذا الفيلم وفي أغلب أعماله التي بلغت خلال خمسة عشر عاما - عطاء كل عمره الفني - واحداً وعشرين فيلماً سينمائياً.

مفهوم اللقطة

في أولى جلسات العمل مع عاطف قبل التصوير وبعد قراءتي للسيناريو ومعرفتي بأن البطولة لأحمد زكي ومحمود عبدالعزيز, تكلمنا في المفهوم البصري للفيلم, حيث كان هذا الفيلم يختلف كليا عن الأفلام التي صنعناها معا من قبل وكانت في أغلبها تدور في جو مدينة القاهرة بشوارعها وزحامها مثل (سواق الأتوبيس) و(التخشيبة) أو حتى فيلم (الغيرة القاتلة).

هذا الفيلم (البريء) هو علاقة تنقُّل بين جو الريف والصحراء وما وراء القضبان أي السجن, وكان المردود البصري الذي تناقشنا وتكلمنا فيه عما يعني الريف وما تعني الصحراء?

ولقد وصلنا إلى منظومة مفاهيم بصرية كانت واضحة جدا في الفيلم وهي تعني الحرية أي اللقطات الواسعة البانورامية Landscape Shots وبالذات في رؤية الأماكن الطبيعية في الريف والصحراء وساحات السجن مثل بداية الفيلم واللقطات الواسعة في القرية وتفاصيل الحياة بها مع شخصيات أبطالنا أو الانتقال من اللقطة الخارجية الضيقة إلى الواسعة جدا حين ترى الكاميرا ثعبانين يتحركان على الرمال, ثم ترتفع إلى أعلى أسوار السجن المهيب الشاهقة, وجندي الحراسة يتحرك مع كلب بوليسي مدرب جهة اليسار من الصورة, أو نرى في لقطة عامة واسعة عربة الترحيلات تصل إلى الساحة الخارجية للسجن ومع حركة السيارة تتحرك الكاميرا أفقيا - حركة ألبان السينمائي - لنرى جندي الحراسة يتابعها بنظرة ثم ينظر إلى أسفل لنرى قدمه تقتل وتهرس عقرباً ساماً بينما هو في هذا البرج العالي, أي أن الخطر موجود في كل مكان وليس متمثلا في الحراس والكلاب فقط ولكن يتحرك جندي الحراسة في أعلى خزان مياه السجن لتتحرك معه الكاميرا لتكتشف في لقطة في غاية الاتساع السجن بالكامل, أو ترى عربة القمامة وهي تتحرك في لقطة عامة وهي في منتصف الصورة كنقطة سوداء صغيرة وتقترب رويدا رويدا حتى تصل إلى أمامية الصورة بهذا الحجم الكبير في مشهد هروب السجين الكاتب صلاح قابيل. أو حين تستعرض الكاميرا جامع بن طولون لتصل إلى شرفة الطالب الجامعي الثوري ممدوح عبدالعليم في سطح منزله لنجده يخط مجلة الحائط التي سيعلقها بعد ذلك في كليته.

أو تلك اللقطات الساحرة بجانب القطار وتستعرض الكاميرا القطار وهو يسير بقوة كثعبان حديدي صلب قوي يطوي الأرض, ثم تتحرك الكاميرا ملتفة في بانوراما كاملة إلى الحقول الخضراء على جانبي القطار والتي تحمل كل هذه الراحة وجمال الطبيعة وبساطة الريف, وتواصل الكاميرا دورانها لتصل إلى مقدمة القطار والخطوط الحديدية التي تنهب الأرض نهباً كناية عن البعد عن الحياة الوديعة نفسها.

والفيلم مليء بمثل هذه اللقطات المبنية على مفهوم الاتساع وما يعنيه من حرية بصرية ونفسية, وهذا ما اتفقنا عليه كمفهوم بصري عام للصورة من حيث المضمون والشكل.

نوعية الإضاءة

كان مفهوم الصورة في بعض المشاهد يحمل معنى الواقع المرئي في الليل, سواء في القرية أو المدينة أو السجن, فبينما كانت ظروف الحقيقة تفرض أن يكون الليل مظلما في القرية - مشاهد أحمد زكي مع ممدوح عبدالعليم وغيرهما - كان ليل المدينة مبهجا مع مشهد محمود عبدالعزيز وابنته وشراء الهدية لحفلة عيد الميلاد لأصدقاء ابنته, أما السجن ليلاً فكان منيراً بشدة, لواقع الحراسة واليقظة, وتتحرك فيه إضاءة بعض اللمبات ماسحة المكان يميناً ويساراً حتى في أماكن الإنارة العالية, أي أن مكان السجن مضيء إضاءة القهر وليس إضاءة الحب والجمال أو إضاءة الرؤية الصحيحة الطبيعية أو حتى إضاءة الواقع, كانت المبالغة في الإضاءة للسجن تحمل هذا المفهوم.

وفي مشاهد أخرى في واقع الحياة كانت الإضاءة تحمل معنى دفء الأسرة والحياة وخاصة مشهد جلوس أحمد زكي مع أمه وأخيه المتخلف يأكلون (الفرخة) في منزلهم بالقرية أثناء إجازة حصل عليها بعد قتل (عدو الوطن) صلاح قابيل, كانت الإضاءة هنا فيها الكثير من اللون الوردي الفاتح بما تحمل من شعور الدفء المرئي الذي يعتمد في مصدره في الإضاءة من خلف الأجسام - كونتر - وفي الوقت نفسه تحمل درجة خفوت إضاءة المنازل الريفية المصرية, وبعكس إضاءة حفلة عيد الميلاد التي حضرها الضابط الكبير مأمور السجن محمود عبدالعزيز مع ابنته ولعب معها دور الحاوي فكانت إضاءة تحمل نوعا آخر من دفء العلاقات الأسرية من المدينة ولكنها أكثر سطوعاً, وألوانها زاهية وتختلف تماماً عن المنزل الريفي للأسرة البسيطة.

وأتذكر أن عاطف كان يصر على اختيار شكل الأطفال الذين تم تصويرهم في حفل عيد الميلاد وأن يكونوا أصحاء ذوي مظهر جميل, وقد طلب مني أن أحافظ بشدة على جمالهم ورونقهم في الصورة, لإعلاء التباين بين ما يحدث هنا, وهناك في السجن بعد ذلك من الضابط.

تنويعات الإضاءة في الفيلم كانت ذات مضامين تشتط أحيانا في تعبيرية ذاتية بنا - كمخرج ومصور - ولكن في أغلبها تجنح إلى الواقع بشكل يجعل للحدث مصداقية, وهذا يظهر بشكل واضح في مشهد حجرة الحجز التي وضع بها السجين والسجان معا - أحمد زكي وممدوح عبدالعليم - فإضاءة الاثنين كانت ناصعة مع ظل قضبان القفص الحديدي, بينما إضاءة الضابط محمود عبدالعزيز مع زبانية التعذيب كانت قاسية حين يحمل الوجه في أحد جوانبه سواداً شديداً, وفي الجانب الآخر لسعة ضوئية جانبية آتية من مصدر الشباك نفسه وبذلك أصبحت الوجوه مثل عفاريت الظلام في مقابل إضاءة السجينين اللذين يغلب عليهما نقاء اللون الأبيض برغم خطوط ظل الحديد على الحائط.

ولقد وضعت بيدي بعد موافقة عاطف على خلفية الحائط بجوار الممثلين بصمة تاريخ 1978 وجعلت رقم (8) لا يرى إلا بسيطاً وعند تأكيد وتدقيق النظر, وذلك حتى لا يكون الفيلم زمنيا في المجهول, ولقد اتبعت في بعض المشاهد أسلوب الإضاءة الحقيقية ولم أضئ أي لمبة صناعية غير إضاءة المكان الحقيقية مثل عنابر الكشف الطبي في مركز تجميع التجنيد, أو عمل إضاءة ملائمة في حجرات الكشف على النظر أو البدن أو التصوير الفوتوغرافي, أو جعل التوازن الضوئي واللوني مقبولا, أو أقل من مستوى الإضاءة في المشاهد داخل عربات القطار أو الترام وسيارة السجن حين يتحرك فيها أحمد زكي من الخلفية إلى المقدمة ليشاهد مبنى السجن لأول مرة.

ومن الأمور التي أتت مصادفة وأفادتنا كثيرا بداية مشهد خروج المسجون صلاح قابيل وركوبه سيارة النفايات من مطبخ السجن وهو مشهد هروبه, حيث كان التصوير في الصباح الباكر وكانت بداية تشغيل الفرن الخاص بالسجن وبالتالي يخرج من مدخنة المطبخ دخان أسود كثيف يرمي بظلاله الداكنة على المكان, وكأنه تمهيد درامي مأساوي لما سيحدث بعد ذلك من قتل للمفكر والكاتب الهارب, وهذا أسلوب عريق في الآداب حين تشترك الطبيعة مع الإنسان في هموم الحدث, وإن كان قد أتى مصادفة ولكننا رحبنا بهذا المفهوم وأعطى للمشهد بعداً درامياً رائعاً.

امتاز الفن السينمائي بأنه فن الحركة, بعد سكون الفنون التشكيلية لقرون, حتى إن كانت تعطي ذلك الإحساس الحركي, وعاطف الطيب من المغرمين بحركة الكاميرا المعبرة بمعنى وبسبب. ويعشق كثيرا الحركة الحرة للكاميرا السينمائية - أي المحمولة أثناء التصوير باليد - وربما لهذا السبب اختارني كمصور لأول أفلامه الروائية وبقينا معا لثمانية أفلام.

والحركة في الصورة السينمائية سواء للكاميرا أو الأشخاص والكتل تكون مسئولة إلى حد بعيد عن إيقاع الفيلم, ويضبط ذلك الإيقاع بإتقان فنان التوليف (المونتاج) وهو فن مهم جدا للحفاظ على النبض الحي للحدث الدرامي وقوة تدفقه بشكل مؤثر.

وحين بدأت العمل في هذا الفيلم كانت الكاميرا الخفيفة نسبياً التي اعتدت العمل بها IIc قد أصبحت قديمة وصورنا الفيلم بنوع آخر من الكاميرات الأحدث BL التي هي كاتمة للصوت في الوقت نفسه ولكنها أثقل وتحمل على الكتف واليد معا بعكس الكاميرا القديمة التي تحمل على اليدين فقط. وأنا معتاد عليها ومحترف التصوير والعمل بها في أغلب أفلامي. وكنت قد صورت بهذه الكاميرا الحديثة فيلما واحداً من قبل مع المخرج الراحل أشرف فهمي (حادث النصف متر) ولكن أشرف لم يستعملها بذلك الانطلاق وبتلك الحرية كعاطف الطيب المغرم بالحركة الحرة للكاميرا, وقد استطعت بعد بعض الصعاب أن أزلل هذه المشكلة وأسيطر على حركة جسمي مع كتفي مع يدي والتحكم الكامل في حركة قدمي على الأرض حتى أمتص بقدر الإمكان الاهتزازات في الصورة وليصبح الاهتزاز القليل مقبولاً بصرياً.

وأصبح للكاميرا الحرة في الفيلم عمل مكثف للغاية, وربما أصعب لقطاتها صراع الموت بين أحمد زكي وصلاح قابيل حيث كنت لا أعلم ما ستنتهي إليه المشاجرة وكنت أقتنص حركتهما بسرعة, أو ما حدث في مشاجرة محطة باب الحديد بين أحمد زكي ومجموعة المتحرشين لبلدياته (إلهام شاهين), حيث اتفقنا جميعا على تخطيط اللقطة وفعلا بدأنا التصوير فجأة أمام باب المحطة - وكان الشجار - حقيقيا - وتدخلت المجاميع لتفض المشاجرة, حتى أن أحدهم وهو لا يعلم ما هي الحكاية سبني وقال: بتصور إيه يابن (...) ووضع الجريدة التي في يده أمام عدسة التصوير - الجريدة موجودة على الفيلم - ولكن أبعدته هو والجريدة بقوة وتجاوزت الحدث وواصلت التصوير وحصلنا على مشهد في غاية الصدق والجمال والواقعية, ولكن المشكلة الكبرى التي واجهت عاطف الطيب بعد تصوير هذا المشهد الساخن دراميا أنه اعتدى من دون قصد أو علم على أحد الضباط المرتدي ملابس مدنية, وكانت مشكلة فعلا عويصة لحجز عاطف في البوليس الحربي في مكتب المحطة ومحاولات التوفيق وإثبات عدم القصد.

ومن المشاهد التي قامت الكاميرا فيه بدور أحبه عاطف ورسمه بشكل درامي جمالي متقن, مشهد الأغنية في عنبر المسجونين السياسيين, حيث تحركت الكاميرا من منتصف العنبر إلى الخلف مستعرضة بحركة - البان - مرة ذات اليمين ثم ذات اليسار في حركة (زجزاج) والمساجين المقهورين ينشدون وهم ثابتون فوق مخادعهم بأشكال تشكيلية مختلفة, وكانت الحركة بهذه الطريقة وسكون الكتل - المساجين - أبلغ تعبير مرئي للقهر داخل قفص السجن, فالكاميرا تتحرك مثل الطائر الحر وهم مثل الكتل الصماء الثابتة, ولقد خدم هذا الشكل الذي نفذت به الأغنية - وهو من ابتكار عاطف في لحظتها - مضمون الأغنية والحدث.

عبقرية الممثل

التمثيل الجيد ليس زعيقاً أو مبالغة أو لعباً بالألفاظ وعضلات الوجه كما يحدث مع الأسف في كثير من مسلسلات التلفزيون, الممثل الجيد هو من يهضم الدور ويعبر عنه من داخله قبل مظهره ويستغل كل ثنايا جسده في ذلك, وهذا ليس بالشيء السهل.

ولقد حبانا الله بأحمد زكي كممثل عبقري يجيد ذلك بشكل مطلق.

وأتذكر أول يوم تصوير في الفيلم حين بدأنا العمل في حقول زراعية بالقرب من قرية (ميت رهينة) بالجيزة, وأثناء أخذ لقطة للأم وهي تعمل في الحقل مهمومة, لمحت من بعيد مجنداً قادماً فقلت لعاطف: أنظر هذا العسكري القادم يكاد يكون مثل شخصيتنا في الفيلم (أحمد سبع الليل رضوان الفولي), ورويدا رويدا يقترب العسكري لنكتشف أنه أحمد سبع الليل حقا, إنه أحمد زكي وقد تقمص الشخصية بشكل مذهل في المشية وحركة الجسم وضرب قدميه بالحذاء الميري في التراب. إنه ممثل من نوع خــاص مســـتحيل التــكرار, وبالرغم من أني صورت عددا من الأفلام لأحمد زكي من قبل وبعد ذلك فإنني أجد أحمد في هذا الفيلم قد تفوق على نفسه, إنني في أي وقت أشاهد هذا الفيلم يزداد إعجابي به فهو يتساوى ــ إن لم يزد ــ في عبقريته في التمثيل مع جاك نيكلسون, ولقد أحببت وتعاطفت مع أحمد سبع الليل بشكل جنوني في هذا الفيلم, لاحظوا كيف يمشي? كيف يتكلم? كيف ينظر, نظرة الذهول أو نظرة الكسوف أو نظرة عدم الفهم أو نظرة الفرح.

لاحظوا كيف يطور كل شيء يحمله على قدميه إلى شخصية حقيقية داخل المشهد, وفي مشهد سجنه داخل الزنزانة مع ممدوح عبدالعليم وإطلاق الثعابين عليهما أثناء اندماجه في المشهد أمسك الثعبان وشده أو ملصه من جلده أمام الكاميرا ولكني لم أتحمل المنظر فأغمضت عيني التي أصور بها اللقطة ولم أرها إلا وهي مركبة في سياق الفيلم.

إنتاج ضخم ومغامرات

كان الفيلم من النوعية الإنتاجية الضخمة, في التكاليف وفي ظروف العمل حيث يتطلب انتقال العاملين إلى موقع التصوير يوميا, فقد كنا نصور في سجن وادي النطرون في منتصف الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية - المسافة في حدود 100 كيلومتر - وكان نقل المجاميع والفنيين بجانب إعاشتهم وكذلك كلاب الحراسة ورجال التأثيرات الخاصة والاكسسوارات, وكان من المستحيل أن نبني معسكراً هناك ونبيت, لظروف أمن السجن نفسه, ولقد تطلب ذلك جهداً كبيراً من العاملين في الإنتاج حتى يوفروا الراحة والظروف المناسبة للتصوير.

كان مهندس المناظر المرحوم رشدي حامد يضيف كثيرا من تركيبات الرؤية التشكيلية لأماكن في السجن لتلائم الغرض الدرامي, فمثلا باب السجن نفسه الضخم المهيب هذا من إبداعه وأشياء أخرى كثيرة, وكان يشرف على دقة كل شيء حتى لو لم يكن في تخصصه, وكثير من الصعاب قابلتنا في هذا العمل فقد بدأنا العمل في الصيف لأنه الجو الملائم المطلوب لقيظ الصحراء وقوة الشمس وخلو السماء من السحب, ولكن مع استمرار العمل دخل علينا شهر سبتمبر بسحابة القطن المتقطع الذي سبب لي مشكلة الانتظار حتى تظهر الشمس مرة أخرى ويحدث التجانس بين المشاهد وبعضها البعض, ولكن مع الأسف في بعض المشاهد يظهر السحاب في خلفية الصورة وكان لا مفر من التصوير لتحاشي التكلفة الإنتاجية الباهظة لليوم الواحد.

ولقد حدث في إحدى مرات التصوير أثناء استقبال المسجونين بحفلة ضربهم بالسياط أن أصابني الفنان محمود عبدالعزيز بضربة كرباج شديدة على رأسي, وفي مناسبة أخرى عضني أحد كلاب الحراسة والحمد لله أن المحفظة في الجيب الخلفي أخذت كل القضمة من فك الكلب, كانت مغامرات العاملين في هذا الفيلم كثيرة, وربما أهم مغامراتنا عندما صعدنا إلى سطح خزان المياه في السجن لأنه أعلى مكان يطل على السجن لأخذ لقطة عامة وأثناء الصعود على السلم الحديدي المتهالك من الصدأ والقدم وبعد مرور آخر الصاعدين انهار السلم, ولكننا أكملنا التصوير وتركنا للإنتاج ومن على الأرض حل المشكلة, حيث ربطوا السلم المتهالك بالحبال واستغرق ذلك وقتا قبل حلول الليل, إلى هذا الحد كان حبنا للفيلم, وعملنا بشكل من الفدائية حتى يظهر الفيلم في أحسن صورة له.

رقابة غير مسبوقة

(البريء) فيلم عانى في الرقابة مشاكل كثيرة. وتتلخص النهاية الأصلية للفيلم في مشهد يصور وصول فوج جديد من المساجين السياسيين والمفكرين. بينما أحمد سبع الليل رضوان الفولي على برج الحراسة المطل على الساحة الخارجية للسجن وعندما يهم الحراس بضرب المساجين يفتح أحمد سبع الليل نار سلاحه عليهم فيقتلهم ويقتله بعد ذلك جندي آخر من زملائه, فيقع الناي الذي أخذه معه في بداية الفيلم من بوص قريته من البرج وتنزل الكاميرا مع الناي بالسرعة البطيئة. وتتساقط قطرات دمه على الناي الملقى على الأرض.

تألم عاطف الطيب كثيرا لما مرّ به فيلمه ورغم أن الصحافة والنقاد وكذلك في المهرجانات الدولية استقبلوا الفيلم استقبالا حافلا, فإن عاطف كان حزينا بالفعل, لأنه مع الناس دائما ومع التقدم ومع الحياة وعدم القهر ولقد عومل فيلمه بمنظور رقابي متخلف للغاية في بعض أجزائه.

ولقد حصل الفيلم على الجائزة الفنية في مهرجان يونج يانج في جمهورية كوريا الشمالية عام 1987, وعلى جائزة لجنة التحكيم للاتحاد الدولي للنقاد في مهرجان فالنسيا بإسبانيا في العام نفسه. وعلى امتداد أعوام العمر الفني والإنساني لكل من عملوا في هذا الفيلم - وأنا بينهم - يظل هذا العمل مرفأ بديعاً من مرافئ عملنا السينمائي المرهق والممتع.

 

سعيد شيمي







لقطة افتتاحية واسعة لأحمد زكي في فيلم (البريء)





أثناء تصوير فيلم (البريء) المخرج ومدير التصوير والمساعد شريف احسان, فوق برج المياه في السجن قبل تنفيذ اللقطة





العاملون في فيلم (البريء) فوق ظهر اتوبيس يبحثون عن لقطة علوية





أثناء التصوير المفاجئ في ميدان رمسيس أمام محطة السكة الحديد





اللقطة التي حذفت من فيلم (البريء)





المخرج والمصور ومساعد المخرج في لحظة ظل نادرة اثناء تنفيذ الفيلم





تصوير مشاهد المطاردة للسجين الهارب, وتلاحظ طريقة التنفيذ وظهور السحب في السماء وهي غير مرغوبة فنيا