الخوف من المدرسة

الخوف من المدرسة

مع بدء العام الدراسي يُظهر كثير من التلاميذ - خاصة من يبدأون أول سني المدرسة الابتدائية - مخاوف رفض للمدرسة. وهي مخاوف حقيقية تتطلب البحث والتفهُّم.

إن مشكلة خوف الطفل من المدرسة, أو رفضه لها, ليست مشكلة خيالية أو وهمية يعيشها الطفل, ولكنها مشكلة موجودة عند بعض الأطفال باختلاف أعمارهم, وموجودة في كل المدارس على اختلاف أنواعها. وكثير من هؤلاء الأطفال يكونون مرضى بالفعل, لكن عملية اكتشاف وتشخيص هذا الخوف من بداية ظهوره يعدّ تحدياً كبيراً للأهل وللمدرسة.

تُثار في المدرسة الابتدائية عدة مسائل تتصل ببعض الصعوبات التي يظهر أن المدرسة تواجه الطفل بها. من هذه الصعوبات خوف التلميذ من المدرسة أو رفضه لها. وقد يبدو هذا الخوف شديدا لدرجة تعيق الطفل الخائف في نموه النفسي, وتحصيله الدراسي, وتوافقه المدرسي.

وعادة يُدرس هذا الخوف من خلال أعراضه الخارجية, ومظاهره التي تدل عليه مثل: خوف الطفل من المدرسة, أو من موقفه من المعلمين أو من أحدهم, أو من صعوبات أكاديمية في المدرسة كالتحصيل الدراسي عامة أو في بعض المواد الدراسية خاصة, أو خوفه من بعض الأطفال في المدرسة أو في الفصل. إلا أن المتعمق في دراسة هذه الظاهرة عند هؤلاء الأطفال يجد أن هناك العديد من العوامل النفسية الشعورية واللاشعورية تتداخل مع بعضها البعض مشكلة هذه الظاهرة عند الأطفال مثل: العوامل النفسية, والعوامل الفيزيولوجية, والعوامل الوراثية, والعوامل الأسرية, والعوامل المدرسية... الخ.

وسوف نركز الحديث في هذا المقام على المناخ الأسري والتفاعلات القائمة فيه, ودور الأسرة في معالجة هذا الخوف عند أطفالها - إن حدث - على اعتبار أن سلوك الطفل يتأثر خلال مراحل حياته بخبرات طفولته, وخاصة محيط الأسرة, فإن تلك البيئة الأسرية تلعب دورها الرئيسي في تكوين شخصيته, وما ستصير إليه تلك الشخصية في حياتها اللاحقة.

النفس ترفض.. والجسد يعبِّر

ويعدّ ذهاب الطفل إلى المدرسة نهاية عهد وبداية آخر على المستويين الزمني والنفسي, إذ هو خبرة جديدة في حياة الطفل الصغير, حتى ولو كان قد التحق سابقا بإحدى دور الحضانة أو رياض الأطفال, لأن مناخ الأسرة ورياض الأطفال يختلفان اختلافاً كبيراً عن المناخ المدرسي المتشدد نسبياً. والمدرسة كذلك تمثل مكاناً, بل عالما جديدا لكل الأطفال حين يدخلونها لأول مرة. لذلك نجد الأطفال في بدء التحاقهم بها في حالة شديدة من الانزعاج والتوتر والخوف, لأنها تبدو لهم عالماً جديداً بكل أبعاده ومعالمه. وهذا العالم الجديد يتطلب من الطفل أن يكيّف نفسه مع أطفال غرباء عنه, وأشخاص كبار غير مألوفين (المعلمين). كما يجد نفسه مضطراً إلى تأدية واجبات يراها صعبة, وفي بعض الحالات يتصور أن خروجه إلى المدرسة معناه الموت بالنسبة له.

ونتيجة لهذا ولأسباب أخرى, يرفض الطفل الذهاب إلى المدرسة. وعادة ما يعبرببساطة عن فكرة رفض المدرسة, وقد لا يقدم أي سبب على الإطلاق لهذا الرفض, بينما يعزو الأطفال الآخرون عدم رغبتهم في الذهاب إلى المدرسة لجوانب متباينة في الحياة المدرسية, كالخوف من أن يعتدي عليهم الأطفال الأكبر سنا. ومخاوف الطفل لا يتم التعبير عنها بشكل مباشر دائما, وإنما تتبدى أحيانا في صورة أعراض عضوية تكشف عن شدة القلق, والتي تظهر بصورة خاصة في الصباح عندما يتم حثه على مغادرة المنزل والذهاب إلى المدرسة.

وقد اختلف العلماء في تحديد هذا المصطلح - الخوف المدرسي - فمنهم من أطلق عليه مصطلح (رفض المدرسة School Refusal), ومنهم من أطلق عليه مصطلح (قلق الانفصال Separation Anxiety), ومنهم من اعتبره شكلا من أشكال الهروب من المدرسة.

إلا أن هذا المصطلح - الخوف المدرسي - يختلف عن الهروب من المدرسة, فالهارب من المدرسة ولوع بالطواف والتنقل في الطرقات والشوارع, وذلك دون علم الأهل بغياب ابنهم عن المدرسة, وهو في كثير من الحالات لا يشعر بخوف من المدرسة. كذلك يختلف هذا المصطلح عن قلق الانفصال, حيث إن الطفل الذي يعاني قلق الانفصال لديه إحساس بالخوف من التغيير, والاضطرابات الوجدانية تكون أشد لدى الطفل الذي يعاني قلق الانفصال المدرسي. كما أنه قلق يعتري الطفل باكورة حياته من الانفصال عن أحد الوالدين أو كليهما.

أما الخوف من المدرسة: فهو عبارة عن خوف شديد غير منطقي مرتبط بذهاب الطفل إلى المدرسة, والذي ينتج عنه فترات انقطاع جزئية أو كلية عن المدرسة. ويصاحب هذا الخوف اضطرابات وجدانية وانفعالية شديدة, تظهر في صورة أعراض مرضية: كالخوف الحاد, والمزاج المتقلب, والاتجاهات غير السوية نحو المدرسة. وشكاوى بدنية دون أي أساس عضوي لها - يلجأ إليها الطفل كوسيلة دفاعية لتأكيد بقائه في المنزل.

وهذا الأمر الذي يعانيه الطفل يجعل الآباء في كثير من الأحيان عاجزين عن إقناع ابنهم الرافض للمدرسة بالعودة إليها, لذلك فهم يعانون القلق والتوتر لفهم هذه المشكلة. وفي بعض الحالات يعجز الطفل عن إعطاء سبب واضح يبرر سلوكه بعدم الذهاب إلى المدرسة, بينما في أحيان أخرى يعطي أسباباً تبرر تصرفاته, إلا أن الأسباب التي يقدمها يمكن أن تحمل الألم الحقيقي, كأن يدعي بأن مدرسّه قد وبخه من دون سبب, أو قد يدعي أحيانا وجود مشكلات تحدث بينه وبين أصدقائه في المدرسة. وسلوك الطفل عادة ما يكون مقترنا بعلامات واضحة, وذلك عندما يحين وقت الذهاب إلى المدرسة كالقلق والخوف, ومعظم الأطفال لا يستطيعون حتى مغادرة البيت, والعديد منهم يغادرون البيت متوجهين إلى المدرسة ولكنهم يعودون إلى البيت في منتصف الطريق, أو يندفعون إلى البيت في حالة من الذعر عندما يكونون في المدرسة متذرعين بأعذار وشكاوى بدنية مثل: الصداع أو ألم في الرأس... وما إلى ذلك من الأعراض, ولكن هذه الأعراض سرعان ما تزول عندما يكونون في المنزل.

فتش عن الأسرة

ويعتقد بعض العلماء أن الصعوبة الرئيسية التي تواجه الأطفال الذين يعانون هذا الخوف ليست في المدرسة ذاتها, وإنما في علاقتهم غير السعيدة في بيوتهم. ومن هذه الزاوية, فقد أجمع الدارسون لسلوك الأطفال على أن الطفل يأتي إلى المدرسة بالأسرة التي ينتمي إليها - لا بما ورثه عن أبويه من خصائص وصفات فحسب - بل بتفاصيل السلوك والجوانب الخفية للشخصية في مجموعها. وتختلف الأسر فيما بينها اختلافاً واضحاً في مدى تشجيعها لنمو أطفالها أو حرمانهم من فرصه, وفي مقدار ما تستخدمه من ضبط لسلوكهم, وكذلك في مقدار ما تغدقه عليهم من محبة وعطف أو ما تشعرهم به من رفض ونبذ. ومن ناحية أخرى, أظهرت نتائج بعض الدراسات العلاقة بين الأساليب التي يمارس بها الآباء سلطتهم وسلوك الأطفال واتجاهاتهم نحو المدرسة, حيث وجدت أن الأسر التي ينال أفرادها حظاً من التعليم تتبع فيها أساليب التربية الديمقراطية لضبط سلوك الأطفال وتوجيههم, ويسود جوها الموضوعية وحسن التجاوب بين الآباء والأطفال, والقدرة على تحمل المسئولية من جانب الآباء.

كما أظهرت نتائج البحوث أن المناخ الأسري للأطفال الذين يعانون الخوف المدرسي يتصف بالتوتر والاضطراب. وعلى العكس من ذلك, فإن أسر الأطفال الذين لا يخافون من المدرسة يصفون الجو الأسري بالتفاعل الإيجابي وبالاتصال المباشر والفعال بين أفراد الأسرة, وبالضبط المنظم في العلاقات الأسرية. فالخلافات الأسرية الدائمة والمستمرة لدى آباء الأطفال الذين يعانون الخوف المدرسي, قد تساعد في كثير من الأحيان على إثارة الخوف عند أبنائهم, وتجعلهم يشعرون بفقدان الثقة في النفس, وعدم الشعور بالأمان في البيئة الخارجية وخاصة البيئة المدرسية. كما أن الحماية الزائدة من قبل الوالدين - وخاصة الأم - للطفل قد تخلق في نفس الطفل شعورا بالخضوع والاعتمادية, والتي تمنعه فيما بعد من السيطرة على انفعالاته, والتغلب على صعوباته, كما تمنعه من النمو النفسي السليم, وبالتالي الخوف من الآخرين ومن البيئة المحيطة به نتيجة لعدم قدرة البيئة الخارجية على إشباع رغبات الطفل بالقدر الكافي الذي يجده في أسرته.

ولتوضيح هذه النقطة ذهب بعض العلماء - وخاصة من أتباع مدرسة التحليل النفسي - إلى وجود أربعة نماذج للتفاعل الأسري واعتبروها المسئولة عن خوف الطفل من المدرسة والنماذج هي:

- تخاف بعض الأمهات القلقات من بقائهن في المنزل بمفردهن بعد ذهاب الزوج للعمل, فتلوذ الأم بصحبة طفلها, وقد لا تعترف بهذا أمام نفسها, لذا نجدها تسمح للطفل بالتغيب عن المدرسة في الأيام الممطرة على سبيل المثال. وفي حالات عديدة يحس الطفل برغبة أمه فيختلق معاذير لعدم ذهابه إلى المدرسة ليظل بقربها.

- إن الطفل يخاف من شيء مرعب, قد يحدث لأمه عندما يكون في المدرسة, لذا يبقى في البيت. إن الخوف من المدرسة قد يولده هذا الانزعاج, حيث ينظر الطفل إلى والديه على أنهما قويان, ويمكن الاعتماد عليهما, لذا يعتريه القلق الشديد عندما تبدو على أحد الوالدين أمراض حقيقية.

- تخاف الأم من أن شيئاً مرعباً سوف يحدث للطفل, لذا تبقيه في المنزل, وفي حالات عديدة تتفاقم مخاوف الأم لو كان الطفل مريضا بالفعل.

- قد يكون الطفل خائفا من الذهاب إلى المدرسة خوفاً مما يمكن أن يحدث له هو نفسه في حالة ذهابه إليها. وعادة ما يكون التفسير تهديدات الأبوين له.

من هذا نستنتج أن المسألة الرئيسية لصعوبة المواظبة لدى الطفل في المدرسة تتعلق ليس بخوفه من المدرسة - بالرغم من وجود مثيرات مخيفة للطفل في البيئة المدرسية - ولكن بعلاقة غير مريحة مع أحد الوالدين.

ويمكن إجمال العوامل الأسرية التي قد تكون مسئولة عن خوف الطفل من المدرسة بما يلي:

1 - تعلم الخوف من أحد الوالدين بشكل مباشر, مثل خوف أحد الوالدين من المواقف الجديدة. وهذا قد ينمي الخوف في نفس الطفل من مثل هذه المواقف الخاصة عند دخول الطفل للمدرسة كبيئة جديدة.

2 - هناك احتمال لوجود مشاكل عنيفة بين الآباء كسوء العلاقات بينهم, حيث يعتقد الطفل أنه لا بد أن يبقى في المنزل لكي يحمي الأم من قسوة الأب.

3 - الحماية الزائدة في رعاية الطفل.

4 - عدم اهتمام الوالدين بالطفل.

5 - مولد أخ أو أخت في الأسرة.

6 - موت أحد الأقارب في حالة وجود الطفل في المدرسة.

وتعد العلاقة الأسرية المتوترة وغير المستقرة عاملاً مهماً من عوامل خوف الطفل من المدرسة, بينما تساعد العلاقات الأسرية الأكثر توافقاً ودفئا وحبا على التقليل من مشاعر الخوف لدى أطفالها, كما أنها تعدّ جرعة داعمة لتعزيز ثقة الطفل بنفسه وبأسرته, وبالبيئة المحيطة به.

إرشادات عامة للآباء

1 - إذا كان عُصاب الطفولة هو الخوف بأشكاله المختلفة - كما يؤكد العلماء في هذا المجال - فإنه ينبغي على الآباء فهم نفسية الطفل في مراحل نموه المختلفة, وتجنب تخويف الطفل بالمعلم, أو بأشياء موجودة في البيئة الخارجية, لأن هذا الأمر قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى رفض الطفل كلياً الذهاب إلى المدرسة.

2 - تعليم الأطفال اتجاهات إيجابية نحو: المدرسة, المعلمين, العملية التعليمية, لأن هذا الأمر يساعد على تقليل حالات الغياب المتكرر لدى الطفل عن المدرسة.

3 - على الوالدين أن يكونا حازمين في قرارهما بشأن انتظام طفلهما في الذهاب إلى المدرسة, وغير متساهلين في قبول أي سلوك يرتبط برفض الطفل الذهاب إلى المدرسة, مثل الشكاوى البدنية عند الطفل مع ضرورة التأكد من حقيقة هذه الشكاوى.

4 - ينبغي على الآباء معرفة قدرات وإمكانات أطفالهم, وعدم مقارنة أدائهم بأداء الأطفال الآخرين, لأن هذه المقارنة قد تخلق عند الطفل شعوراً بالعجز وضعفاً في الثقة في النفس.

5 - ينبغي على الآباء ألا يتشاجروا مع بعضهم البعض أمام أطفالهم, لأن هذا السلوك يفقد الطفل ثقته بمن حوله.

6 - ينبغي على الوالدين توفير المناخ المناسب للنمو النفسي السليم للطفل مثل: إشباع الحاجات النفسية والجسمية والاجتماعية... مع تجنب استخدام الأساليب الخاطئة في تربية أطفالهم كالحماية الزائدة, والنبذ, والمعاملة القاسية, ورعايتهم الرعاية الكاملة في جو يسوده الحب والتعاون والانتماء

 

رياض نايل العاسمي