من المكتبة العربية

من المكتبة العربية

تيارات الفكر المصري المعاصـر 1970 - 2000
من نقد النظام إلى نقد الذات

يثير هذا الكتاب قضية جوهرية في تطور الفكر العربي وهو يتناول فترة حرجة امتدت من سبعينيات القرن الماضي
ومازالت آثارها تتوالى حتى اليوم.

محاولة دراسة تطور الفكر المصري المعاصر عبر تياراته المتشعبة مضنية وشاقة لكون مادتها العلمية متناثرة في الدوريات والمجلات وكلها تحمل أفكارا عامة أو شائهة وتطوف عند رموز هذا التيار أو ذاك ويتداخل عبرها الفكر مع السياسة بمفهومها البرجماتي دون التنبه لقيمة البنية الفوقية للمجتمع وعلاقاتها بالبنية التحتية فضلا عن أن التعامل مع الفكر العربي بشكل شمولي يشوه المحاولات الجادة لممثلي التيارات الفكرية المختلفة علاوة على ذلك نرى أن معظم الكتابات التي تناولت الفكر العربي عامة والفكر المصري بخاصة لم تصل إلى تنظير عضوي لأهم قضايا عصرنا الذي اهتز بعنف تحت نير الهزائم المتوالية بداية من هزيمة 1967 مرورا بخيبات مريرة من أمثلة كامب ديفيد وزلزال حرب الخليج الثانية وأخيرا الهجمة الأمريكية ضد الإرهاب.

وما تعانيه الجماهير العربية من كبت للحريات قد ينفجر في لحظة قادمة لا يدري أحد عواقبها علاوة على ما يعمل بالسلب في بنية الفكر العربي الذي تواجهه مؤامرات خارجية ضدنا ويمين صهيوني متحجر يتوسل بالعقيدة ويتعجل بالسياسة ما يريد من أطماع.

وأصبحت قيم الديمقراطية هي الوجه الآخر لمحاولة (السيطرة) الحضارية. وقد أفرز ذلك كله ظاهرة السيولة في العلاقات الدولية والخصخصة وتداعياتها في مرحلة جديدة من مراحل النهب المنظم لإرادتنا.

إجابة عن سؤال خفي

وكل ما سبق الإشارة إليه كان سببا محضا لمحاولة د. مصطفى عبدالغني تقديم دراسته الجادة (تاريخ الفكر المصري المعاصر) ومما يميز هذه الدراسة أنها تناولت منطقة تاريخية (السبعينيات وما بعدها) وهي مرحلة تفتقر إلى الدراسات المتعمقة التي لا تكتفي بأن تلمس سطوح الظواهر وإنما تتعمق نشأتها وتطوراتها عبر الزمن.

ولذلك آثر المؤلف المنهج النقدي وقبله المنهج التاريخي والإفادة من المنهج المقارن. وتعتبر هذه الدراسة أحدث دراسة جادة تطرح سؤالا خفيا وواضحا في آن واحد مفاده: لماذا تخلف العرب والمسلمون? وكيف ينهضون?

ويحمد للكاتب محاولته الجادة في رغبته الجادة في تنظيم حركة (الفوضى) التي اجتاحت تطور الفكر العربي خاصة في السنوات الأخيرة فالتيار الفكري في السبعينيات كان امتدادا للعصور السابقة, فعلى سبيل المثال وجدنا البعض يرى أن الاتجاه الديني (السلفي) تطور إلى تيار ديني معاصر, والاتجاه القومي أصبح توفيقيا بين (حقيقته الثيوقراطية) ومفاهيمه الجديدة العلمانية, كذلك فإن التيار الماركسي والتيار العلمي أصبح كل منهما أثرا من آثار الاحتكاك بالحضارة الحديثة. وقد انتهى مصطفى عبدالغني إلى أن الفكر المصري تطور في السبعينيات من القرن الماضي إلى تيارات أخرى, لكنه لم يخرج عن ثلاثة تيارات (الديني - الغربي - التوفيقي) في حين أن شبكة الفكر العربي تشعبت وامتدت إلى تيارات وتفريعات كثيرة تحتاج إلى إعادة النظر في الواقع الفكري الجديد.

وفي التيار الديني استطاع مصطفى عبدالغني تجلية هذا التيار بوضوح استغرق أكبر جزء من الكتاب وبخاصة الجناح القبطي وخاصة تيار من يعارضون التمثيل السياسي المطلق من جانب الكنيسة لأقباط مصر.

وهذه المعارضة - كما يقول (رفيق حبيب) - لها تاريخها الذي يعود للخلف إلى بدايات المجلس الملي ومحاولة العلمانيين (أعضاء الكنيسة غير الإكليروس) القيام بدور داخل الكنيسة في فترة ما كان الأقباط يقومون بدور كمصريين في الشارع السياسي المصري إلا أن القضية الحقيقية هنا هي أن الذي يعارض الكنيسة - الآن - يشعر بأنه يعارض كيانا مؤسسيا ضخما وله جماهيره الضخمة وبالتالي فهو مهدد بأن يرفض من المؤسسة ومن الجماهير. ومن الواضح أن التجربة العملية قد تثمر لونا من ألوان الإحساس العام في هذا الإطار, فمسألة تمثيل الكنيسة السياسي للأقباط تمثيلا مطلقا دفع بهم - عمليا - إلى ما يشبه الحارة السد, وبالتالي قد يوجد هذا الوضع لونا من ألوان المناخ النفسي والميل النفسي للتخلص من هذه الحالة تدريجيا وهذا ما أكده رفيق حبيب مبررا أن وضع المسيحيين كجماعة دينية متبلورة داخل مؤسستهم الكنسية, ثم قيام المؤسسة بالتعبير عنهم أوجد لونا من ألوان الطائفية السياسية, وبالتالي أصبح لهذا الوضع مطالبه الطائفية السياسية ووضعها في حيّز ضيق جدا من الحركة يختلف عن الحركة في الشارع المصري عموما.

وتعريجا على أقباط المهجر الذين طالبوا بتدخل دولي لحماية الأقباط المصريين تؤكد الدراسة أن هناك فجوة بين الكنيسة وأقباط المهجر بسبب أسلوب وكيفية التعبير عن الرفض والتمرد كلما كانت الكنيسة لا تظهر رفضها وتمردها أي: كلما كانت تؤيد الدولة على طول الخط.

ورغم أن هذه الجماعة منذ قيامها في السبعينيات وتحالفها سياسيا مع الدول الغربية ومطالبتها بمقاعد برلمانية للأقباط ومحاولتها تكوين (لوبي) يمارس ضغوطه السياسية على الدول الغربية محاولا تحقيق مصالح ومطالب للجماعة داخل مصر. فهذه الجماعة لم تعبر فقط عن رد فعل للأحداث الطائفية التي شهدتها مصر بمقدار ما عبرت عن نزعة لوجود دور سياسي قبطي, وهذه النزعة كما يقول رفيق حبيب ترتبط بفكرة الأمة القبطية والشعب القبطي والتراث القبطي, فهذه الجماعة تتعامل مع أقباط الوطن باعتبارهم حالة مثل الأرمن, حالة شعب يبحث عن هويته ويحاول تجميع الشتات وتجميع التراث.

ومما سبق نرى مصطفى عبدالغني استطاع أن يرصد هذا التطور للفكر القبطي عبر عدة ملاحظات جديرة بالذكر يأتي على رأسها:

سعي الغرب لاستقطاب الجماعة القبطية بهدف تسييرها في مجرى الكاثوليكية أو الإنجيلية مما يسهل السيطرة عليها فكريا واستعماريا وهو ما بدت معه الكنيسة يقظة منذ محاولاتها الأولى إلى تحديث الكنيسة المصرية دون التنازل عن هويتها وتكوينها المصري.

الرافد الإسلامي

وبالنظر إلى الرافد الآخر داخل التيار الديني وهو الرافد الإسلامي والذي تنتمي إليه كثير من الجمعيات والشخصيات والجماعات بعضها معروف بميله إلى إرضاء النظام السياسي في مصر الذي يملك حق المنح والمنع ويملك الأخذ والعطاء ومن تلك الجماعات (الجمعية الشرعية) و(الطرق الصوفية) و(أنصار السنة المحمدية) وعلى النقيض من ذلك تأتي جماعة (الإخوان المسلمين) والتي ساءت العلاقة بينها وبين الدولة وتمخضت عنها ضربات عنيفة ضد (الإخوان) في الإعلام ومصادر التمويل والنقابات, وقد توجت هذه الضربات بالقبض على قياداتهم والحيلولة دون دخولهم انتخابات (1995) وعلى الجانب الآخر هناك (السلفيون الجدد) أو (التيار الإصلاحي الجديد) وهذا التيار وإن كان يمثل امتدادا للشيخ محمد عبده فإن المنتمين إليه من السلفيين ـ كما يقول محمود أمين العالم ـ يرفضون وبشكل راديكالي ما يسمى التغريب والحداثة وغايتهم الاندماج المصلحي العملي مع الأنظمة الرجعية العربية ومع المشروعات الرأسمالية العالمية وينتمي إلى هذا التيار عدد كبير من الإسلاميين من أمثال (محمد عمارة وطارق البشري وفهمي هويدي) وفي زاوية أخرى من الحياة الفكرية ظهر ما يسمى (التيار الإسلامي المعاصر) داعيا إلى طرح القضايا الإسلامية المعاصرة في إطار من (الاجتهاد) ومن أهم رموزه محمد سليم العوا وعائشة عبدالرحمن وحسن شافعي, وثمة اتجاه آخر تزعمه (حسن حنفي) يسمى (اليسار الإسلامي) لا ينتمي لنظرية أو إطار إسلامي متكامل وركز حول محاربة الظلم الاجتماعي والسياسي, والجهاد في سبيل الله والمستضعفين والتمسك بالديمقراطية ولكن يعاب عليه الغموض الشديد وارتباط كلمة اليسار بالشيوعية أفقدته جماهيريته.

تيارات إسلامية عنيفة

وإذا عدنا إلى أكثر التيارات عنفا والتي ظهرت عقب هزيمة 1967 وجدنا (تنظيم التحرر الإسلامي) لصالح سرية و(التكفير والهجرة) و(جماعة المسلمين) وهذه التيارات قالت بجاهلية المجتمع وكفرت كلا من المجتمع والنظام السياسي وبعنف شديد تم التعامل معهم وتصفية قياداتهم وتلاهم تنظيمان أكثر عنفا (الجهاد الثاني) لكرم زهدي و(الجماعة الإسلامية) و(الجهاد).

وقد أرجع الإخوان أزمة حرب الخليج إلى مجموعة من الأسباب بعضها داخلي يخص الأوضاع الاجتماعية والسياسية للمجتمعات العربية وبعضها الآخر خارجي يتعلق بالتآمر والعداء الذي يكنه الغرب والصهيونية للأمة الإسلامية.

ومن جهة أخرى, شن مصطفى مشهور نائب المرشد العام هجوما شديدا على القومية العربية كمنهج دعت إليه وآمنت به النظم العربية وأكد أن أزمة الخليج (هي ثمرة خبيثة لشجرة القومية العربية المنبتة عن الإسلام) وتساءل في مرارة (هل عند المنادين بالقومية العربية حل أو مخرج من هذه الكارثة التي تأكل الأخضر واليابس وتحقق للعدو الصهيوني أكبر مكسب ييسر له تحقيق أطماعه التوسعية من النيل إلى الفرات) وفي مناسبة أخرى أعلن مصطفى مشهور أن (تلك القومية التي تربط الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية رابطة هشة ضعيفة وكان الهدف منها (أي الجامعة العربية) هو صرف الدول الإسلامية عن الجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية التي تشكل خطرا على الأعداء ومصالحهم).

وقد اختلفت رؤية الإخوان للقومية العربية ووظيفة الجامعة عما كانت عليه رؤيتهم خلال الأربعينيات, فقد كان المرشد العام آنذاك (حسن البنا) لا يرفض القومية العربية جملة وتفصيلا, ويتفق (الجهاد) مع الإخوان في رفض القومية وإدانة الجامعة العربية.

ولكن بينما نظر الإخوان للقومية والجامعة على أنهما من أسباب أزمة حرب الخليج الثانية نظر (الجهاد) إلى الأزمة باعتبارها سببا للقضاء عليهما, يقول عبود الزمر: (إن هذا الغزو قد أجهز على النظام العربي برمته ودمر كل دعاوى القومية إلى آخر تلك الشعارات وإن هذه الأزمة جاءت لتحول الجامعة إلى أنقاض).

وليتأكد رفض الإخوان للغزو العراقي للكويت وللنظام العراقي طالبوا بانسحاب العراق فورا وهاجم المتحدث الرسمي باسم الإخوان صدام حسين لديكتاتوريته واستبداده وسوء تقديره للظروف الدولية وأنه لم تكن له حجة شرعية أو عقلية أو دولية في غزوه للكويت وأن ما فعله كان كارثة. واللافت للنظر أن جماعة (الجهاد) رغم طابعها الراديكالي لم تستهوها عملية غزو العراق للكويت وكانت أكثر وعيا وإدراكا من كل الجماعات الإسلامية في الوطن العربي لمدى تعقد الأوضاع الدولية على نحو لا يسمح بمثل هذا العمل ويجعل من محاولة حل قضية فلسطين عن طريقه - حتى إذا صدقت النيات - محاولة فاشلة. يقول عبود الزمر: (مسألة اقتحام العراق للكويت على النحو الذي جرى لا يجوز أن تكون سلما مشروعا إلى حل القضية الفلسطينية خاصة أن الولايات المتحدة لم تكن تقبل بتلك المقايضة).

أزمة الإخفاق

ورغم موقف الإخوان هنا الذي يبدو في ظاهره معتدلا بين جميع التيارات, كان تيار الإخوان يواجه الإخفاق المرة تلو الأخرى - كما يقول مصطفى عبدالغني - حين يحاول أن يعبر عن فكره خلال التحالفات أو (الأسلوب) الذي لجأ إليه, وقد ظهر هذا الإخفاق في عديد من المرات سواء تحالف الإخوان مع الوفد (1984) أو مع (العمل والأحرار) (1987) أو في مقاطعة حزبي العمل والوفد الانتخابات (1990) أو حين تنبه النظام نفسه لخطورة فكر الإخوان ومن ثم بادر مبكراً قبل انتخابات (1995) إلى التذرع بعدة اتهامات قانونية فألقى القبض على عناصر الإخوان في أغلب المحافظات ووجه تهما خطيرة إلى قادتهم تحولوا بعدها إلى المحاكم العسكرية ليحكم عليهم أحكاما قاسية, وتولت أجهزة الأمن إلاجهاز سياسيا على من بقي منهم خارج السجن. وعلى هذا النحو, فإن أيا من التنظيمات أو الجماعات الإسلامية لم تستطع أن تلعب دورا فكريا في تأكيد كثير من الأفكار التي دعا إليها قادتها وبقيت القضايا المهمة التي دعا إليها التيار الديني تتأرجح بين السياسة والمجتمع والدين, فمسألة التراث لم تحل, وعلاقة الدولة بالدين لم تحسم, وقضية الديمقراطية لم تعدُ قط صورة (الشورى) وقضية النهضة الإسلامية لم تتعد العودة للوراء لاستلهام الماضي أو نقله كما هو. كما ظلت مسألة الغرب هي هي في الفكر الديني, إذ ظلت علاقة التيار الديني بالغرب يشوبها الحذر والكفر خاصة أن الغرب لعب دور المستعمر أكثر من دور الحضاري.

وكما يقول مصطفى عبدالغني: (لم تكن مأساة هذه الإشكاليات غير تفسير لثقافة تقليدية لم تستطع الخلاص من تربص النظام, فظل رفض الدولة كما هو, ورفض الحاضر لم يتغير والخلاص (بالتقية) أو العنف السائد بها, ولم يستطع أي رافد إسلامي إنجاز مشروع إسلامي جاهز حتى اليوم).

اتجاهات يسارية

وعبر القضية نفسها (حرب الخليج) يجلي لنا مصطفى عبدالغني اتجاه اليسار المصري فيرى أن موقف الحزب الشيوعي المصري لم يتكون فقط من موقفه الأساسي من العداء للغرب ممثلا في الإمبريالية الأمريكية وإنما أيضا من المصير الذي كان يلاقيه الحزب الشيوعي العراقي على يد صدام حسين.

وفي بيانات الشيوعيين, نرى التركيز الواضح على الديمقراطية والدعوة إلى التحصن بها للخروج من تحت سيطرة القوى الداخلية التي تعوق حركة الشعوب للتصدي للقوى الخارجية.

الردة الفكرية

وبما أن المفكر والمثقف وليد البيئة الفكرية فإن قضية (الردة الفكرية) شغلت بال المؤلف كثيرا وطرح تساؤلات عديدة عساه يجد إجابة عن تحولات المثقفين, واتخذ من عبدالرحمن بدوي نموذجا في تحولاته من الوجودية إلى الإيمان (الإسلام).

- هل كان بدوي متراجعا من الوجودية إلى الإسلام?
- أم كان ينتمي - في الأصل - إلى العقيدة الإسلامية بشكل ما?
- أم كان يحمل في وجوديته جذورا إيمانية وصلت به - عبر التحول في سنوات طويلة - إلى الإسلام كعقيدة?

وبدراسة نتاجاته الفكرية التي نيّفت على خمسة وثمانين كتابا تتوزع بين التحقيق والسيرة الذاتية والترجمة وتحتل الدراسات الإسلامية المباشرة فيها نحو (50) مرجعا, إضافة إلى كتاباته الأخيرة التي صدرت بالفرنسية يدافع فيها عن الإسلام دفاعا مجيدا, وقد أعلن أنه يستهدف بها الغربيين خاصة المستشرقين المحدثين ممن يهاجمون الإسلام ومن هذه الكتابات:

1 - الدفاع عن القرآن ضد منتقديه.
2 - الدفاع عن حياة النبي محمد ضد المنتقصين لقدره.
3 - الإسلام كما ارتآه فولتير وهيردر وجيبون وهيجل.. وهذه الكتابات دفعت البعض إلى القول بردة عبدالرحمن بدوي عن وجوديته. ويرى حسن حنفي أن كتاب (روح الحضارة العربية) لبدوي في الأربعينيات يعبر عن أن اتجاهه الإسلامي ينتمي إلى تلك الفترة, وأن الرد على المستشرقين كان أحد بواعثه المبكرة, والمدقق في كتابات بدوي يرى كتاباته تدور حول ثلاثة أضلاع: (التراث القديم - والتراث الغربي - الدفاع عن الإسلام) ورغم أن الضلعين الأولين لا يخلوان من انعكاس العقيدة الإسلامية على وجوديته, فإن بدوي في الضلع الثالث (الدفاع عن الإسلام) يؤكد تفرغه تماما للكتابة عن الإسلام.

بيد أنه إذا كان هذا الاهتمام لدى بدوي قد ظهر مبكرا. كما أسلفنا القول في فترة الأربعينيات وأن هذا التجلي وصل إلى أقصاه في الحقبة الأخيرة, فمن المؤكد أن جذورا بعيدة أكيدة كانت تؤكد أن بدوي لم يكن مرتدا فجأة كما حاول البعض تصويره, وإنما كان نبت العقيدة أو الإيمان موجودا بشكل ما بداخله وعبر كتاباته.

وعلى جانب آخر, أثار الكاتب قضية جوهرية ذات علاقة وثيقة بتطور الفكر المصري والعربي وهي قضية تفسير التاريخ والتي بها قيمة (مهدرة) خاصة لدى الجماعات الإسلامية ويشير إلى أن عدم تطور التاريخ الإسلامي يظل أهم أسباب عدم استيعاب ما يدور حولنا في إطاره التاريخي. ويؤكد أن المشروع الإسلامي عند الجماعات الإسلامية يتحدد في المقام الأول حول مسلمات لا تقبل النقاش (فالحاكمية الأهلية غائبة والجاهلية والكفر حاضران في كل ما حولنا نظما وفكرا وسلوكا وواجبنا كمسلمين حقيقيين أن نرد الحاكمية لله ونقيم دولة الخلافة من جديد), معتمدين بيقين هذه المسلمات على الدليل الديني والنقلي مركزين على العصر الذهبي للإسلام آملين في عودة التاريخ إلى الوراء لإعادة تجربة السابقين من جديد.

ويعلي الكاتب من قدر التفسير العقلاني للقرآن الذي ينحو إلى الوعي في التعامل مع العقل لدى محمد عبده في تفسيره للتاريخ ويندد بالجماعات الإسلامية المعاصرة التي تؤثر النص والشريعة دون مناقشتها بل تجعل العقيدة في خدمة السياسة. ويوافق (أوليفيه كارييه) في القول إن كتاب (في ظلال القرآن) كان أكثر تحفظا عند موضوع التطابق بين القرآن والعلوم الحديثة وفي رأيهما أن سيد قطب تجنب ذلك مفضلا الارتكاز الدائم على الإيمان وقال بالنص (الجانب غير العقلي في القرآن هو ما جعله قطب المرجع الوحيد لتفسير التاريخ, وبهذا المفهوم تصبح سنن الله هي الوحيدة التي يفسر بها التطور التاريخي وهي عنده سنن أخلاقية تلغي ما دونها وهو المادي الذي لا يعلو إلى قوانين القرآن ونصوصه).

وتناسى تماما أن الثقافة الإسلامية أبدعت فنا في دراسة التاريخ يسمى علم (الجرح والتعديل) وتابع المستشرقون الذين سلكوا طريقا أخرى بأن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان مطابقا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد. أما بالنسبة للقرآن فالأمر مختلف تماما فكل ما يثير شكا أو يهيئ احتمالا تناوله الأئمة والعلماء بمنهج صارم بلغ الغاية في شموله وبلغوا الغاية في تطبيقه سواء في ذلك نقد الأسانيد ونقد المتون.

وربما كان من المهم أن نقول إن الشك المنهجي, لا محل له في قضية تم قياسها ونقدها بأدق ضروب الشك المنهجي وهذه نقطة الانفصال بيننا وبين المستشرقين الذين كتبوا عن تاريخ القرآن ابتداء من (نولدكه) و(شوالي) و(برجيشتراسر) و(برتزل) و(آرثر جفري) و(رجيس بلاشير) في كتابه (المدخل إلى القرآن) وفي (ترجمته للقرآن) التي أقحم فيها على النص القرآني بعض الكلمات ادعاء منه أنه يستكمل النص على ما ينبغي أن يكون عليه وأخطر من ذلك قول بلاشير (إن المؤمنين كان يعنيهم روح القرآن لا حرفه ونصه) ونحن لا نرفض التفسير العقلاني للتاريخ والقرآن بل الرفض لاتباع الهوى والحكم بغير دليل مقبول من الشرع, ومع الاجتهاد وإعمال العقل فيما لم يرد به نص معتمدين القياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف, فإذا كانت الواقعة المعروضة لا نص فيها لا في القرآن ولا في السنة فإن المجتهد (المفسر) يبذل جهده ويعمل عقله للوصول إلى حكم لها, ويتعين عليه أن يبني هذا الحكم على دليل شرعي معتمدا منهج الاستقراء. وفي هذا الصدد يقول الشهرستاني (نعلم قطعا ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص, ولا يتصور ذلك أيضا والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى, علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاده).

 

مصطفى عبدالغني





غلاف الكتاب





د. محمد عمارة





د. عبدالرحمن بدوي