دعوة للتوازن بين ثنائية العقل والوجدان

دعوة للتوازن بين ثنائية العقل والوجدان

نشرت (العربي) في عددها رقم (511) يونيو 2001 للكاتب شوقي جلال تحت عنوان: أيهما يحجب الآخر العقل أم الوجدان?

لقد حاول الكاتب سبر غور الفكر الإنساني وقسّم وعي الإنسان إلى قطبين متناقضين هما العقل والوجدان, ساعياً إلى محاولة فرز, وتخصيص العقل والوجدان بشيء يخص أحدهما دون الآخر, فالعقل هو علم الدنيا وله قواعده ومنهجه المتطوران أبداً, أما الوجدان فتتمثل عناصره في القيم والعقيدة والأيديولوجيا والإيمان وهو ما يؤلف الموروث الثقافي.

وبسيادة العقل على الوجدان تتم عملية تطور المجتمعات لأن الوجدان يحجب العقل تحت مسميات ذاتية أو قدسية ويعمد إلى الحد من سلطاته وينزع في عصور الانحطاط والتخلف وادّعاء حق الهيمنة الكاملة والمرجعية المطلقة ونفي كل سلطان للعقل.

ومما لاشك فيه أن محاولة الفصل بين العقل والوجدان فيها شيء من الافتئات على العقل ذاته. لأن العقل والوجدان, وإن كانا يبدوان منفصلين للوهلة الأولى, إلا أن المتمعن سيرى هناك وشائج قوية بين الطرفين, فكل منهما مكمل للآخر ويرتبط أحدهما بالآخر وجوداً وعدماً, ففي الوجدان تنبثق الحاجة للتطور وذلك في صورة دافع يأمر العقل بوضع وصياغة الأسس والقوانين لتلك الحاجة, فالوجدان يلعب دور المحرض للعقل, فبذور جميع الابتكارات العلمية تظهر في الوجدان في صورة حاجة والتي بدورها تشكل دافعاً يدفع العقل للبحث عنها وإيجادها. إذن فما نراه من مظاهر تطور في المجتمعات تكون بذورها كامنة في الوجدان, فمثلاً الكاتب لو لم يكن يرى ضرورة نشر مقالته لما أقدم على إرسالها للنشر, فالدافع في كتابته للمقال ينشأ في الوجدان ثم يأتي دور العقل لبلورتها وإخراجها إلى حيز الوجود, فيعتبر الوجدان المحرك الأساسي للعقل بفضل خاصية القدح أو التحريض التي يمتلكها, لكن العقل لا يقف مكتوف الأيدي إذ باكتشافه القوانين والمناهج واليقينيات, يقوم بإرسالها إلى الوجدان لتكوين الموروث الثقافي والمرجعية الثقافية, وكلما شعر العقل بضعف في بنية تلك المناهج والقوانين لجأ للوجدان لاستعادة ذلك المخزون الثقافي للقيام بتطويره ومن ثم إرساله مرة أخرى للوجدان في حلته المطورة وهكذا دواليك.

الطبيعة الدكتاتورية للعقل

لقد صبغ المقال الوجدان بصبغة الحنين إلى الماضي في صورة موروث إيماني غير خاضع للتساؤل أو التشكيك أو المراجعة والبحث واعتبر الوجدان رمزاً للتخلف لأنه ينزع في عصور الانحطاط والتخلف وذلك بخلاف العقل.

والسؤال الذي يتبادر للذهن: هل تنحصر وظيفة الوجدان في الموروث الإيماني فقط أم يتعداه إلى غيره? فمما لاشك فيه أن الوجدان يحضن الإيمان وغيره من القيم والعادات والأنماط والسلوك والتقاليد الاجتماعية, وأن الوجدان وإن كان يتصف بنوع من المحافظة على السائد إلا أنه لا يتوانى في خوض غمار المستقبل عندما يرى ضرورة ذلك, وذلك بفضل خاصية القدح التي يمتلكها مما يدفع العقل للبحث عن الجديد, وهو ما أشرنا إليه في بداية المقال. وإن المحافظة على السائد ليست شيئاً متخلفاً وبدائياً بحد ذاته. بل الخروج على المألوف والسائد قد يدل على التخلف والانحطاط الحضاري, فمثلاً فضائل الشجاعة والكرم وإغاثة الملهوف والإيثار, هي من القيم الإنسانية الراسخة يجب المحافظة عليها والوقوف عندها وتشجيعها مما لا يختلف عليه اثنان.

والإيمان ليس خاصية من خواص الوجدان فقط, بل إنه حصيلة تفاعل بين العقل والوجدان معاً, فالإيمان ذاته ناشئ ومستنتج من قواعد العقل عندما يقوم هذا الأخير بالتصدي لحل مشاكل الواقع, فمن تحليلات العقل واستنتاجاته المنطقية نصل إلى الإيمان.

واعتبر المقال أن النهوض الاجتماعي يكون بالحوار الجدلي بين قطبي العقل والوجدان ولكنه ربط هذا النهوض بتسامح الطرف الوجداني دون الطرف الآخر تحت مبرر أن الوجدان هو الأقدم والأرسخ, كل ذلك دون أن يجد هذا الآخر الحلول البديلة, أليس هذا هدنة وطلب اعتدال يطلبها العقل لالتقاط أنفاسه للانقضاض ثانية على الوجدان? ألا يعتبر هذا إعلاء من شأن العقل تحت مبررات واهية دون أن يقدم الحلول للمسائل المطروحة, وعند عجزه عن الحل يطلب من الوجدان عدم التدخل والاعتدال معه? أليس هذا محاولة لإسقاط الآخر من الوجود وطمسه ومحوه وعدم الاعتراف بدوره في تطوير المجتمع?

إنه ادّعاء بامتلاك الحقيقة دون مبرر, فيبرز طبيعة العقل الدكتاتورية وتمسك هذا العقل برأيه, ولطالما حاول العقل إلصاق هذه التهمة بالوجدان.

ذروة الأزمة

يرى المقال أن الأزمة تبدأ عندما يحتدم الصراع بين العقل والوجدان في لحظات التحول الحضاري تعبيراً عن أزمة واستعداداً لطفرة حضارية. وتكون الأزمة أكثر حدة عندما يكون الفكر التقليدي حائلاً دون الإبداع, وهنا تستلزم حركة النهوض والتقدم انتقاد ما هو أصلي في الإطار الفكري الاجتماعي, وهذا الانتقاد يكون بقصد معوقات الحركة التطويرية داخل البنية الفكرية السائدة.

ولكنني أرى أن الأزمة تبدأ عند إعلان العقل سطوته على مجريات الأمور منكراً دور الوجدان في الحركة التطورية للمجتمع, وتبلغ الأزمة ذروتها عند إفراط العقل في نكرانه وإقصائه للوجدان واتهامه بالتخلف وعدم مسايرته للواقع. كل ذلك دون أن يقوم العقل بدوره في الاعتراف بالآخر وخاصة عندما يتجه العقل إلى خارج المجموعة الحضارية المنتمية إليها وانبهاره بها وقيامه بانتقاء الشكل وليس الجوهر الحضاري, وهذا ما يدفع بالوجدان إلى التصدي للعقل ويحاول إيجاد السبل الكفيلة بإرشاد العقل في عملياته الانتقائية في بحثها الدءوب عن سر حركة نهوض وتقدم المجتمعات, وتحاول إبعاده عن الجانب الشكلي دون الموضوعي.

وهل فعلاً تستلزم حركة النهوض بالمجتمع انتقاد ما هو أصلي وما يرافق ذلك من تجريح وإيذاء وإبعاد للآخر أم يتطلب الحوار الهادئ وعدم ادّعاء أي طرف امتلاك الحقيقة, وإن مقولة انتقاد كل ما هو أصلي يتطلب انتقاد الدين أولاً لأنه يعتبر مكوناً رئيسياً في البنية الفكرية, وهذا ما نرفضه, وإذا كانت مهمة هذا النقد هي اكتشاف مقومات الحركة التطورية, أفلا يجعل هذه المهمة من العقل خصماً وحكماً في آن لأنه سيعتبر كل ما لا يتفق مع وجهة نظره ويعترض طريقه عائقاً للحركة التطويرية وبالتالي سيقصي الوجدان كلياً ويعلن العقل دكتاتوريته المطلقة?

التطور والحركة

رأى الكاتب أن حركة تطور المجتمع هي حركة بندولية بين قطبي العقل والوجدان, لكن التطور ليس بحركة بندولية لأن طبيعة الحركة البندولية تتصف بالمراوحة بين شيئين, بل التطور هو حركة تصاعدية يراها البعض حلزونية الشكل والبعض الآخر يراها مستقيمة, ومهما يكن فالحركة البندولية تعني أنه مهما وصل العقل في تطوره فإنه سيعود القهقرى إلى الوجدان, فتارة ستكون الحركة في جانب العقل وتارة في جانب الوجدان, فإذا كان هذا طبيعة التطور بحسب رأي الدكتور شوقي, فلماذا يضفي الشرعية على أحد طرفي الحركة دون الآخر? أليس مطلوبا من البندول التوقف عند طرف فقط دون الرجوع إلى الطرف الآخر, وبالتالي توقف الحركة البندولية ذاتها ومن ثم توقف التطور بدوره تبعاً لذلك.

صحيح أن الصراع كان دائراً بين المعتزلة من جهة وجمهور المسلمين من جهة أخرى, لكن هذا الصراع كان هادئاً بناء مما أدى إلى الرقي الفكري الحضاري الذي وصل إليه الإسلام. ولقد توصل طرفا الصراع إلى نقاط مشتركة كثيرة منها أن الإنسان مسئول عن أفعاله وهذا ما أكده جمهور المسلمين, وعلى رأسهم الإمام الأشعري. أما ما جاء في المقال بأن المسلمين قالوا بالجبر فهذا ادّعاء يجانب الحقيقة والصواب, لأن الجبر ينفي الاختيار ويرفع المسئولية وبالتالي المساءلة وهذا ما يرفضه الدين الإسلامي.

مشكلة العقل

إن مشكلة عقل الأمة كما أشرنا من قبل, تكمن في التخبّط في عملياتها الانتقائية عند بحثه عن سر تطور المجتمعات ومحاولته الإمساك بالشكل دون الجوهر الحضاري وذلك لانبهاره بالحضارة الوافدة وخاصة الغربية منها, فبتنا نعيش على الفتات الحضاري الغربي فوصل التقليد حتى إلى الأنماط والسلوك فأصبحنا من حيث الشكل غربيين من الطراز الأول, وفي الجوهر نعيش الخواء الفكري والثقافي. ووصل التقليد في الأزياء والعادات حداً نضاهي فيه الغرب, وأصبح انتقاد التراث من المثقفين ضرباً من ضروب ادّعاء الثقافة والتمدن. فبتنا نعيش أزمة لا فكاك منها في المستقبل المنظور, كل ذلك دون أي التفات إلى الخصوصية الثقافية للمجتمعات, فباتت الأمة تلعن عاداتها وتراثها وتقاليدها موهمة نفسها بامتلاك ناصية الحضارة ولكن هيهات.. هيهات.

 

مصطفى محمد ويس