مساحة ود

 مساحة ود

ومن يسمع?!

عودت نفسي في الليل على قراءة خفيفة أو سماع موسيقى أو متابعة فيلم سينمائي. بعدها أتهيأ لنوم عميق وأحلام أتوسم أن تكون سعيدة.

لكن دائما تأتيني أصوات غير مألوفة لرجال ونساء يطالبونني بالحديث إليهم ولحساسية وضعي كامرأة وحيدة في العالم الثالث أتوجس من هوية الطالب أو الطالبة فأتحصن بالرد بعنف ورفع سماعة الهاتف. ويبدو لي أن النوم الهادئ فكرة أقرب إلى السراب. وبقليل من التأمل اكتشف أنه حتى الأهل والأصدقاء صاروا مجرد علاقات صوتية لا ترى, تسمعها فقط في التليفون وفي الليل تحديدا حين تتعاظم على الناس مشاعر الفقد وعدم التحقق وفقدان البهجة والسعادة.

فكرت في تلك الظواهر التي انتشرت في المرحلة الأخيرة وقد تعددت أسباب العنف والملل والضجر وتقطعت على نحو ما أسباب التواصل والعلاقات الإنسانية, حتى أغلب علاقات الزواج والحب والصداقة والزمالة في سياقاتها المألوفة لم تعد علاقات مشبعة لأطرافها.

ومن يوم لآخر تتعدد الأسباب - والإحساس بالاغتراب في الحياة واحد - في الوحدة أو في سياق علاقات اجتماعية منظمة لتباعد فيما بين البشر, فلم يعد أحد بقادر على أن يسمع أحدا فقد تجد في الأسرة الواحدة ثلاثة من الأجيال كل ينتمي لمرحلة سنية مختلفة, الأب من جيل والأم من جيل آخر والأبناء من جيل ثالث, وقد تفشت أسباب الخرس الزوجي والعنف الأسري وأصبح الجميع مشدودين من آذانهم كل إلى عالمه ليجلسوا إما في المقاهي أو أمام الإنترنت أو أمام الفضائيات كما لو كانوا مرضى يجلسون في حجرة انتظار الطبيب. الجميع يفتقدون المفتاح السحري للغة الحوار والإحساس بالأمان وقد امتلأت محاضر الشرطة بمشاجرات أسرية والمحاكم بملفات قضايا الطلاق وانتشرت حالات خلع الأزواج وصارت أسهل كثيرا من خلع الأسنان,فتفشت ظاهرة البرامج الكلامية أو برامج الفضفضة وطلب الوقت للبوح مثل الاعترافات الليلية والدردشات على الإنترنت والمراسلات على البريد الإلكتروني لبشر قد لا يعرفنا ولا نعرفه والمحادثات التليفونية لأطراف غير معلومة لبعضها البعض, وهي بديل مقنع للحوارات مع الطبيب النفسي لنقنع أنفسنا بأن ليس ثمة خلل نفسي أو اجتماعي يخدش الصورة الجميلة التي نحرص عليها جميعا في المرآة كل صباح.

كل الذي نرغبه فقط هو أن نتحدث, ويسمعنا أحد. هذه الظواهر لم تستثن دولا فقيرة أو غنية فالمشكلة واحدة في كل بلدان العالم. منذ أيام قرأت خبرا طريفا نقل عن جريدة (الأوبزرفر) البريطانية أن الحكومة تعد خطة فريدة من نوعها تقضي بتنظيم برنامج جديد يهدف إلى تدريب سائقي سيارات الأجرة على الإنصات إلى الركاب بدلا من توجيه الكلام إليهم, فقد كشفت الدراسات عن أن سيارات الأجرة توفر مناخا مريحا لمساعدة المواطنين على البوح بمشكلاتهم.

وخبر آخر أكثر طرافة عن أرقام مكاتب بأمريكا يمكن للمواطن الذي يرغب في إزاحة قدر من التوتر والحزن والغضب أن يطلبها لتحكي لك نكتة وإن لم يضحك فلا تضاف نفقاتها إلى الفاتورة.

إن الرغبة في أن يسمعنا أحد أو في البوح والإفضاء لتخفيف حدة القلق والتوتر صارت شاغلنا.

 

نعمات البحيري