غوري: صخرة الأنين... الملونة!

غوري: صخرة الأنين... الملونة!

بيـن ألـوانها الـدافئة تـوقف الرئـيس الأمـريكى بيـل كلينتون متأثرا, واعتذر. ومثله فعل بابا الفاتيـكان, تـوقف, واعتـذر. وبينـما كـنا نطـوف بألـوانها, سمعنا أنينا موجعا بعمق القرون, فتوقفنا, نقـلب البـصر حيـارى فى أفـق الأطلـسى, والـنفس تهـتف: (يا الله.. ما أهـون الاعتذار).

اسمحوا لى, أن انقسم أمامكم إلى اثنين, فقد خضت هذه الرحلة وجدانيا كشخصين, حتى أغوص - ولو قليلا - فى أعماقها المنسية, والموجعة. الشخص الأول هو ما أنا عليه, باسمى المعتاد, كمستطلع. والشخص الثانى هو زنجى أسود, أسميته - بعد تحريف قليل لاسمي - (مامادو), لعله يعزز تقمصى لكيان إفريقى أسود - وهو لون جميل كجمال الليل - يجيء من مبعدة ثلاثة قرون ليصحبنى فى هذا الاستطلاع بحكايته, رحلة تستدعى رحلة أخرى, زمن يغور فى زمن نـاء, حاضر يفتح على ماض, وماض أظن أنه يفتح على بعض ألغاز أيامنا, ومستقبلنا أيضا. وأعـدكم بشيء واحد, هو أن أتحرى الدقة, فلا أسمح لحكاية (مامادو) إلا بالنهل من وقائع تاريخية موثقة, استدعيها بشكل يوشك أن يكون حرفيا لعلى أسمعكم هذا الأنين. وأكسر لذلك القاعدة, فأحدد أهم مصادرى لحكاية (مامادو)فى المتن, لا الهـوامش.. إنها (موسوعة تاريخ إفريقيا السوداء)لجـوزيف - كى - زيربو - ترجمة يوسف شلب الشام, و (العبودية)لمـوريس لانجليه - ترجمة إلياس مرقص, و (غوري)لجان كلود بلاشار بالإنجليزية.

ولنبدأ الرحلة, ولتتأهب الحكاية للطفو...
في الثامنة من صباح داكار لطيف الحرارة, والرطب قليلا, انطلقنا على متن عبارة قديمـة صوب الجزيرة التى تلوح كطيف رمادي بين أمواج المحيط غير بعيد. كـان فى صحبتنا - تطـوعا - اثنان من السنغاليين الشباب الذين يجيدون العـربية, إضـافة للفرنسية بالطبع!. سليم نيانغ الذى أهـدته لنا السفارة الكويتية فى داكار, فكان مرافق رحلة ممتازا, أما الثانى فهو الصحفى تيجان كوتا الأقرب إلى عملاق فى جلباب سنغالى (جرامبوبو) لامع الزرقة, فضفاض وبجيوب كبيرة لا أول لها ولا آخر. قال كوتا بنبرته المرتفعة دائما: (غوري تبعد ثلاثة كيلو مترات عن الشاطى). وفى صياغة أخرى قال سليم بنبرته الهـادئة: (أقل من ميلين). لكن الدقـائق التى استـطالت بين أمـواج المـحيط, أبدت لنا المسافة أبعد من ميلين, وأكثر من ثلاثة كيلو مترات. فبعد اثنتى عشرة دقيقة دارت العبارة حول طوف يحدد نصف المسافة, ويحدد أيضا موقع سفينة غارقة, ويؤرخ لآخر طلقات المدافع الكولونيالية فى المكان, وقد كانت تصفية حساب بين فـرقاء فرنسيين! المفارقة ليست فى السفينة الغارقة, بل فى هؤلاء الذين لم يكتفوا بوضع أياديهم الثقيلة على أرض الغير فى قارات بعيدة, بل أمعنوا فى تصفيات الحسابات (البيضاء / البيضاء) فيما بينهم على أرض الآخرين. غوري كانت نموذجا صارخا لهذه الفجاجة الغربية. ففى حمى البحث (عن مسيحيين وعن توابل)كما قال فاسكو دى جاما, وبدعم مراكب (الكارافيل)الشراعية القوية التى تتماسك فى أعالى البحار, واستخدام الدفة المفصلية, وتبنى الأسلحة النارية والبارود والبوصلة - والأخيران لم يكونا من منجزات أوربا - اندفعت عشرات المراكب البرتغالية بمباركة هنرى الملاح - الابن غير الشرعى لملك البرتغال - لتدور حول ساحل إفريقيا الغربي من أجل العثور على (طريق البهارات المقدس) سعيا وراء قناعة هذا الأمير بخطة (قطع طريق التجارة على المسلمين مع الهند وأخذهم من الخلف بالتعاون بين القوات المسيحية وقوات الأسقف (جان)- أى نجاشى الحبشة!. عام 1444 وصل المستكشف البرتغالى (دينيس دياز)إلى غوري التى كان اسمها (بير). ويقطنها بضع أسر من صيادى الأسماك الذين يجمعون مياه الأمطار فى حفر تحت حواف الأسقف المائلة لأكواخهم المتواضعة. ويحكى أنهم تحولوا إلى الاسلام منذ القرن الحادى عشر, أسماها البرتغاليون (جزيرة النخيل) (مما يقطع بأنها لم تكن قاحلة كما يزعم الغربيون ليمرروا أنهم أول من عمرها بالنباتات), وظل البرتغاليون يحتلون الجزيرة حتى عام 1587. بعد ذلك وفى حمى الرحلات الاستكشافية, تعرف الأوربيون على ميزات غوري كقلعة طبيعية ومرفأ ترسو داخل قوسه الهاديء مراكبهم. وبدأ مسلسل آلام غورى التى صارت الجائزة التى يحصل عليها الفائز بين المتصارعين القادمين من بعيد. وظلت آلية الصراع تتكرر على امتداد قرنين من الزمان: القاء مراسى السفن الحربية خارج الميناء, ثم إطلاق المدافع على الجزيرة لتحطيم تحصينات وبيوت من يحتلها, ومن ثم غزوها وبناء بيوت وتحصينات للمحتل الجديد, حتى تجيء مراكب أخرى لتكرر الرسو, والقصف, والاحتلال. على هذا النحو تنقلت غورى بين أيادى البرتغاليين, والهولنديين, والانجليز, والفرنسيين. وكان اسمها يتغير, أطلق عليها الهولنديون (غويدى ريدى)أو (الطريق الطيب) والتى يزعم أنها حرفت إلى غورى - اسمها الحالى, وإن كان السنغاليون يؤكدون أن (غوري)تعنى العتق فى لغة قبائل الولوف السنغالية. استقر اسم (غوري) دون استقـرار لمستعمر بها. فبعد البرتغاليين والهولنديين جاء الانجليز والفرنسيون. وفى القرن 18 وحده خضعت الجزيرة لسلطة الانجليز أربع مرات, وللفرنسيين خمساً, إذ كان هذا القرن عهد غوري (الذهبى), وهو ذهب مر, كان حصاد تجارة قذرة, تحول فيها الكائن البشرى إلى (الإنسان الماشية)على حد تعبير موريس لانجليه فى كتابة (العبودية).

مامادو يستبق الرسو

أنا مامادو.. كيف صرت عبدا? ماشية بشرية تباع وتشترى? إنه أمر يدعو لمرارة مضاعفة. لقد تم اصطيادى بالطريقة ذاتها التى كانوا يصطادون بها حيوانات الغابة الإفريقية حية. فخ مـموه وسط أحراش كزمانس المثقلة بالخضرة. بئر عميقة كانت مغطاة بالأغصان وورق الشجر وقعت فيها مع اثنين من أبناء قبيلتى. وسرعان ما رأينا عند فوهة البئر وجوها بيضاء محمرة وأخرى سوداء. هؤلاء هم الأوربيون البيض الذين كنا نسمع عنهم الحكايات العجيبة والمرعبة أيضا. أما السود فهم جواسيسهم وتابعوهم الذين خانوا أبناء جلدتهم مقابل اثمان بخسة: بضعة قضبان من الحديد, حفنة زجاج وخرز ملون يصنعون منها أحزمة يلفونها حول بطونهم ويتباهون بها, أسمال وثياب عتيقة بعضها مما استخدم على المسرح من زى الجنود أو الدرك, والأهم هو الكحول الذى كانوا يسمونه (ماء الحياة). ماء الحياة هذا كان طريقة أخرى لاصطياد العبيد لتمويل تلك التجارة الملعونة. فما من زنجى رأوه يتسكع بين البحر ومراكزهم التجارية على ساحل السنغال, وغرب إفريقيا عموما, إلا دعوه لتذوق (ماء الحياة) هذا, ومجانا. وما إن يغب عن وعيه حتى يقيدوه بالسلاسل ويصبح عبدا للبيع أو المبادلة أو الشحن فى مراكب تجارة العبيد وإذا أفاق وتمرد كانت البنادق تسكته إلى الأبد وتلجم إخوته المشتركين معه فى سلسلة واحدة تربط ما بين الأطواق التى تحيط أعناقهم. حتى (ماء الحياة) هذا والذى تدفق كأمواج على سواحل إفريقيا مع ازدهـار تجـارة العبيد كان مغشوشا. وكما قرأت فى وصـايا تاجر عبيد هولندى - فيما بعد - ينقل خبرته إلى بنى جلدته البيض فى تلك التجارة: (من الأفضل أن يمزج الكحول بصابون إسبانى, لكى يكون له رغوة, فهى برهان لا يرقى إليه الشك عند الزنوج على جودته). بالفخاخ, والكمائن, والبنادق, والخيانات, وقضبان الحديد, والمصنوعات الزجاجية, والمناديل الحمراء, والثياب القديمة, والخمر المغشوشة بالماء والصابون, كنا نقع فى أسر تجار العبيد الأوربيين, ليتم شحننا إلى الشاطيء الآخر من الأطلسى. وقبل أن يتم وصولنا إلى مرافيء التجار قبل ترحيلنا كان يجرى تصنيفنا, فهناك: (عبيد كايور, وهم عبيد حرب يديرون أعمال التمرد. والبامبارا, وهم بلهاء لطفاء وأقوياء الأجسام. والوويداه, وهم مزارعون صالحون ولكنهم يميلون إلى الانتحار. والكنغوليون, وهم مرحون وعمال جيدون).

جرى تصنيفى مع (البامبارا), وتم فرزى كقطعة هندية إذ كنت شابا قويا فى الثامنة عشرة عندما أسرت. والقطع الهندية فى لغة تجارة العبيد كانت: (هم سود تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثانية والعشرين دون أى تشويه جسدى بأصابعهم الكاملة وأسنانهم ودون غشاوة فى العينين ويتمتعون بصحة جيدة).

فى مركز تجميع قرب مرفأ المراكب الذاهبة إلى جزيرة غوري تمت مبادلتى وانتقلت من شحنة عبيد إلى شحنة أخرى. خرج عنقى من طوق بسلسلة طويلة تجر قطيعا من البشر إلى طوق آخر بسلسلة طويلة أخرى وفقا لقانون التبادل فى تجارة العبيد: فثلاثة أولاد بين الـثامنة والخامسة عشرة من العمر كانوا يساوون (قطعتين هنديتين). وولدان بين الثالثة والسابعة يساويان قطعة واحدة. وأم وولدها يساويان قطعة, وهكذا..

صرت (قطعة هندية) فى الطريق إلى غوري وسط شحنة مماثلة مغلولة الأعناق. وكنا من الشحنات عالية الثمن التى تساوى الكثير من وحدات الحساب فى تجارة العبيد, وهى الأونصة والعلبة والقضيب وهذه تسعر بالغوريات (عملة جزيرة غوري آنذاك) ودقيق أو صفائح الذهب - ليتحاشى التجار غش السبائك المنتشر فى ذلك الوقت.

تم حشرى مع إخوتى فى السلسلة الثقيلة الطويلة مع آخرين فى أحد (البراكونات) القريبة من المرفأ. مخزن عفن من جذوع الأشجار والصفيح. حار كجهنم ورطب كفوهة قدر يغلى وخانق برائحة العرق والدم وفضلات المكبلين. وهناك رأيت الحادثة التى ذكرها (برونودى بوميغور) فى كتابة (وصف العبودية) عن فصل الأمهات عن أطفالهن. برونو هذا الأوربى الذى يبدو طيبا والذى امتد عمله عشرين عاما لحساب شركة الهند على الساحل الإفريقى أتى إلى التاجر الذى يملك شحنتنا وشحنات أخرى تم إطلاقها فى الساحة بين البراكونات فى الصباح. عرض التاجر عليه عددا منا وكانت هناك امرأة يتراوح عمرها بين العشرين والرابعة والعشرين حزينة جدا وغارقة فى بحر من الألم. كان ثدياها متدليين قليلا وممتلئين وقال برونو فى تأثر: (أظن أنها فقدت طفلها). فقال التاجر: (لم يكن لها طفل أبدا). ولم تتكلم المرأة خوفا من الموت الذى هددونا به إن سببنا إزعاجا للتاجر. لكن روى برونو ضغط ثديها العارى بلمسة فسال الحليب وسالت دموعها غزيرة. تأكد أن لها رضيعا انتزعوه منها. ألح برونو على التاجر فقاطعه الأخير بإجابة فظة: (إن ذلك على أى حال لن يمنع بيعها لأن ولدها سيكون عند المساء طعاما للذئاب). عرض (برونو) على التاجر سعرا أعلى للمرأة إذا كان طفلها معها وعلى الفور أمر التاجر بإحضار الرضيع. وما إن احتضنته أمه حتى ركعت عند قدمى (برونو) وهى تعبر له عن عرفانها بالجميل بأن تأخذ التراب وتهيله على جبهتها متمتمة بالشكر.

ألوان حارة وألم حارق

لامست العبارة مرسى غوري بنعومة, فقائدها - لا بد - يحفظ ملامح الطريق الذى تقطعه العبارة من السادسة صباحا حتى منتصف الليل فى أكثر من سبع رحلات يوميا من داكار إلى غوري, ومثلها رجوعا من غوري إلى داكار.

أحسسنا بهواء المحيط يهدأ داخل الخليج الصغير للمرفأ, وكانت الوداعة ودفء الألوان هى أول ما لفت نظرنا فى الجانب الغربي من الجزيرة المتطاولة قبالة المرسى. زوارق صغيرة تعوم بركاب قليلين أو تتأرجح ناعسة خالية قرب الشاطيء الرملى. أطفال جميلون يلعبون على الرمل كنقاط ملونة فى خلاء مريح شاسع. ولوحة بديعة الألوان ممتدة بين زرقة البحر التى تغدو فيروزية حول صخور البازلت السوداء المبلولة التى تكون قاعدة الجزيرة الصخرية, وبين زرقة السماء الإفريقية التى تبدو قريبة وصافية وتوحى بيسر ملامسة سحبها البيضاء الخفيفة الخفيضة. غوري مع أول إطلالة تفعم العين والروح بدفء ألوانها. نظيفة ومتناغمة وتخبيء مرارات القرون. القلعة الوردية المدورة عند أقصى الطرف الجنوبى والتى صارت سجنا على زمن الفرنسيين وانتهت إلى أن تكون (المتحف التاريخى للسنغال). و(قصر الحكومة) الأبيض السكرى المسقوف بالقرميد وسط الخضرة وأشجار الباوباب, وهو بالرغم من ضخامة اسمه فإنه ليس أكثر من نزل للمدرسين والرسامين الذين يعشقون الابداع فى الجزيرة, والوافدين من موظفى الحكومة, والسياح الذين يختارون المبيت فى واحد من أهدأ أماكن العالم, حيث لا سيارات, ولا دراجات نارية, ولا حتى هوائية.

نلتفت يسارا فتقع العين على (بيت التجار) القديم الذى بنى فى القرن الماضى وتتناغم فى طلاء وحداته الألوان: الأبيض, والأحمر الطوبى, والنوافذ الخضراء الفستقية, وقد تحولت طوابقه الأرضية إلى مقاه ومقاصف نظيفة ومحال لبيع المشغولات اليدوية ولوحات الفنانين التلقائيين الكثر فى الجزيرة.

نتقدم على الممشى المتجه إلى الساحة الرملية الفسيحة, فيطالعنا فى الأمام ذلك المبنى الأحمر حمرة عميقة دافئة, وهو بيت (شيفاليه) الحاكم الفرنسى الذى تحول إلى فندق. بينما يطل من ورائه بيت (السودان) بلونه الأحمر الصدئ بين أبنية أخرى بيضاء محاطة بالخضرة. ويذكرنا هذا بتسمية (السودان الغربي) التى كانت تطلق على السنغال.

نمشى مندفعين بحركة الفوج الذى لفظته العبارة, ونعرف أننا فى الطريق لزيارة أشهر رموز العبودية فى العالم والمسمى (دار العبيد). ولقد اكتشفت وأنا أحضر للرحلة أن كلمة (عبد) فى اللغات الأوربية معظمها مشتق من كلمة (سلاف) التى تشير إلى سلاف أو صقالبة أوربا الشرقية والبلقان الذين كان الأوربيون الغربيون يتخذون منهم عبيدا, فتجارة العبيد ليست امتدادا لممارسة إفريقية كما يدعى الذين يتهربون من الاعتراف بالذنب, بل هى امتداد - فى جانبها الأكثر معاصرة - لممارسة أوربية حين كانت أوربا فى أوج غرورها الاستعمارى.

كان سليم قد رتب لنا لقاءات مع محافظ الجزيرة, ومع أمين متحف بيت العبيد. لكننا فى زحام المندفعين فى دروب الجزيرة النحيلة, نسينا أن نبحث عن (جوزيف ندياى). ودخلنا بيت العبيد دون أن نستأذنه, وظهر الرجل فى صدر الدار التى تزاحمنا فى باحتها. كان عجوزا فى نحو الثمانين, لكنه يقظ وفائق الحيوية, وذو إحساس عال بالكرامة. قرعنا باستنكار لأنه كان فى انتظارنا, وحذر سليمان حيدر من التصوير قبل أن يأذن لنا. ولما أبدينا اعتذارنا بصدق يتناسب مع عمر الرجل ونبل مهمته, تحول إلى الود البالغ الجميل والذى اختصنا به دون بقية الزوار, الغربيين - ومعظمهم من الفرنسيين - الذين لم يكف عن إدانة أسلافهم بشدة تصل إلى حد القسوة. فكرت للوهلة الأولى أنه يحتمى وراء درع شيخوخته, لكننى الآن أدرك أن رجلا سنغاليا أسود, قضى عشرات السنين من عمره باحثا فى تاريخ تجارة العبيد الأفارقة, وحارسا على أقسى رموزها, ومسئولا عن تعريف العالم بجرائمها,هو رجل يصعب عليه الصفح, حتى عن أسلاف الجناة الأصليين, لأنه منقوع حتى أعماق عظامه فى بحيرة من الأنين الكاوى والحارق لبنى أمه وأبيه.

دار العبيد ذات الطلاء الأحمر التى احتشدنا فى باحتها وعلى قوسى الدرج الصاعدين إلى طابقها الثانى كانت ابرز النماذج الباقية من دور, أو مخازن, العبيد فى الجزيرة والتى كثرت وازدهرت مع ازدهار تجارة العبيد عبر الأطلسى. ومن المدهش أن هذه الدور كانت تسيطر عليها نساء يؤرخ بهن عهد (السيجناريات) أو (السنيورات) فى حياة غوري وهن نساء ذوات دماء مختلطة إفريقية / أوربية, تمتعن بحماية أزواجهن أو عشاقهن الانجليز أو الفرنسيين ليسيطرن على دور أو بيوت العبيد, ويجنين الكثير من تلك التجارة المظلمة, وينلن حظوة ومكانة على الجزيرة التى كانت تموج آنذاك بأكثر مما تحتمل من المغامرين الأوربيين, والبحارة, والأسرى من العبيد.

دور العبيد, أو بيوت (السنيورات) لا يزال بعضها باقيا حتى الآن.. وفيها بيت (كاتى لوتى) الذى صار الآن مستوصف الجزيرة والذى بنى بين عامى 1767 و1768. وبيت فيكتوريا البيس الذى بنى بين عامى 1776 و 1778 وهو الآن متحف غرب افريقيا الفرنسى (I.F.A.N.). أما بيت (آنى بيبن) فهو الأبرز, والأكبر, فقد كانت (سنيورة) الحاكم الفرنسى (شيفاليه دو بافالو) وكانت تتحرك على الجزيرة وسط موكب من الزنجيات الإماء اللائى تخصصت مجموعة منهن فى حمل حواف قبعتها المثقلة بالجواهر!

دار العبيد التى وقفنا فيها نصغى لصوت يوسف ندياى لم تكن بعيدة عن ظلال بيوت (السنيورات) فقد أقامها عام 1780 شقيق آنى بيبن. وهى مثال صارخ لاستباحة البيض للبشر الأفارقة. فقد خصص الطابق الأول المظلم والمعتم كحظائر للعبيد, بينما الطابق الثانى, النظيف والمضيء, لإقـامة ومفاوضات التجار البيض.

طفنا بالزنزانات السفلية أو الحظائر مع شروح يوسف ندياى: (إلى اليسار غـرفة تخزين الرجال, مساحتـها 260*260 سنتيمترا ويحشر فـيها من 15 -20 عبدا, ينامون مقرفصين على الأرض دون أن تنزع السلاسل عن أعناقهم, يتناولون وجبة واحدة بائسة فى اليوم, ولم تكن هناك رعاية صحية أو اهتمام بالنظافة, ولم تكن اعناقهم وحدها هى المربوطة بالسلاسل, كانت هناك أيضا كرات حديدية زنة كل منها 10 كيلو جرامات تربط فى الأرجل ويجرجرها العبد أينما تحرك, ولا تزال بعض هذه الكرات هنا كما فى متحف بوردو ويعود تاريخها إلى القرن 18).

أرانا يوسف ندياى كرات الأرجل وقطعا من أطواق وسلاسل الأعناق. وعرض علينا رسوما تبين أحد أشكال العقاب التى كان ينالها كل من يتمرد من العبيد, يشك فى صنارة وحشية عملاقة تخترق جلده ولحمه عند الكليتين ويعلق عاليا حتى الموت. وبينما كان السنغالي العجوز يعلى صور عذاب أسلافه على ايدى البيض, ارتفع صوته بالفرنسية مقرعا أسلاف الجناة: (تملأون الدنيا صياحا عما حدث من جرائم التعذيب فى معسكرات النازي, لكنكم تسكتون عن أبشع الجرائم التى أحدثتها تجارة العبيد فى إفريقيا على مدى ثلاثة قرون. وتزعمون أنكم تحترمون حقوق الانسان. لعل الإنسان لديكم هو الأوربي الأبيض فقط. لقد جاء البابا هنا عام 1992 وطلب المغفرة من الأفارقة لأن الجماعات التبشيرية كانت تدعم تجارة الرقيق. على أوربا كلها أن تطلب المغفرة وتقدم الاعتذار).

مع أصداء صوت حارس بيت العبيد العجوز العميق الرنان مضينا نفتش عن بعض آثار الجريمة فى غرف أو زنزانات الطابق السفلى. ثمة غرفة للنساء لا تزيد عن مساحة زنزانة كانت تحشر فيها 50 امرأة مع اطفالهن. وغرفة للبغاء كان أبناء السفاح من نتاجها, خاصة من الدم المشترك الأبيض/الزنجى, يرسلون إلى سان لويس ويخرجون من العبودية. أيضا من يعتنقون المسيحية كانوا يعتقون. غرف قميئة تلامس سقوفها السوداء الرءوس بعد أن نحنيها. وثمة غرفة/زنزانة خصصت لعلف العبيد الذين يقل وزن الواحد منهم عن 60 كيلو جراما حتى يصلوا إلى الوزن المطلوب. وثمة ميزان قبان كان فى الغرفة المجاورة للمدخل.

درنا فى (بيت العبيد) حتى امتلأنا بالمرارة, وكان هناك ممر ضيق مظلم يفضى إلى ضوء قريب, إنه (باب النهاية) الذى كان يعبره العبيد ليخرجوا إلى الشاطيء الصخرى حيث تكون السفن فى انتظارهم لعبور الأطلسى ووداع أرض آبائهم وأجدادهم إلى الأبد. عبرنا الممر المعتم, وخرجنا من باب النهاية إلى شاطيء الصخور السوداء التى تبلها بلا انقطاع أمواج المحيط, وغصنا عبر صوت البحر فى ذكريات عذاب الذين رحلوا عن إفريقيا مكرهين.

مامادوا يؤكد: دينغيلا.. دينغيلا

كدسونا بعد يومين فى بطون مراكب حديدية نقلتنا من الشاطيء إلى جزيرة غوري القريبة. كانت غوري معسكرا لتجميع العبيد قبل شحنهم إلى الشواطيء الأمريكية. يحبسوننا فى قباء مظلمة فى بيوت العبيد ليلا وفى النهار يطلقوننا مغلولى الأعناق مكبلى الأرجل لنعمل فى تكسير صخور البازلت للحصول على أحجار البناء وطحن المحار للحصول على الكلس الذى يبنون به بيوت الجزيرة ويرصفون طرقاتها. كنا نعمل فى شقاء بالغ مستخدمين دانات المدافع الحديدية القديمة الثقيلة عـوضا عن المطارق والأزاميل وكان ذلك يحطم عظام أيدينا ويكسر أرواحنا. لم نكن نأكل إلا القليل ونكدس فى الليل فى جحور ضيقة دون فك أغلالنا. فى هذه الجزيرة السجن اتفق عدة مئات منا نحن الذين صرنا عبيدا على التمرد. لكن طفلا فى الثانية عشرة وشى بالمتمردين الذين كان ينام بينهم مصفد اليدين يفترش الأرض العارية. وعندما عدنا من عملنا الشاق قرب الغروب أحاطت بنا بنادق البيض. وشكلوا محكمة عجيبة أدانت ثلاثة من قادة التمرد الذين كانوا فى الأصل رؤساء قبائل من ساحل افريقيا الغربي. لم ينكر هؤلاء الزعماء العظام التهمة بل أضافوا أنهم كانوا ينوون انتزاع حياة كل البيض الموجودين فى الجزيرة جراء ما ارتكبوه فى حق السود. وعندما سمع بقية العبيد المصفدين هذا الجواب البطولى صاحوا فى صوت واحد (دينغيلا, دينغيلا): هذا صحيح! هذا صحيح! وكان قرار المحكمة الملفقة هو أن يقدم قادة التمرد للموت فى النهار التالى أمام كل الأسرى السود وبقية سكان الجزيرة. وفى الغد كان هناك مدفعان محشوان بحشوتهما العادية وعلى مرأى من مئات العيون المذهولة والمذعورة جرى نسف القادة الثلاثة ثم جمعت اشلاؤهم ورميت على مسافة خمس عشرة خطوة من مكان نسفهم وسط حلقة الزنوج الذين اضطربوا بين سلاسلهم وهم فى ذعر شديد.

عدنا إلى شقاء العبيد فى غوري فى الصباح التالى للمجزرة. وكانت مراكب الشحن فى انتظار نقلنا. جرى فحص أجسادنا فحصا دقيقا لم يوفر عضوا من اعضائنا دون كشــــف وكأننا بهائم لا نحس ولا نخجل. ثم دمغ اللائقون للبـــــــيع بأختام الحديد المحمى الذى يحمل شعارات التجــــار المالكين. كانت الصرخات تتصاعد مذبوحة ومكــــتومة بينما الجلد المحترق يدخن تحت وهج الأختام على الصدور والمؤخرات والأثداء والأذرع. حاملا حتى الموت علامات لا تزول إلا فى قبور الشتات الأسود البعيد فى القارة الأمريكية وراء أمواج وعواصف بحر الظلمات.

خرجنا من (أبواب النهاية) فى بيوت العبيد بغوري. وهى الأبواب التى تفضى من ظهر البيوت إلى البحر حيث تكون السفن راسية فى الانتظار.

كان صدر المحيط شاسعا والصخور التى نمشى عليها سوداء قاسية يبلها الموج. امتلأت نفوسنا بالحسرة ونحن ندرك أنها الخطوات الأخيرة على أرضنا. ثم تلقفتنا أفواه السفن وبطونها المعتمة وجرى فصل جديد بين العبيد وذويهم. فثمة زوجات وأقارب لم يتم بيعهم بقوا فى غوري. وثمة مبادلات بين التجار فصلت الابن عن أبيه والأخ عن أخيه والبنت عن أمها. كل فى سفينة ولكل سفينة وجهة مختلفة مما يعنى أنه وداع إلى الأبد. فالابن على السفينة المتجهة إلى أمريكا الشمالية بينما الأب على سفينة تقصد البرازيل. تلقفت صخور البازلت مطر الدموع من العيون وبددت رياح الأطلسى شهقات ونهنهات البكاء.

ثم كتمت بطون السفن وهى تقلع نحو المجهول كل شيء. ثمة من كانوا من العبيد يقتنصون لحظات انشغال التجار والبحارة ويرمون بأنفسهم فى الماء ليغرقوا أو لتلتهمهم أسماك القرش سريعا بدلا من مكابدة شقاء الأرواح الطويل المنتظر. وثمة من كانوا يخنقون أنفسهم بأياديهم أو بالسلاسل المربوطين فيها.

فى السفينة حلقوا شعورنا وتركونا عراة إلا من ساتر قماش صغير لعورات النساء. وكنا ننام جسدا لجسد وقد ثنينا أرجلنا ليسعنا القاع الضيق القاسى. كنا نسبح حقا فى حمأة من الدم والقيء والعرق والبول والفضلات. ولم يكن أى من البيض يستطيع أن يمكث فى هذا الجو أكثر من دقائق قليلة حتى ترهقه الحرارة وتخنقه نتانة الهواء ويكاد يغمى عليه فيفر بأنفاسه إلى ظهر السفينة لينجو من المرض أو الموت.

امتدت رحلتنا فى المحيط الأطلسى أكثر من شهرين ومات بيننا كثيرون كانت أجسادهم تجر إلى حواف السفينة وترمى بين الأمواج. ولما تزايد عدد الوفيات بدرجة كبيرة قرروا إخـراجنا يوميا إلى ظهر السفينة لتهويتنا تباعا ولفترات قصيرة. مجموعة وراء مجموعة ممن تربطهم من أعناقهم سلسلة واحدة. بل إنهم عند اقترابنا من الشاطيء الأمريكى أخذوا ينظمون لنا حفلات رقص حتى تنتعش أجسادنا ويسهل بيعنا. رقص فى السلاسل وتحت لسع السياط. وكان هناك من يثور فور أن يصل إلى السطح فيعدم بطلقات البارود فورا أو يلقى حيا إلى اليم. وثمة من كانوا يضربون بالسياط حتى تسيل دماؤهم على مشهد من الجميع. وفى مرة موجعة جرؤ زنجى غاضب على ضرب مساعد تاجر أبيض على وجهه بطرف السلسلة التى يرسف فيها فبقروا مؤخرة الزنجى بسكاكين المطبخ بعد أن أحكموا قيوده ووضعوا فى الجرح خليطا من الفلفل الحار والخل والبارود جعل المسكين يصرخ حتى نفر الدم من عينيه ومات فى اليوم التالى. ولقد أنذرونا بأن هذا ليس الحد الأقصى لمصير من يتمرد من العبيد فى السفينة. وحكوا لنا واقعة سمعنا عنها ونحن فى غوري عن عبد تمرد على سفينة متجهة إلى أمريكا فكان مصيره أن تم تقطيع جسده إلى قطع صغيرة وقدم لبقية العبيد من زملائه ليأكلوه تحت التهديد. ومع ذلك كان هناك كثيرون يتمردون ليحصلوا على حكم الاعدام الذى يتقبلونه وعلى وجوهم فرح شديد. ولم يكونوا يتأخرون عن الموت إلا لكى يضموا إلى صدورهم اقاربهم وهم ينظرون إلى جلادهم باحتقار ويرفضون أن يضع يده عليهم ثم يرمون بأنفسهم إلى موج المحيط الذى يجدون فى اعماقه دواء سريـعا لآلامهم كما شـهد بذلك فروسار الفرنسى فى مؤلفه (قضية العبيد الزنوج).

ما إن ظهرت طيور النورس فى الأفق وتبعت الدلافين السفينة حتى تأكد أن الشاطيء يقترب. عندئذ أخذوا يرمون فى البحر كل المرضى الذين يخشى ألا يجدوا من يشتريهم وخشية أن تدفع عليهم رسوم الدخول إلى أمريكا. وكان أكثر هؤلاء الذين يرمون للغرق من الأطفال الذين هم أقل تحملا لمشاق السفر الطويل. فى الوقت ذاته كان يجرى علف العبيد بمزيد من الطعام ومعالجتهم بعقاقير تبديهم فى أتم عافية.

وفى أمريكا راحت تتكرر نفس المشاهد التى جرت عند مغادرة إفريقيا: فحص الأسنان والجهاز التناسلى والأيدى والأرجل. بل كانت هناك فحوص جديدة غريبة. فهناك الفحص بالعض لقياس مقاومة العبد. وتذوق جلده للتأكد من أن نضارة بشرتة ليست ناجمة عن تزيين خارجى.

وعندما يتم شراء العبد من سيد أبيض.. كوبى أو برازيلى أو أمريكى شمالى فإن فصلا جديدا من رحلة شتاته الأسود وشقائه تبدأ. أنا نفسى اشترانى سيد كوبى فى بادى الأمر. ثم باعنى فى اليوم الثانى لسيد أمريكى شمالى (فالقانون)كان يسمح بذلك على اعتبار العبد ملكا متحركا مثله مثل الماشية.

الابحار بشراع مقلوب

بعد أن غادرنا (دار العبيد) بعدة أمتار توقفنا أمام بيت (السنيورة) (فيكتوريا البيس) الذى بنته على شكل سفينة, وكان كسائر بيوت السنيورات بيتا لتخزين العبيد, لكنه تحول بعد إلغاء تجـارة العبيد إلى متـحف غـرب افريقيا الفـرنسى (I.F.A.N), وكأنه - بوعى أو من دون وعى - يرد المسائل إلى جذورها العارية!

كان ثمة مفارق عديدة عند القيدوم المدبب لهذا البيت السفينة, وحرنا فى اختيار المسار بين دروب هذه الجزيرة الصغيرة, والمتوهة مع ذلك. عندئذ تقدم الشاب النحيل ذو الجرامبوبو الأصفر الفاقع واللامع, والذى يطلق شعره فى ضفائر دقيقة منتشرة حول رأسه كأشواك ثمرة التين. اسمه (شيخ فال), وهو ينتمى إلى شباب (الراستا) التى تشكل حركة عجيبة من فلسفة صعاليك الفنانين وأشباه الفنانين والمثقفين مع مسحة تصوف, وتراتبية تحفظ المقامات!

قال الشيخ فال إنه من ابناء الجزيرة ويحفظ تاريخها ودروبها ويود أن يكون دليلنـا فيها. قلت له إننا بالفعل فى صحبة دليلين. قال: (لا مانع أن يكونوا ثلاثة.. فالإنسان يتعلم حتى من ابنه الصغير) وصرنا خمسة تحت قيادة شيخ فال العجيب, المترنح واليقظ فى آن, والذى يحفظ معالم وتاريخ الجزيرة بالفعل. أخبرنا أن أقصى عرض للجزيرة هو 300 متر وأقصى طول لها هو 900 متر وبها 1200 نسمة, 800 منهم مسلمون, 400 مسيحيون, ويعيشون جميعا فى سلام. والجزيرة لا تعرف السيارات ولا الدراجات ولا الموتى, فمن يموت من سكانها يشيع فى زورق ويدفن فى داكار.

مررنا بمسكن أول حاكم فرنسى للجزيرة, وقد تحولت باحته الواسعة إلى قاعة أفراح ومناسبات, وكانت هناك شجرة (تلنجلور) عرشت وركبت فوق الجدران وتخللتها بأفرعها العجيبة, وعلق الشيخ فال: (لا نعرف هل الشجرة هى التى تمسك البناء, أم أن البناء هو الذى يمسك الشجرة), ففتحت عينى جيدا على الشيخ فال, وأرهفت سمعى لتمتماته. وقد حكى ما قرأت عنه من أن الانجليز احتلوا غوري بعد مؤتمر فرساى, لكن فرنسا التى كانت تحتل دولة جامبيا قايضت انجلترا واعطتها جامبيا مقابل الحصول على غوري!

صعدنا فى طريق تصطف بامتداد أحد جوانبه اشجار الباوباب العجيبة بجذوعها البرميلية وأفرعها قليلة الأوراق, وكان الفنانون التلقائيون من سكان الجزيرة يقيمون معارضهم فى ظلال هذه الأشجار. لوحات ذات تيمات زنجية متكررة وألوان صاخبة. ووصلنا إلى القمة, على سطح القلعة التى بنيت عام 1856 حيث تنتشر فى محيطها عدة مدافع يفشى سرها شيخ فال: (المدفع قطره 240 ملم, وطوله 16مترا, ويزن 1600 طن من الحديد المصنوع فى مصهر انجوليم فى فرنسا, لم يستخدم إلا مرة واحدة فى الحرب العالمية الثانية, استخدمه فيشى فى صراعه مع ديجول. إذ كان فيشى هو المسيطر على الجـزيرة, ورأى سفينة انجليزية اسمها تاكوما تقترب من ساحل داكار وظن أن بها ديجول فضربها وأغرقها فى 23/9/1940, لهذا فالسفن والعبارات المتجهة إلى غوري أو المنطلقة منها تدور حول علامة طافية فى منتصف الطريق.

تذكرت هذا الدوران الذى قامت به العبارة ونحن فى طريق القدوم, وتعجبت مجددا من صفاقة الغرب فى استعمال أرض الآخرين حتى لتصفية الحسابات البيضاء/البيضاء. لقد كانت غوري فى فترة من فترات الهيمنة الفرنسية عاصمة لغرب إفريقيا كله. وثمة بناء يسمى معهد (وليم بونتى) كان مكرسا لاقامة ودراسة وتخريج (كوادر) افريقيا ومنهم رئيس ساحل العاج الأسبق ورئيس مالى الأسبق, فكل شيء مخطط على الأجندة الغربية, ابتداء من تجارة العبيد, حتى تخريج الكـوادر, والاعتذار العـاطفى, دون تعويض, إن لزم الأمر! ففى الوقت الذى ابتزت فيه اسرائيل, ولاتزال, أوربا والغرب عموما, وحصلت على كل شيء من الأباتشى الأمريكية حتى القنبلة النووية الفرنسية, تعويضا عما اقترفه النازى من جرائم مشكوك فى صحتها ودقتها, تجاه اليهود, وتعويضا عن شتاتهم الذى صنعوه بأنفسهم, فإن أكبر وأفظع شتات وعذاب فى التاريخ الانسانى وهو الشتات الأسود الذى أخرج ما يقدره الباحثون بستين مليون افريقي, مات معظمهم فى الطريق, هذا الجرم المشهود الذى صنعته تجارة العبيد بأياد أوربية, عبر الأطلسى, ومن أجل ازدهار مزارع السكر والقطن فى أمريكا, لا ينال أكثر من اعتذار خافت.

يشير شيخ فال إلى صرح أبيض ناصع على شكل شراع مقلوب ومثقب بدوائر منتظمة, عند ركن فسيح من مرتفع القلعة, وتطوح كلماته الريح الصافية والقوية: (نصب غورى التذكارى الذى دعا إلى انشائه الرئيس كلينتون, لقد جاء هنا عام 1998 وقدم اعتذارا للأفارقة فى أمريكا, وأقيم النصب فى 31 ديسمبر 1999, وهو يمثل باخرة مقلوبة كناية عن نهاية العبودية).

وهل انتهت العبودية?
سؤال كان الذى أطلقه داخلى هو مامادو, اطلقه وهو يتهيأ للرحيل عنى والمغادرة, بينما هممت بمغادرة غوري, وكانت هارمونية ألوانها فى الوداع كما عند الحضور, وقد أضيفت إليها ألوان أخرى هذه المرة, اللون الأصفر الفاقع لجلباب الجـرامبوبو حول عود شيخ فال الأسود النحيل, ولون آخر داكن يتكون من: حمرة الدم, وسواد شظايا البازلت الذى يقطعه العبيد بدانات المدافع, وبنية صدأ القيود حول الأعناق وفى الأقدام, وعتمة بطون بيوت العبيد وأجواف السفن التى تعبر بحر الظلمات, وسواد قلوب المجرمين الذين لم يكفوا عن تجارة العبيد حتى الآن, وإن بأشكال أخرى, حداثية, و ما بعد حداثية, جوهرها استباحة الآخر باعتباره أدنى, وبهدف إعطائه أقل القليل, مقابل اعتصاره للحصول على الكثير.
فهل انتهت العبودية?!.

 

محمد المخزنجي







صورة الغلاف





 





يوسف ندياي, أمين متحف العبيد في غوري, وصورة عمقها ثلاثة قرون (أعلى) تؤرخ لجريمة استعباد الغرب للأفارقة. وبقايا المدافع الكولونيالية عند قمة القلعة





 





تيجان كوتا... يتسنّم قمة غوري, ويتنسّم عبير الحرية الان, ولا ينسى آلام الأسلاف





بمحاذاة المرفأ: ألوان دافئة, وفتات صخور سوداء تحكي عن بكاء الأيادي المغلولة, ونحيب الأرواح التي جرحها الاستعباد





أُغلق باب العبودية, وشُرَّعت النوافذ للنور, وجيل جديد... هل ينسى الثأر من مرارة الماضي?!





لم يستثنوا صغيرا ولا كبيرا ولا أما ولا أبا, من أغلال التجارة المجرمة, وقسوة محيطها ومراكبها الفظة





غوري... بشر بجمال لون الليل ووداعة صفوه, وبيوت بعمر القرون, وأشجار الباوبات تحاكي زهد الأفارقة وصبرهم الطويل





غوري... بشر بجمال لون الليل ووداعة صفوه, وبيوت بعمر القرون, وأشجار الباوبات تحاكي زهد الأفارقة وصبرهم الطويل





غوري... بشر بجمال لون الليل ووداعة صفوه, وبيوت بعمر القرون, وأشجار الباوبات تحاكي زهد الأفارقة وصبرهم الطويل





في جزيرة بلا سيارات, ولا دراجات, ولا قبور, ثمة مساحة للغناء والزهور فوق الرءوس.. والابتسامات أيضاً





في جزيرة بلا سيارات, ولا دراجات, ولا قبور, ثمة مساحة للغناء والزهور فوق الرءوس.. والابتسامات أيضاً





ظهر بيت العبيد المُفضي إلى الأطلسي, وإطلالة من (باب النهاية) تذكِّر برعب الماضي وأحزانه





ظهر بيت العبيد المُفضي إلى الأطلسي, وإطلالة من (باب النهاية) تذكِّر برعب الماضي وأحزانه





ظهر بيت العبيد المُفضي إلى الأطلسي, وإطلالة من (باب النهاية) تذكِّر برعب الماضي وأحزانه





 





من نهارات الجزيرة, خطوات في ممشى السادة في بيت العبيد القديم, وفضول القادمين عبر البحر, وفرقة أطفال وطبول, تعالج الفقر بالأناشيد, لا بالتكفّف





 





 





بيت السنيورة فيكتوريا - 1776 - على شكل سفينة, كان مستودعاً للعبيد, ثم متحفاً لغرب إفريقيا (الفرنسي)!





شراع ملئ بالثقوب, يرمز لانتهاء العبودية!... هدية أمريكا كلينتون, لجزيرة الآلام والألوان