جمال العربية

جمال العربية

من بدائع الموشحات
زمان الوصل بالأندلس

يقول صاحب لسان العرب نقلا عن الجوهري في صحاحه: (الوشاح يُنسج من أديمٍ عريضا, ويُرصع بالجواهر, وتشده المرأة بين عاتقيْها وكشحيْها).

والمراد بالعاتق: ما بين العنق والكتف, وبالكشح: الخاصرة التي يدور الحزام حولها.

ولعل هذا النوع من الوشاح مما كان يتخذه أهل البوادي, فينسجون أديما عريضا من سيور رفيعة, ثم يرصعونه بالجواهر المختلفة الأقدار والألوان على نسب خاصة, ثم تشده المرأة في الأعراس ونحوها بين عاتقيها وكشحيْها بصيغة التثنية أي أنها تتخذ وشاحين, وربما فعله بعض النسوة مبالغة في الزينة أو تظاهرا بالغنى والثراء.

ويقول الأستاذ مصطفى السقا في كتابه (المختار من الموشحات) تعليقا على السطور السابقة: (هذا أصل معنى الموشحات, كما جاء في معاجم اللغة, وقد توسع العرب في الكلمة, فأطلقوها مجازا على أشياء: منها القوس, فتكون في وضعها على الكتف أشبه بالوشاح, ومنها الثوب يلتفّ به صاحبه كما يوضع الوشاح بين العاتق والكشح. ومنها السيف, سموه وشاحا على التشبيه به, لأن صاحبه يتوشح بحمائل سيفه, فتقع الحمائل على عاتقه اليسرى وتكون اليمنى مكشوفة, وربما سمي السيف وشاحةً - بالتاء - أيضا, كما يقال: إزار وإزارة, وقد يسمى الكشح وشاحا لأن الوشاح يعقد عند الكشح. يقال امرأة غرثى الوشاح: إذا كانت هيفاء.

ثم يقول إن الموشحات الشعرية إنما سميت بذلك لأن تعدد قوافيها على نظام خاص جعل لها جرسا موسيقيا لذيذاً ونغما حلوا, تتقبله الأسماع وترتاح له النفوس, وقد قامت القوافي فيها مقام الترصيع بالجواهر واللآلئ في الوشح فلذلك أطلق عليها (الموشحات) أي الأشعار المزينة بالقوافي والأجزاء الخاصة, ومفردها موشح, أي نظم فمعناها منظومة موشحة أي مزيّنة. ولذا لا يقال قصيدة موشحة, لأن لفظ القصيدة خاص بأشعار العرب المنظومة في البحور الستة عشر كما جاءت في علم العروض.
ومن بين الموشحات الأندلسية التي ذاعت شهرتها بعد أن أصبح لها في مجال الغناء دوران واسع وانتشار كبير موشحة للسان الدين بن الخطيب يقول في مستهلها:

جادك الغيث إذا الغيث همى

يا زمان الوصل بالأندلس




ولم يكن اختيارها للغناء في أزمنة مختلفة, وألحان متعددة لونا من المصادفة, وإنما هو دليل رقتها وعذوبتها لغةً وصورا وإيقاعات, وامتلاؤها بهذا الشجن الشفيف الذي كأنه يبكي عصرا جميلا ولّى وزمنا حلوا رحل هو زمان الوصل بالأندلس, مما جعلها تلمس أوتارا في النفس الإنسانية, عندما تعزف كلماتها على لحن التذكر والأسى والحنين ومحاولة استرجاع ما فات.

أما صاحب هذه الموشحة البديعة لسان الدين بن الخطيب فتقول الموسوعة العربية الميسرة إنه ولد في عام 1313 وتوفي في عام 1374 ميلادية. أديب ومؤرخ وطبيب.

ولد بِلُوشة قرب غرناطة ومات بفاس. درس الطب والفلسفة والفقه واللغة والأدب, وخدم الوزير علي بن الجياب واستوزره بنو الأحمر. ألّف حوالي ستين كتابا معظمها في التاريخ والجغرافيا والأدب والطب, أهمها (الإحاطة في تاريخ غرناطة) و(اللمحة البدرية في الدولة النصرية), و(معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار) و(خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف) و(ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب). وله خطب معروفة ورسائل مطنبة ومسجوعة, وموشحات رقيقة, وديوان شعر. يعد من أعظم رجال الأندلس في عهدها الأخير.

يقول لسان الدين بن الخطيب:

جادك الغيث إذا الغيث همى

يا زمان الوصل بالأندلس

لم يكن وصلك إلا حُلُما

في الكرى, أو خُلسة المختلس

إذ يقود الدهر أشتات المنى

تنقل الخطو على ما يرسمُ

زمراً بين فُرادى وثُنى

مثلما يدعو الوفود الموسُم

والحيا قد جلّل الروض سنا

فثغور الزهر عنه تبسمُ

وروى النعمان عن ماء السما

كيف يروي مالك عن أَنسِ

فكساه الحسنُ ثوباً مُعْلَما

يزدهي منه بأبهى ملبسِ



***

في ليالٍ كتمت سرّ الهوى بالدجى لولا شموسُ القمرِ
مال نجم الكأس فيها وهوى مستقيم السير سعد الأَثرِ
وطرٌ ما فيه من عيب سوى أنه مرّ كلمْحِ البصرِ
حين لذّ الأنسُ شيئاً أو كما هجم الصبحُ هجوم الحرسِ
غارت الشهبُ بنا أو رُبّما أثرت فينا عيون النرجس


***

أيّ شيءٍ لامرئٍ قد خَلَصا فيكون الروض قد مُكّن فيه
تنهب الأزهار فيه الفُرصا أمنتْ من مكره ما تتّقيه
فإذا الماء تناجى والحصى وخلا كلّ خليلٍ بأخيه
تبصُر الورد غيوراً بَرِما يكتسي من غيظه ما يكتسي
وترى الآس لبيبا فهِما يسرق السّمع بأذنيْ فَرسِ


***

يا أُهيْلَ الحيّ من وادي الغضى وبقلبي سكنٌ أنتم بِه
ضاق عن وجدي بكم رحْبُ الفضا لا أبالي شرْقه من غرْبِه
فأعيدوا عهد أُنسٍ قد مضى تُعتقوا عانيكم من كرْبِه
واتقوا الله وأحيوا مُغرما يتلاشى نفساً في نَفسِ
حبس القلب عليكم كرَما أفترضوْنَ عفاءَ الحُبسِ


***

وبقلبي منكمو مُقتربُ بأحاديث المنى هو بعيدْ
قمر اطلع منه المغربُ شِقوة المُغْرى به وهو سعيدْ
قد تساوى محسن أو مذنبٌ في هواه بين وعدٍ ووعيدْ
ساحرُ المقلة معسولُ اللّمى جال في النفس مجالَ النَّفَسِ
سدّد السهم وسمّى ورمى ففؤادي نُهبة المفترسِ


***

إن يكن جار وخاب الأملُ وفؤاد الصبّ بالشوق يذوبْ
فهو للنفس حبيبٌ أولُ ليس في الحبّ لمحبوبٍ ذنوبْ
أمرهُ مُعتَملٌ مُمتثلُ في ضلوعٍ قد براها وقلوبْ
حكم اللحُظ بها فاحتكما لم يراقب في ضعاف الأنفسِ
منصف المظلوم ممن ظلما ومُجازى البَرِّ منها والمُسي


***

ما لقلبي كلّما هبّت صَبا عاده عيدٌ من الشوق جديدْ
كان في اللوح له مكْتتبا قوله إنّ عذابي لشديد
جلب الهمّ له والوَصبا فهو للأشجان في جَهْدٍ جهِيدْ
لا عجٌ في أضلعي قد أُضرما فهي نار في هشيم اليِبَسِ
لم يدعْ في مهجتي إلا ذَما كبقاء الصبح بعد الغَلسِ


***

سلّمي يا نفس في حكم القضا واعمُري الوقت بُرجعى ومتاب
دعْكِ من ذكرى زمانٍ قد مضى بين عُتبى قد تقضْت وعتاب
واصرفي القول إلى المولى الرّضا مُلهَمِ التوفيق في أُمّ الكتابُ
الكريم المُنْتَهى والمُنْتمى أشدِ السّرْجِ وبدر المجلسِ
ينزلُ النصر عليه مثْلَ ما ينزلُ الوحيُ بروحِ القُدُسِ


***

مصطفى الله سميَّ المصطفى الغني بالله عن كلِّ أُحدْ
من إذا من عقد العقد وفى وإذا ما قبحُ الخطْبُ عَقدْ
من بني قيس بن سعدٍ وكفى حيثُ بيت النصر مرفوع العَمْد
حيث بيتُ النصر محميُّ الحمى وجنى الفضل زكيّ المغْرسِ
والهوَى ظلّ ظليلٌ ختِما والنّدى هبّ إلى المُغترسِ


***

هاكها يا سبْط أنصار العلا والذي إن عثر الدهرُ وأقال
غادة ألبسها الحسنُ ملا تبهرُ العين جِلاءً وصِقالْ
عارضتْ لفظاً ومعنى وحِلَى قوْلَ من أنطقهُ الحبُّ فقال:
هل درى ظبى الحمى أن قد حمى قلب حبِّ حلّه عن مكْنسي
فهو في حرٍّ وخفْقٍ مثلما لعبت ريح الصِّبا بالقبس


والطريف أن لسان الدين بن الخطيب يختتم موشحه بما بدأ به ابن سهل الإشبيلي موشحه المشهور, على سبيل المعارضة, وكأنه - أي لسان الدين - يحاول التذكير بأنه قد نسج على منوال ابن سهل, من حيث الوزن والنظام الشعري للموشحة والقوافي المستخدمة. وابن سهل له مكانته المتقدمة في ديوان الموشحات, وله عدد كبير منها, كان يهوديا فأسلم, ولهذا فهو يسمى أحيانا بابن سهل الإسرائيلي, وله قصيدة في مدح الرسول الكريم قبل أن يسلم, وقد توفي غريقا مع ابن خلاص والى (سِبْتة) سنة ستمائة وتسع وأربعين هجرية وهو في سنّ الأربعين. ويرى فيه مؤرخو الأندلس أديباً ماهرا وشاعرا فذّا مطبوعا, وعالما متمكنا.

والمتأمل في موشحة لسان الدين بن الخطيب - وغيرها من الموشحات - يلاحظ أنها موشحة غزلية, يترحم فيها الشاعر على زمان الوصل بمن كان يحب ويهوى, ثم يتخلص من مجال اهتمامه الأساسيْ - الغزل - ليتهيأ لمجال آخر هو المديح لممدوحه المسمى مصطفى والذي قال عنه إنه من بني قيْس بن سعد. وهو يقدم إليه مدْحته - موشحته - التي يصفها بأنها غادة لبست ملاءات الحسن, تبهر العين بجلائها وصقالها, وأنها عارضت موشحة ابن سهل - التي أشرنا إليها - وكأنما يُنبّه ممدوحه إلى أنها فاقت وتجاوزت ماجاء به ابن سهل, لفظا ومعنى وحِلَى,لتكون جديرة بالممدوح, مستحقة لتقديره ومكافأته على ما وفق إليه شاعره وبرع فيه. وأعتقد أن بعض نقادنا الذين هاجموا فن الموشحات الأندلسية واعتبروه شعرا كاذبا مصنوعا, خلا من ماء الطبع وكيميائه, يظلمون كثيرا من نماذجه التي نستروح من خلالها نسيم الشعر الجميل المنّدى, ونطرب لهذه الهتفات الصادرة عن نفوس خلية, وزمان رخي, قبل أن تدور الدائرة, ويتنكر الدهر للذين لم يرعوا حق الدولة والوطن, فتمزق الشمل وتفرق الأهل وسقطت العروش والتيجان, وضاع الأندلس من بين أيدي الذين راحوا يبكونه بكاء النساء لأنهم لم يحافظوا عليه كالرجال.

لقد مثل هذا الفن الشعري الجميل خروجا على المألوف في تقاليد القصيدة العربية القديمة, وانعطافة قوية في مسيرتها وفي تشكيلها الشعري والموسيقي, تلبية لحوافزالإبداع والمغايرة والتجديد. وأصبح تراثه المنسوب للشعراء الأندلسيين والمغاربة, وللشعراء المشارقة: المصريين والشاميين والعراقيين, صفحة مضيئة فاتنة في ديوان الشعر العربي كله, لها مذاقها وخصوصيتها وأفقها المتوهج بالأنغام والإيقاعات التي جعلت من الموشحة النصّ الشعري الملحن المصاحب لحركة الجسد بالرقص وانطلاقة الصوت بالغناء, وما أكثر مواسم الرقص والغناء في حياة الأندلسيين على وجه الخصوص.

وتبقى في أسماعنا, ووجداننا, كلمات الشاعر العالم الأديب: لسان الدين بن الخطيب وهو يقول في موشح ثان:

رُبّ ليلٍ ظفرتُ بالبدْرِ
ونجوم السماءِ, لم تدْرِ
حفظ الله ليْلَنا ورعى
أيّ شملٍ من الهوى جَمَعا
غفل الدهرُ والرقيبُ معا!
ليت نهْرَ النهارِ لم يبحُرِ
حكم اللهُ لي على الفجْرِ

رحم الله زمان الوصل بالأندلس!.

 

فاروق شوشة