سلطة التربية ومجازفات التسلّط

سلطة التربية ومجازفات التسلّط

لاشك في أن التربية تتطلب قدراً من ممارسة سُلطة المربي, لكن أين تبدأ حدود هذه السلطة, وأين تنتهي?

تحتل مسألة السلطة قطب الأهمية المركزية في مجال التربية والحياة الاجتماعية, وتطرح نفسها بقوة في خضم المشكلات التربوية التي تواجه المجتمع الإنساني المعاصر. لقد أثارت إشكالية السلطة التربوية جدلا فكريا ساخنا, ومماحكات تربوية, سجلت نفسها في أصل نمو عدد من النظريات التربوية, التي تبحث في قضية السلطة التربوية وماهيتها, والتي ترصد اتجاهاتها في دائرة صلاتها الدينامية مع أشمل قضايا الحياة الإنسانية وأوسع مجالاتها.

اتجاهان

يذهب بعض المفكرين التربويين إلى الاعتقاد بأن التشدد في ممارسة السلطة التربوية يوجد في أصل كل العقد التربوية والاضطرابات النفسية, وعلى هذا الأساس جرى الاعتقاد بأن كل سلطة وكل عقاب يقع على الطفل يؤدي إلى نتائج خطيرة جدا, ومن هذا المنطلق ساد تيار تربوي عالمي يدعو إلى نوع من التسامح التربوي غير المحدود والذي بموجبه يترك للأطفال الحبل على الغارب ليفعلوا ما يرغبون فيه بعيدا عن كل سلطة أو تدخل من الراشدين, لأن السلطة قد تؤدي, كما يذهب أنصار هذا الاتجاه, إلى هدم البناء النفسي والتربوي عند الناشئة والأطفال.

وعلى خلاف الاتجاه السابق يمكن الإشارة إلى اتجاه تربوي مغاير تماما يدعو أصحابه إلى توظيف المنهج التربوي التقليدي الذي يدعو المربين إلى توظيف فعّال للسلطة التربوية في تربية الناشئة والأطفال رغم التحذيرات التربوية التي ترى في هذا الأسلوب التربوي ما يهدد إمكانات النمو المتكامل عند الأطفال.

ومع ذلك يكاد يجمع علماء النفس الحديث اليوم على إدانة أسلوب التسلط, وهم في سياق ذلك يتفقون على أن التسلط يشكل واحدة من أبرز وأخطر المشكلات التربوية التي تعيق النمو النفسي للطفل والتي تؤدي إلى ردود فعل بالغة السلبية عنده.

وإذا كانت إشكالية السلطة التربوية تهاجم عقول المفكرين وتتحدى إمكانات التنظير لديهم, فإن المعاناة التي تطرحها في ميدان التجربة وفي مستوى الممارسة تجعل من تجارب المربين مصدرا لكل معاني البؤس والشقاء. فالمربون يعيدون غالبا النظر في عقائدهم التربوية وقناعاتهم الفكرية, ويجدون أنفسهم في مواجهة مشكلات تربوية تتجاوز حدود ما تطرحه النظريات وما تسفر عنه العقائد التربوية. ويقف المربون غالبا في حيرة من أمرهم فهم لا يستطيعون تحقيق التوازن التربوي بين ممارسة مبدأ السلطة وممارسة مبدأ التسامح في العملية التربوية, وغالبا ما ينجرفون إلى اتخاذ موقف التطرف الذي تفرضه أحوال التعارض بين الأسلوبين, وبين العقيدتين.

وتكمن الإشكالية - كما نعتقد - في ضبابية مفهوم السلطة وعدم القدرة على اكتناه مضامينه الإنسانية والاجتماعية, فممارسة السلطة لا تعني في كل الأحوال تسلطا, وهذا يعني أن ممارسة السلطة أمر يحتاج إلى ذكاء وخبرة, فالسلطة لا تعني القهر إذ قد تكون عنصرا جوهريا في عملية الحب والتسامح.

فالتربية لا تقوم على أساس السلطة بل على أساس الذكاء الذي ينطلق من المحبة. والحياة من غير الغفران والتسامح تتحول إلى صراع من أجل بقاء الشخصية, لقد علمنا الذكاء والحب أن التربية لا تكمن في السلوك السلطوي وذلك وفقا للطريقة التقليدية. إن احترام الحرية الداخلية للفرد يجب أن تشكل المنطلق الأساسي لممارسة السلطة التربوية وهي السلطة التي تبدو في غاية الأهمية من أجل الفعل التربوي.

ولا يمكن للتربية أن تجري من غير سلطة, فالسلطة التربوية تكمن في أصل الفعل التربوي وتشكل منطلق وجوده. وفي معرض الحوار مع هؤلاء الذين ينتصرون لفكرة التربية من غير سلطة, نقول بأنه ليست السلطة بحد ذاتها هي السبب في بناء العقد النفسية عند الأطفال, وإنما تنشأ العقد النفسية نتيجة لغياب الحب الضروري لعملية نمو الأطفال وازدهارهم.

إن العنف الذي يمارس ضد الأطفال والذي يتنافى مع الحب والاحترام يؤدي إلى جروح نرجسية وجودية تنال من كرامة الطفل ومن وجوده المعنوي وتؤدي إلى الإضرار بحياته وبوجوده.

منبع الإحساس بالأمن

يعتقد المربون أن سلطة الراشد على الطفل فعل تربوي طبيعي لا يقبل المناقشة أو الجدل, والطفل نفسه يشعر بأهمية السلطة ويبحث عنها كضرورة حيوية لوجوده الاجتماعي. يلاحظ في المدرسة - على سبيل المثال - أن المعلم الذي يترك الأطفال وشأنهم يفعلون ما يشاءون ليس هو المعلم الذي يحظى بحب الأطفال بدرجة أكبر, فالأطفال يقدرون عاليا أهمية السلطة التي يمارسها الراشدون. ويأتي هذا التقدير للسلطة نتاجا طبيعيا لحال الضعف الفيزيائية وغياب النضج العقلي عند الأطفال: فوجود السلطة يلبي حاجة جوهرية عند الطفل حيث تضمن له الإحساس بالأمن الفيزيائي والعاطفي والإنساني.

وليس من الضرورة أن نلحّ على أهمية الأمن الفيزيائي للطفل وذلك بالقياس إلى أهمية الأمن العاطفي والانفعالي عنده, فأكثرية الآباء حتى متوسطو الذكاء منهم يعرفون كيف يفرضون على أطفالهم قوانين الحياة الصحية وضرورة الحذر والوقاية من المخاطر التي تحيق بوجودهم الفيزيائي وبصحتهم. وإنه لمن المؤسف حقا في كثير من الحالات أن يعتقد بأن مهمة التربية تتمركز في هذا الاتجاه.

فالطفل يحتاج إلى الأمن الأخلاقي والعاطفي والإنساني وذلك من أجل المحافظة على التوازن الوجودي, وهذا هو هدف التربية الأساسي الذي يطمح إلى تحقيق الرصانة الأخلاقية والتماسك الانفعالي عند الأفراد, وذلك من شأنه أن يؤدي إلى صون الواجبات الأخلاقية وصوغ القيم الإنسانية السامية.
فالطفل لا يمكنه بمفرده أن يبدع القوانين الأخلاقية السائدة في المجتمع, فالنواميس الأخلاقية والإنسانية نشأت وتكونت على مدى المراحل التاريخية والعصور المتلاحقة ووصلت إلينا عن طريق الوراثة الثقافية التي تضمن لها التربية حضورها الخلاق المبدع منذ عهود الثورات الإنسانية البعيدة.

وهنا يبرز واجب المربين في نقل هذه القيم الأخلاقية وغرسها في نفوس الأطفال لتستقيم لهم حياتهم الاجتماعية والروحية. ومع ذلك فإن التعريف بالقانون الأخلاقي ليس كافيا بل يجب أن يؤصل في وجدان الأطفال وأن يجسّد في سلوكهم, فإرادة الطفل غير كافية وليست أكيدة فهو يحتاج إلى عملية تدريب ومواظبة, ومن المؤسف أن مفهوم الواجب لايزال غامضا في مستوى المؤسسات التعليمية, وأن التعليم لا يقرن بين هذا المفهوم والسلوك المرغوب, وهنا تلعب سلطة المربي دورا كبيرا في تكريس مفهوم الواجب في عمق الوجود الأخلاقي للطفل. وذلك من شأنه أن يشعر الطفل بقوة بأنه يسير على طريق الرشد عارفا أن الإرادة القوية الناجمة عن السلطة تعزز إرادته الشخصية في حال الضعف والقصور.

والطفل يدرك جيدا طبيعة هذا التأثير الدفاعي والوقائي والذي تمارسه السلطة التربوية, وهو في كل الأحوال ليس جاهلا إلى حد كبير بما يجري حوله, فهو يدرك أن السلطة هي عطاء حب ودفق محبة, إذا كانت في مكانها الصحيح, فهي تسعى لحماية الطفل وتحقيق نمائه وتفتّحه.

والسؤال هنا هو: كيف يحصل المعلم الجيد, الذي يأمر بقوة, على احترام الأطفال وحبّهم? فالسلطة تلعب دورا في تحقيق الأمن بالنسبة للأطفال, إن حساسية الأطفال تفوق حساسية الكبار بشفافيتها وقابليتها للتأثر, فهي حساسية نشطة بريئة ونامية, وهذه الحساسية يمكن أن تكون بالغة ومفرطة جدا ومرضية أحيانا, ويمكنها أن تكون أكثر تأثرا بالحساسية, فالانطباعية والغيرة والأنانية هي مشاعر قد تخل بتوازن الطفل وتؤثر في حياته العائلية والأطفال يعانون إلى حد كبير وطأة هذه المشاعر.

وإذا كانت مشاعر الحب والصبر والحنان ضرورية من أجل حماية الطفل من هذه الاضطرابات, فإنه يمكن للسلطة أن تسهم بقسط كبير في إطار هذه العملية, فالسلطة تفرض على الطفل قواعد الحياة الصحية والفيزيائية والعقلية وهي في الوقت نفسه تمنحه هذا الإحساس العميق بالثقة في قوة الراشدين وحمايتهم. ومع ذلك فإن ممارسة هذه السلطة يجب ألا تكون على حساب بعض أفراد الأسرة الآخرين, ويجب أن نعلم أنه عندما يحتكر أحد أطفال الأسرة اهتمام السلطة الأسرية وحده فإن هذا قد يخل بشروط الأمن الأخلاقي عند إخوته وأخواته في إطار الأسرة, ولاسيما الأمن النفسي. إن مشاعر القلق والإحباط الناجمة عن الأثرة قد تؤدي إلى ولادة الحقد والكراهية بين الأطفال الإخوة وتنمّي لديهم نوازع الصراع والمنافسة العاطفية الموجّهة إلى الأبوين, ومن هنا يترتب على الآباء أن يعرفوا كيف يوزعون حبّهم واهتمامهم على أطفالهم بصورة عادلة, وكيف يمكنهم أن يوجهوا طاقات أطفالهم نحو قيم جديدة, وتلك هي مسألة عدالة ولا يمكن للعدالة أن تتحقق يوما من غير حد أدنى من السلطة.

الإرادة والاحترام

إن التأهيل العقلي للطفل مرهون إلى حد كبير بانطباعات الثقة والأمن التي تسود في الأجواء التربوية, فالطفل ليس في مستوى القدرة على إبداء مشاعر الشك العقلي والنقد المنهجي ولكنه في مستوى التلقي والتعليم والاكتساب, وبالتالي, فإن التعلم النقدي لا يمكنه أن يتم من غير احترام السلطة العقلية للمعلم. فالتربية تمتنع من غير سلطة, والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يتم توظيف هذه السلطة واستثمارها? ومن المناسب هنا أن نبحث في الأهمية التي يمكن للسلطة أن تأخذها في عالم الراشدين والأطفال. وغني عن البيان أن السلطة التربوية الحقّة هي هذه التي تعزز العلاقات العاطفية وعلاقات الاحترام, وتصون حقوق الطفل في امتلاك بعض الحرية في ممارسة أفعاله وأعماله, وضرورة الثقة والصراحة المتبادلة بين الطرفين.

وينطوي مفهوم السلطة الذي يعبر عن القدرة على التأثير والقيادة والمنع على مفهومين أساسيين يمثلان نوعين من الممارسة المختلفة.

يمكن في البداية الإشارة إلى السلطة الشرعية وهي السلطة التي تنال تأييد القانون الذي يمنحها إمكان وواجب إنزال العقاب, فهي هنا السلطة التي تمثل القانون وتمارس على المواطنين لحمايتهم وتأمين شروط وجودهم الإنساني والاجتماعي.

وعلى خلاف السلطة الشرعية يمكن الإشارة إلى نوع آخر من السلطة العفوية والتلقائية التي تحددها المشاعر وتنبع من صلب العواطف والتي تسجل حضورها بعيدا عن نواميس العقاب والقوة, هذه السلطة تنبع من مشاعر الناس وقناعاتهم واعتباراتهم الخاصة. ويلاحظ في هذا السياق أن الزعيم يحظى بأهمية أكبر كلما كانت سلطته تميل إلى أن تقوم على أساس الاعتبار والتقدير. وهو غالبا ما يحكم عليه بأنه جدير بذاته وجدير بهؤلاء الذين يمارس عليهم سلطته.

فالسلطة الشرعية تقوم على أساس القوة وبالتالي فإن القوة تمارس على الناس وليس على الأشياء المادية. ولكننا عندما نريد أن نفرض إرادتنا على الطبيعة يجب علينا في البداية أن نحترمها وأن ندرسها وأن نتعامل معها بصبر وبأساليب ذكية بارعة.

ولكن عندما نحاول أن نناهض قوانين التوازن في الطبيعة سنواجه صعوبات وتحدّيات ليست في الحسبان. إن غيوم الغبار والتلوث البيئي تطرح نفسها استجابة الأرض ضد الاستخدام غير المتوازن لموارد الأرض, وهذا المثال واحد من البراهين التي تقول بأنه لا يمكن لنا أبدا أن نسيطر على الطبيعة إلا إذا خضعنا لها, ونحن عندما نفرض إرادتنا بالقوة على الكائنات الإنسانية الذكية فإننا ندفعها إلى دائرة السلبية والتمرد. فالسلطة المفروضة التي تعتمد على القسر تجعل الخاضع لها سلبيا, وهي في هذه الحال عامل قهر ونظام وليست أداة تعمل على بقاء الإنسان وتطوّره, فالقانون وفقا لهذه الرؤية يعمل على إنزال العقاب بالمجرمين وحماية الحقوق الشرعية, ولكنه من هذه الزاوية لا يعمل على تحقيق النمو الأخلاقي أو الاجتماعي أو بناء الذكاء. وإذا كانت التربية بحثا عن التقدم والبناء, فإنها لا تتوافق مع مفهوم السلطة التي تعتمد مبدأ القسر. وهنا يترتب على السلطة التربوية أن تكون صورة أخرى وحالا أخرى مختلفة.

الحب... الحب

تبين التجارب التربوية أن الشخص الذي ينال حب الطفل وتقديره هو الوحيد الذي يستطيع أن يؤثر في الطفل, وأن يعمل على تطوير ذكائه, فالطفل لا يستطيع أن يفصل بين إعجابه وحبّه, وهو لا يمتلك القدرة النقدية الكافية لتنفيذ أسباب حبه وإعجابه, وهو يدين بذكائه إلى هؤلاء الذين أحبّهم ويحبّهم بالدرجة الأولى, وهو في الوقت نفسه يرفض كل تعاون مع الأشخاص الذين لا يحبهم ومع ذلك فإن المعلمين والمربين يجهلون غالبا هذه الحقيقة مع أنها واضحة جدا.

ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن القسر أو السلطة القسرية تتنافى مع مبدأ النمو والازدهار وبالتالي فإن السلطة العاطفية القائمة على مبدأ الاحترام والتقدير تشكل منطلق العطاء والنهوض بحياة الطفل نفسيا وروحيا.

ومع ذلك, يمكن القول بأن السلطة التي تقوم على الحب والتقدير قد تؤدي إلى بعض المجازفات الضارة بشخصية الطفل, وذلك لأنها غالبا ما تكون مشحونة بالذاتية وهي تنطوي على مخاطر التداخل بين شخص المعلم وما عليه, فالأطفال يبحثون عن شخصيات يعجبون بها ويتوحدون معها, وغالبا ما تكون هذه الشخصيات هي شخصيات المعلمين والمربين.

 

علي وطـفـة