حوار الحضارات) عن السلام وحقوق الإنسان

حوار الحضارات) عن السلام وحقوق الإنسان

مؤتمرات

تنشيط حركات السلام في أعقاب مؤتمر قرطبة

كتبت صحيفة (نيويورك تايمز) في 17 فبراير 2003 أن (تصدع التحالف الغربي والمظاهرات الهائلة المناهضة للحرب حول العالم في نهاية الأسبوع تذكرنا بأنه ربما لا تزال هناك قوتان عظميان على هذا الكوكب, الولايات المتحدة والرأي العام العالمي). وأضافت الصحيفة أن كل هذا التعبير عن المشاعر المناهضة للحرب قد لا يكون كافياً لثني الرئيس جورج بوش ومستشاريه عن استعداداتهم للحرب.

غير أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان, في تصريح أدلى به في 23 فبراير, لاحظ أن لهاتين (القوتين العظميين) هدفاً مشتركاً في الواقع, هو نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية, وإن اختلفتا حول الأسلوب الأنسب لتحقيق ذلك الهدف. فحذر عنان النظام العراقي من سوء فهم الرسالة من مظاهرات حركات السلام في العديد من عواصم العالم, لأن المتظاهرين بملايينهم أكدوا رفضهم وشجبهم لأسلحة الدمار الشامل.

ووقعت أكبر المظاهرات الأوربية فعلاً في عواصم الدول التي تؤيد حكوماتها سياسة الإدارة الأمريكية. ففي كل من لندن وروما تجمع حوالي مليون متظاهر للمطالبة بحل الأزمة العراقية بالوسائل السلمية, وللإعراب عن معارضتهم لسياسة حكومتي كل من رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ونظيره الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني. أما في مدريد فقدر عدد المتظاهرين بحوالي مليوني شخص, لمناهضة سياسة رئيس وزراء إسبانيا خوسيه ماريا أزنار. من المعروف أن بلير وأزنار وبيرلسكوني هم أقوى المؤيدين الأوربيين لسياسة الإدارة الأمريكية تجاه العراق.

وفي الولايات المتحدة نفسها خرجت أكبر مظاهرات سلام منذ أيام حرب فيتنام, أكبرها في نيويورك, حيث تجمع حوالي مليون متظاهر, جاء العديد منهم في حافلات من مناطق مجاورة. ووقعت مظاهرات في العديد من المدن الأخرى في مختلف أنحاء الولايات المتحدة ضد الحرب بشكل عام.

ومن بين الخطوات التي مهدت لإنعاش حركات السلام في الولايات المتحدة وأوربا اجتماع عقدته حركات السلام وحقوق الإنسان الأوربية في مقر البرلمان الأوربي في بروكسل في 31 يناير وا فبراير 2002, دعي إليه عدد صغير من الناشطين من أجل السلام وحقوق الإنسان من الولايات المتحدة والعالم الإسلامي. وأسفر الاجتماع عن تأسيس الشبكة الأوربية للسلام وحقوق الإنسان التي قررت عقد مؤتمر للحوار بين الحضارتين الغربية والإسلامية, ولتنسيق حملات دولية للسلام وحقوق الإنسان.

وفي سبيل تنظيم هذا المؤتمر, قامت مؤسسة بيرتراند راسل للسلام بدور كبير, بالتعاون مع بلدية قرطبة الأندلسية والتي استضافت المؤتمر في قصر قرطبة الشهير الذي يعود إلى عصر الحضارة الإسلامية في تلك المدينة. عقد المؤتمر يومي 25 و26 نوفمبر 2002. وتضمن جدول أعمال المؤتمر عدداً من القضايا المهمة, في مقدمتها التهديدات للسلام في منطقة غرب آسيا, وشمل هذا العنوان العريض الحروب المحتملة, والأزمة المتواصلة في فلسطين وإسرائيل, والضغوط على إيران وغيرها من الدول في منطقة الخليج, والأوضاع في تركيا وسوريا ولبنان ومصر ودول أخرى. أما العنوان الثاني فكان حول مدى المعارضة الشعبية للحروب, وشمل التقارير عن حركات السلم المتنامية, ومدى العمل المشترك وحدوده. وكانت هذه مواضيع النقاش في اليوم الأول.

أما اليوم الثاني فبحث المؤتمر فيه الدفاع عن حقوق الإنسان, وشمل ذلك تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة وحقوق الشعب الفلسطيني, ووضع حقوق الإنسان في الشرق الأوسط بشكل عام, وتأثير الاستعدادات للحرب على العراق على حقوق الإنسان في المنطقة وحولها, والضغوط الخارجية ضد الديمقراطية. وكان العنوان الرابع إقامة شبكة للسلام وحقوق الإنسان في أوربا وغرب آسيا.

وفي خطابه لافتتاح المؤتمر, أشار رئيس مؤسسة بيرتراند راسل للسلام, النائب السابق في البرلمان الأوربي الأستاذ كين كوتس, إلى ما كتبه المرحوم الفيلسوف بيرتراند راسل عن ازدهار الفكر في الأندلس في عصر الحكم الإسلامي, ذلك الازدهار الفكري الذي وضع الأسس لتطور العلوم والفلسفة في أوربا في عصور لاحقة. وقال الأستاذ كوتس إنه, لو علم الراحل بيرتراند راسل (أن سلطات بلدية قرطبة شعرت بهذا التآلف معنا لدرجة جعلتها توافق على رعاية هذا المؤتمر بالمشاركة معنا, لأسعده ذلك كثيراً).

وأضاف الأستاذ كوتس أن (الحقيقة الطاغية على كل ما يتعلق بجغرافية الحرب هي أنه لم يعد هناك الآن خلاف بين دول عظمى مختلفة, بل نعيش في عالم فيه دولة عظمى واحدة تهيمن هيمنة كاملة (هي الولايات المتحدة الأمريكية), وقد قررت هذه الدولة العظمى تنظيم العالم حسب مصالحها. وإذا كان القتل في القرون الوسطى, في عصر فجر قرطبة, كان عملاً يدوياً شاقاً وكدحاً جسديا عنيفاً, وكان الرجال ينهكون إذا اضطروا إلى ذبح أعدائهم, فإن الإبادة الآن مسألة كبس أزرار, ولعله لتدمير مدن في مهد الحضارة, من الممكن كبس زر في شيكاغو أو حتى في سان فرانسيسكو, وإزالة كل آثار الحضارة وكل البشرية. ولهذا السبب من الضروري اختراع عالم مختلف, ولذلك فإن مناقشاتنا غاية في الأهمية). فقد ارتفعت أصوات كثيرة في المؤتمر تدعو إلى التخلص من كل أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي, لتصبح منطقة خالية من هذه الأسلحة تماماً. وأكد عدد من الخطباء خطورة أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية, وأن إسرائيل شنت عدة حروب عدوانية على جيرانها, وأن الحكومة الإسرائيلية هي أكثر الحكومات وحشية على وجه الأرض من حيث قتل المدنيين وارتكاب جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان.

قرارات تدعم القانون الدولي

وكان أهم قرار اتخذه المؤتمر إقامة (شبكة دائمة) لحركات السلام وحقوق الإنسان في أوربا والولايات المتحدة والشرق الأوسط لمواجهة التهديدات للسلام وحقوق الإنسان التي ظهرت منذ العمليات الإرهابية في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001. وقال البيان الختامي للمؤتمر إن الشبكة ستكون (محاولة لمواصلة العمل الذي بدأناه) في قرطبة من أجل (تبادل المعلومات والتعاون في نشاطات مشتركة ضد الحرب ولمصلحة العدالة الاجتماعية, والاستمرار في عملنا من خلال اجتماعات واتصالات في المستقبل).

وعكست القرارات المناقشات التي دارت في المؤتمر, بحيث أكد قرار عن القضية الفلسطينية أن (السبب الأصلي لمشكلة فلسطين هو مواصلة إسرائيل احتلال الأراضي الفلسطينية بالقوة العسكرية الغاشمة). وقال القرار إن (المسئولية تقع على الأمم المتحدة لإجبار الحكومة الإسرائيلية على الالتزام بالقانون الدولي, بدءاً بتنفيذ قرارات مجلس الأمن). ودعا القرار المجتمع الدولي إلى (اتخاذ موقف صارم من جرائم الحرب المتواصلة التي ترتكبها إسرائيل ضد الحقوق الفلسطينية الأساسية), وإلى (نشر قوات الحماية الدولية على الفور في المناطق الفلسطينية). كما دعا (الإسرائيليين إلى العودة إلى مفاوضات السلام مع الفلسطينيين لضمان إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة في جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلت في يونيو عام 1967, أي الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة). وأعرب المؤتمر عن (قلقه العميق من الآراء التي عبر عنها مسئولون وأعضاء حكومة إسرائيليون والداعية إلى طرد الفلسطينيين).

وأصدر المؤتمر أيضاً قرارات تدعو إلى الاعتراف الدولي بحقوق الشعب الكردي السياسية والثقافية والاجتماعية في الدول التي يعيش فيها, مع احترام حدود هذه الدول, وأكد حق الأكراد في (حرية التعبير الثقافي والسياسي, واستخدام لغته الكردية الخاصة, وفي التمثيل السياسي). ودعا إلى إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين الأكراد, وإعادة بناء القرى المدمرة, واتخاذ خطوات أخرى لإعادة السلام والحياة الطبيعية إلى المناطق الكردية, وناشد (الحكومة التركية وزعماء الحركة الكردية بدء حوار يهدف إلى إيجاد حل سياسي وإنساني للوضع الحالي) يسمح باستخدام اللغة الكردية في نظام التربية والتعليم ووسائل الإعلام. كما أدان المؤتمر (انتهاكات حقوق الإنسان المنهجية والمستمرة على أيدي القوات العسكرية الروسية في الشيشان), ودعا المجتمع الدولي إلى (استخدام كل الوسائل المشروعة للحيلولة دون انتهاكات حقوق الإنسان في الشيشان).

وذكر مايكل سيمونز, المدير الإقليمي للبرامج الدولية للجنة خدمة الأصدقاء الأمريكية, أن التطورات في الولايات المتحدة الناجمة عن العمليات الإرهابية في 11 سبتمبر تشكل خطراً على الحقوق الدستورية والحريات المدنية التي  يتمتع بها المواطنون الأمريكيون, ولاسيما أبناء الأقليات.

وقال جوزيف غيرسون, من الوفد الأمريكي نفسه: (كان معظم الناس يشعرون بالخوف من أن يتهموا بعدم الوطنية إذا أثاروا أي شكوك في وصف الرئيس بوش ما حدث بأنه عمل حرب, وخوف من التكلم مع الجيران عما يحدث, ويختلف هذا عن أي شيء عرفته في عمري, وأنا الآن في سني السادسة والخمسين. وقمنا بمظاهرات واعتصامات في 12 سبتمبر في كيمبريج بمنطقة بوسطن للتحذير بأن الحرب ليست الحل ويجب حماية الحريات المدنية و(الجاليات المعرضة للخطر), ونعني بذلك الجاليات المسلمة والعربية والآسيوية, التي عرفنا أنها مهددة.

ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة يعلن أن مواطنين أمريكيين يعتبرون مقاتلين أعداء ويحتجزون منقطعين عن الاتصال بأحد, حتى بالمحامين, ويخضعون لمحاكمات سرية وللسجن لمدة غير محدودة, وهذا خارج نظامنا الدستوري تماماً. ومرت علينا أوضاع علمنا فيها أن الشرطة وغيرها تراقب اتصالاتنا بواسطة الكمبيوتر والهاتف. ونتذكر تاريخ بعض السنوات الماضية, ولا سيما عصر حرب فيتنام, ونعلم أنه يمكن أن نتهم, ونتيجة لسيطرتهم على وسائل الإعلام يمكن تصويرنا بصورة غير حقيقية وسجننا).

وكان أحد أبرز الوفود في المؤتمر الوفد الإيراني برئاسة آية الله الدكتور السيد محمد الموسوي البجنوردي, رئيس الهيئة العلمية في لجنة حقوق الإنسان الإسلامية وأستاذ في جامعة طهران, وقد عبر عن رأيه: (قبل عشر سنوات تأسست لجنة حقوق الإنسان الإسلامية في إيران على غرار قوانين الإسلام. والإسلام هو أول من نادى بإحياء حقوق الإنسان بما هو إنسان, بقطع النظر عن انتمائه للأديان والمذاهب. والله تبارك وتعالى يقول: ولقد كرمنا بني آدم . الإنسان له كرامة, سواء كان مسلماً أو غير مسلم, سواء كان متديناً أو علمانياً, الإنسان له كرامة وحقوق. ولهذا نرى الإسلام في جميع المجالات يرى للإنسان حقوقاً وقيماً, ولابد أن هذه القيم والحقوق تحفظ, ولا تنتهك هذه الحقوق وهذه الكرامة للإنسان. ولهذا تشكلت لجنة حقوق الإنسان الإسلامية في إيران مع جماعة من الحقوقيين والعلماء والفلاسفة والباحثين).

وحول قضية الأستاذ أقاجاري الذي حكمت عليه محكمة إيرانية بالإعدام بسبب تعبيره عن رأي, قال: (في المحاكم الابتدائية حكم عليه, ونحن أعلنا أن هذا الحكم غير قانوني وغير شرعي. الشريعة الإسلامية لا تجيز هذا الحكم, والقانون في إيران أيضاً لا يجيز هذا الحكم. فهذا القاضي في إصداره هذا الحكم قد خالف الشرع والقانون. والآن أحيل الملف إلى محكمة التمييز, وأنا مطمئن إلى أن هذا الحكم سينقض وإن شاء الله يطلق سراحه).

الحوار من طبيعة الإنسان

وعن انطباعاته عن المؤتمر, أضاف آية الله البجنوردي, (أعتقد أن الحوار مفيد. الإنسان بطبيعته يريد الحوار, ولا يريد الصراع. الصراع ليس من شأن الإنسان. الصراع من شأن الحيوانات. الإنسان يستخدم العقل والمنطق. فهو بطبيعته دائماً يريد الحوار, ولا يريد الصراع. والقرآن أيضاً يقول وجادلهم بالتي هي أحسن. دائماً الإسلام  يصر على أن نأخذ جانب المنطق والعقل ونكون مع الآخرين أحباء. والقرآن يقول وإنك لعلى خلق عظيم و لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك . إن الله تبارك وتعالى يحثنا على اتباع الطريق الوسط, ويصر علينا أن نستخدم عقولنا قبل إحساساتنا, لأن عقولنا تتفوق على إحساساتنا, لأن الإحساسات إذا تفوقت على العقل انحرف الإنسان. أما العقل إذا تفوق على الإحساس, دائماً الإنسان يخطو خطوات جبارة ولا يخطو باتجاه الأمور الانحرافية).

أدق مرحلة للقضية الفلسطينية

كان جزء كبير من نقاشات المؤتمر يدور حول قضية فلسطين ومستقبلها, وتحدث رئيس الوفد الفلسطيني, نائب مفوض القدس داوود بركات, فقال: (تمر القضية الفلسطينية الآن بأدق وأحرج فترة في تاريخها. فنحن أمام حكم في إسرائيل يريد أن يلغي ويغير من المنطق والتاريخ. فبعد سنوات طويلة من نضال منظمة التحرير من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية, والتي بدأ هناك تحقيق بعضها عبر القرار العربي بالمشاركة في مؤتمر مدريد والاتفاق الذي حصل بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية في عام 1993 (أوسلو), وبدء تنفيذ مرحلة الحكم الذاتي والدخول في المفاوضات على قضايا الحل النهائي, وهي الحدود والقدس واللاجئون والاستيطان, فقد أنهت الحكومة الإسرائيلية المفاوضات بطرحها قضايا تعجيزية منعت الجانب الفلسطيني من إتمام المفاوضات في كامب ديفيد. فكان هناك مطلب من رئيس الوزراء في حينه, إيهود باراك, بالسيطرة على الحرم الشريف, وهذا غير مقبول. وفي بعض القضايا تمت إنجازات, مثل حدود الدولة الفلسطينية, كان هناك تفاؤل تقريباً, يقترب من المطلب الفلسطيني, وبعد ذلك في طابا كان هناك تقدم أكثر, حيث تحددت حدود الدولة الفلسطينية في الرابع من يونيو 1967 مع تعديلات طفيفة تضمن تبادل أراض, تكمل الحدود بمائة في المائة مما احتلته إسرائيل عام 1967. وكان هناك تقدم في قضية القدس, فالقدس الشرقية ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية. كان هناك بعض التقدم في قضية اللاجئين, لكن أيضاً الحكومة الإسرائيلية لم تكن معنية بإنهاء المفاوضات, وحصل ما حصل, سقطت حكومة باراك, وجاء شارون بالتحالف مع أقصى اليمين في حزب العمل بالرؤية العسكرية, ونحن منذ ذلك الحين في ما يسمى سنوات الانتفاضة التي تعتبر تعبيراً عن الرفض الفلسطيني لاستمرار سياسة الاحتلال, والرفض الفلسطيني على المستوى الشعبي للمماطلة في المفاوضات.)

وقال رئيس الوفد الفلسطيني عن مؤتمر قرطبة, (أعتقد أننا بين أصدقاء. يطرحون قضايا تهم منطقتنا جدا, وهي بالنسبة لفلسطين دعم قيام الدولة الفلسطينية, ورفض الممارسات الإسرائيلية وتأييد حقوق الإنسان, ورؤية من الأصدقاء للشرق الأوسط يعمه السلام ومحاولة تفادي الحرب. بمعنى آخر حل القضايا المعلقة بين العراق وجيرانه بالوسائل السلمية, لمنع التدخل الأمريكي. فيجب أن نميز بين مصالح الولايات المتحدة ومصالحنا. مصالحنا العربية المشتركة هي التضامن العربي, الانفتاح باتجاه تطوير علاقاتنا بعضنا بالبعض الآخر, أن نلحق بما صنعه جيراننا, لنحدث مناهج تعليم متقاربة, لنفتح حدودنا لإيجاد سوق عمالة وتجارة مشتركة, هذه أعتقد أنها من حق الإنسان العربي. ونرجو من حكوماته أن تتطلع إلى طموحات هذا الإنسان).

وكان للشعب الكردي أيضاً حضور مهم في هذا المؤتمر, كما يتضح من القرار الذي تبناه المؤتمرون لصالح قضيته. وتحدث رئيس لجنة العلاقات الخارجية للمؤتمر الوطني الكردستاني د.موسى كافال إلينا عن الخلفية التاريخية لقضية الشعب الكردي: (تقسيم الشعب الكردي له أسباب سياسية قبل كل شيء. كردستان, التي تعني وطن الأكراد,  هي منطقة في قلب الشرق الأوسط, ومساحتها كبيرة تساوي نصف مساحة فرنسا تقريباً, وهي من النواحي الديمغرافية والجغرافية والتاريخية جزء من الشرق الأوسط, وحتى في قلب الشرق الأوسط, ولذلك لها أهمية في هذه المنطقة. وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية, كان هناك مشروع لتقسيم المنطقة وتوزيعها على القوى الغالبة في الحرب العالمية الأولى, وخصوصاً بريطانيا العظمى وفرنسا. القوى العظمى في ذلك الوقت كانت لها غاية واحدة هي جعل المنطقة تحت سيطرتها وأخذ كل مواردها الاقتصادية. أما بالنسبة إلى الأكراد فكان لهم وضع خاص. لقد عارضت الدول العظمى إنشاء دولة كردية, وعارضت حتى أن تكون للأكراد الفيدرالية أو الحكم اللامركزي. فالأكراد في العراق مثلاً طالبوا بحقوقهم وما أرادوا الانضمام إلى الدولة الجديدة, وأعلنوا إنشاء دولتهم, ولكن البريطانيين حاربوا هذه الفكرة وحاربوا الأكراد, ولأول مرة استعملوا السلاح الجوي في العراق ضد الأكراد. وعارض الفرنسيون أيضاً تكوين دولة كردية في المناطق التي كانت تحت سيطرتهم. وحتى الثورة الكردية في تركيا بقيادة الشيخ سعيد بيران في عام 1925, كان من أهدافها تكوين دولة كردية, ولكن القوى الكبرى في ذلك الوقت, وخاصة فرنسا, ساعدت الأتراك في قمع الحركة الكردية, ساعدتهم بالأسلحة للقوات التركية ليدخلوا في سوريا ومن سوريا يهاجمون القوات الكردية. وفي ذلك الوقت كانت سوريا تحت السيطرة الفرنسية).

وتابع د.كافال قوله: (هناك سؤال يطرح نفسه: لماذا وافق الأوربيون على تكوين دول كثيرة في العالم, سواء في الشرق الأوسط وفي إفريقيا والمناطق الأخرى, ولكنهم عارضوا تكوين دولة كردية? أنا شخصياً سألت عدة مرات هذه الأسئلة في المحافل الدولية وخصوصاً خلال الاجتماعات والمؤتمرات. سألت الأخصائيين وحاولت أن أقرأ في  الكتب والوثائق. من الصعب إلى الآن طرح نظرية حول هذا الموضوع. سمعت عدة مرات ناساً يقولون إن الدول العظمى في ذلك الوقت لم تكن جاهزة نفسياً للسماح للأكراد بتكوين دولة ويقولون إن السبب ربما كان موقفهم من صلاح الدين الأيوبي, ربما كان نوعاً من الانتقام من صلاح الدين من خلال الأكراد. المنطقة الكردية هي منطقة مهمة من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الجغرافية لأنها في قلب الشرق الأوسط, وفيها مياه ومنابع ومصادر اقتصادية أخرى. وهناك ناس يقولون إن سبب عدم سماح الأوربيين بقيام دولة كردية هو أن هذه المنطقة غنية ولم تكن تريد أن تكون هذه المنطقة في أيدي الأكراد, ولكني اعتقد أن هذا غير صحيح, لأن هناك مناطق أخرى غنية جداً بالبترول وموارد اقتصادية أخرى وفيها دول حصلت على استقلالها والدول العظمى لم تعارض ذلك, وحتى ساعدت في تكوينها).

أما مستقبل الشعب الكردي وطموحاته, فاتسمت أفكار د.موسى كافال حول هذا الموضوع بروح المسئولية والبحث عن حلول معقولة ومعتدلة لا تؤدي إلى تفجير الأوضاع في المنطقة, حيث قال: (حق تقرير المصير هو حق لا يمكن لأي شعب التنازل عنه. فالأكراد مثل كل الشعوب الأخرى يحتفظون بهذا الحق. ولكن هناك فرقاً بين حق تقرير المصير وإمكان تكوين دولة مستقلة في كردستان. ففكرة تكوين دولة مستقلة في كردستان, مع أن لها جاذبيتها, فإنها في الظروف الحالية ليست واقعية. فالشيء الذي يريده الأكراد للمستقبل هو التعايش السلمي في الدول التي يوجدون فيها, مع شعوب هذه الدول في إطار دولة, ولكن بالمقابل الأكراد يطالبون هذه الدول بالاعتراف بحقوقهم القومية, الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية, وإعطاء الأكراد حقاً في تكوين منظماتهم وأحزابهم, ويكون هناك نوع من الفيدرالية واللامركزية حتى يستطيع الأكراد أيضاً تطوير ثقافتهم وحضارتهم, وأيضاً مناطقهم من الناحية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. فكرة لا مركزية الدولة نعتقد أنها مهمة جداً للتطور الحضاري والاقتصادي وأيضاً الديمقراطي. وعندما نرى الدول الموجودة حالياً, نرى دولاً لا مركزية نماذج في التطور الديمقراطي والاقتصادي).

ويشكل الحق في استخدام اللغة الكردية نقطة مهمة للغاية في مساعي الشعب الكردي لنيل حقوقه, ويفسر د. موسى كافال أسباب ذلك: (طبعاً اللغة مسألة مهمة جداً, لأنه في تركيا خصوصاً كانت السياسة الحاكمة تقول إنه لا يوجد شعب اسمه الشعب الكردي ولا لغة اسمها اللغة الكردية, وأحياناً كانوا يسمونهم أتراك الجبل وأحياناً كانوا يختلقون أفكاراً أخرى. ولكن اللغة الكردية هي إحدى اللغات القديمة في المنطقة وهي لغة غنية ولغة الشعر والأدب والسياسة مثل اللغات الأخرى. لذلك, فإن الأكراد يحبون لغتهم كثيراً. نرى أن في منطقة الشرق الأوسط شعوباً كثيرة قد انتهى وجودها, مثل الفينيقيين والسومريين وغيرهم. هذه الشعوب انتهت بعدما انتهت لغتها, واندمجت بالشعوب الأخرى. أما الأكراد فاستطاعوا الحفاظ على لغتهم).

(نعتقد أنه بإمكان تركيا والعراق وإيران وسوريا ومصر والأردن وإلى آخره التفكير من جديد, وأن يكون هناك نوع من الاتفاق على تغيير السياسات القديمة وتقريب هذه الشعوب, وتقريب نظمها السياسية والثقافية في إطار الديمقراطية وفي إطار احترام الدول الموجودة. وفي هذا الظرف لن تكون هناك حاجة إلى تكوين دولة أخرى للأكراد).

الإصلاح في تركيا

وماذا عن تركيا نفسها? تحدث أحمد مرجان, رئيس فرع اسطنبول لمنظمة مظلوم دير, وهي منظمة تركيا لمناصرة المظلومين, وبدأ بملاحظة حول إحدى أهم ظواهر عصرنا: (في الواقع يوجد فرق شاسع بين مفهوم حقوق الإنسان في النصوص وبين ما يحدث على أرض الواقع, ولا سيما بعد 11 سبتمبر وما حدث في أمريكا بعد 11 سبتمبر. إنها مواجهة كبيرة بين الحرية والأمن, فأي منهما أهم? وهذا يبين لنا أن أمريكا ضحت بشيء من الحرية, ولكن الحرية لا تناقض الأمن. كما يدل هذا على وجود مشكلة أخلاقية كبيرة تتعلق بفهم الحريات, مما يلقي مسئولية كبيرة على المسلمين, لأنه يجب علينا كمسلمين اعتبار الحريات وحقوق الإنسان بمنزلة طاعة الله وعبادته, ويجب علينا تطبيق المفهوم الحقيقي لحقوق الإنسان والممارسة الحقيقية لها. فمع عمليات التصنيع والتحديث, تضيق المساحات, وعلينا أن نعيش في أماكن صغيرة للغاية ذات عدد كبير من السكان والعديد من الثقافات. ومن يدرك كيف يعيش, ويبين للعالم كيف يتعايش مع هذه الأقليات العرقية والدينية, سوف ينجح ويثبت للعالم كيف سيكون العصر الجديد لصالحه).

(إن الحضارات الإسلامية في تاريخ الماضي, مثل العباسيين والتيموريين والعثمانيين وحضارة الأندلس هنا في قرطبة, أثبتت للعالم أن المسلمين قادرون على التعايش مع ثقافات أخرى, وأنه بإمكان الثقافات والديانات الأخرى أن تجد مكاناً وتعبر عن ذاتها في حياتها اليومية, وهذه هي حقيقة واقعة في تاريخنا. ولكن في هذا القرن الذي يقود الغرب فيه هذا العالم, لم يتمكن من النجاح في هذا الامتحان ولا أن يثبت للعالم قدرته على احترام الثقافات والمفاهيم والديانات الأخرى. ولنا مثل حقيقي في قرطبة حيث لا توجد غير ثقافة واحدة الآن, بينما كان هناك مسلمون يتعايشون مع أقليات في الماضي).

وعن احتمالات المستقبل في تركيا على أثر وصول الحكومة الجديدة للحكم, قال: (اعتقد أن لدى الحكومة الجديدة نوايا حسنة بخصوص تحسين حقوق الإنسان وغيره من المجالات المتعلقة بالقيم الديمقراطية في المجتمع, وأقول ذلك بسبب معرفتي بشخصيات في الحكومة, أعرفها من الماضي. ولكنى قلق من سلطات أخرى أقوى من السياسيين في تركيا, هل ستسمح لهم بتحقيق هذه التحسينات أم لا?).

وحول دور تركيا على الصعيد الدولي, أكد أحمد مرجان أن (تركيا تقع بين حضارتين مختلفتين, الغربية والإسلامية. فيتعين على تركيا أن تكتسب خبرات من الحضارتين, وبإمكانها إعطاء أسلوب للعالم الإسلامي وفتح بعض الأبواب ذات العوائق أمام المجتمعات الإسلامية. وبإمكانها أن تساهم مساهمات جيدة جداً في العالم الإسلامي وحتى في العالم الغربي, وتشكيل جسر بين الحضارتين, وإزالة التناقضات والصراعات بين هاتين الحضارتين, كما تستطيع تركيا المساهمة في حقوق الإنسان والسلام والتفاهم على مستوى عال. ولكن المشكلة كما قلت, هل ستسمح قوى في تركيا بإجراء هذه التحسينات والتغييرات المهمة على أيدي سياسيين إسلاميين?).

أزمات شمال القوقاز

ومن تركيا أيضاً حضر منسق العلاقات الدولية لمؤسسة القوقاز للثقافة والتعليم والإعانة الاجتماعية مصطفى أوزكايا, الذي أخبرنا بأن (هناك مشاكل كبيرة جداً في شمال القوقاز, ليس في الشيشان فحسب. فلدينا في أبخازيا منطقة ساخنة جداً أيضاً مثل الشيشان, بفعل ضغط من الجيش الجورجي, وهناك استفزازات كبيرة جداً تقود أبخازيا إلى حرب. وفي أوسيتيا وإنغوشيتيا توجد مشاكل بين جاليتين هما من الأقليات العرقية. غير أننا نعتقد بأن السياسة الروسية هي سبب المشاكل العرقية في شمال القوقاز, وليس الشعوب التي لم تخلق هذه المشاكل, بحيث تعايشت عبر التاريخ دون أي حروب. وحين شرعت روسيا في سياستها الإمبريالية, بدأت الجاليات بالدفاع عن النفس, وتعرضت لهزائم عامي 1864 و1886 وأبعدت إلى تركيا ومناطق أخرى. وقسمت السلطات الروسية هذه الشعوب وتغلغلت في حركاتها القومية).

وأضاف مصطفى أوزكايا أن (الشيشان اختارت الاستقلال عند انتهاء الاتحاد السوفييتي, وقد أعطتها الإدارة الروسية الاستقلال في ذلك الحين. غير أن الروس قاموا ببعض الاستفزازات داخل الشيشان, مثل خطف الأشخاص, ولم ينفذوا التحسينات الصناعية. وكانت روسيا قد وعدت بتحسين الشيشان وإعادة تعميرها. وبالتالي لا توجد أي صناعة ولا عمل واضطر الشيشان إلى كسب لقمة العيش بالقتال, وهذه هي مشكلة الشيشان الحقيقية. والآن توجد انتهاكات من كل الأنواع لحقوق الإنسان يمكن أن تشهدها, ولكنه لم يسمح لوسائل الإعلام بالدخول ولا للمنظمات الدولية. ونحن بصفتنا مؤسسة قوقازية نريد أن ندخل هذه المناطق, ولكنه لا يسمح لنا. لقد أغلقت حدود الشيشان أمام الرأي العام العالمي, ولا يسمح لمن يريد إحضار معلومات من هناك. إن الحرب تدمر كل شيء. لقد قتل 25 في المائة من الشعب الشيشاني حتى الآن. وفي الواقع, لن تدخل إدارة بوتين في مفاوضات مع حكومة مسخادوف إلا إذا أجبرها الاتحاد الأوربي وأمريكا والدول الأخرى والمنظمات الدولية على ذلك. وداخل روسيا لم يطلع الشعب على حقيقة ما يحدث في الشيشان, وأعتقد أن الشعب الروسي سيتأثر تأثراً بالغاً لو علم ما يحدث هناك, ويدفع بوتين إلى بدء المفاوضات. فلدينا أمثلة في أمهات الجنود الروس, إنهن يعلمن عن حالات لأنهن تأثرن, وهناك منظمات في روسيا. إلا أن وسائل الإعلام الروسية تتعرض لضغط من إدارة بوتين, ولا يسمح لها بإعلان الحقيقة عما يحدث في الشيشان).

خطوة أولى في طريق طويل

وبعد اختتام مناقشات المؤتمر, كان حواري مع أمين اللجنة الإسلامية العالمية لحقوق الإنسان, المحامي الكويتي مبارك سعدون المطوع, الذي قال عن المؤتمر: (انطباعاتي بشكل عام أن المؤتمر ضم نخبة من الحقوقيين والمهتمين بحقوق الإنسان والناشطين, وهذه النخبة بالتأكيد لم تبذل هذا الجهد إلا لتحقق اتفاقاً حول معاني حقوق الإنسان وحول محاور المؤتمر. وبالفعل على مدى الأيام التي قضيناها كان النقاش على مستوى رفيع وأوراق العمل المقدمة كانت أيضاً راقية جداً وتطرح طروحات إنسانية ومن منظور دولي يتمنى للبشرية الخير والسعادة. فكان بشكل عام محاولة جيدة أن تصب هذه الجهود في الاتجاه الصحيح نحو السلم في العالم والتعامل الإنساني القائم على الحوار والتفاهم وتعاون الحضارات والأديان فيما بينها بدلاً من الصراع والمواجهة والحروب. فهذه الحقيقة بشكل عام نتيجة طيبة ترصد لهؤلاء الناشطين وللعمل الإنساني بشكل عام. نتمنى إن شاء الله أن تترجم هذه القرارات والتوصيات إلى المزيد من العمل واللقاءات وتعمم على أصحاب القرار وأصحاب الرأي السياسي والناشطين الآخرين في أنحاء العالم. لا نكتفي بما توصلنا إليه في مؤتمرنا, بل يجب أن يصل إلى الآخرين, وبذلك  يحقق المؤتمر نتائج أكبر وأفضل).

إن مؤتمر قرطبة هو واحد من هذه المؤتمرات تمثل ضمير الإنسان, ولكن على الصعيد المادي الضمير ليست له قوة في مواجهة الجيوش والأسلحة الفتاكة. كيف يمكن أن نعزز صوت الضمير ضد صوت الدبابات والمدافع? وهو سؤال أطرحه قبل أن أعرض تقييم رئيس مؤسسة برتراند راسل للسلام, الأستاذ كين كوتس: (في فبراير 2002, بعد استعدادات مطولة ومحادثات أولية, تأسست الشبكة الأوربية للسلام وحقوق الإنسان, في فترة نمو ملحوظ للروح العسكرية في الشئون العالمية. وتجمع الشبكة منظمات غير حكومية معنية بالسلام وحقوق الإنسان من أرجاء القارة الأوربية. ولا يوجد حل إنساني بعيد المدى إلا السعي إلى العدل لإزالة الظلم الذي يولد هذه التصرفات.

واختتم الأستاذ كين كوتس حديثه بالإشارة إلى الشاعر الإنجليزي شيلي وتخليده فكرة الهيمنة كاملة المدى عندما عثر على نصب تذكاري عظيم, حيث وجد (ساقين حجريتين ضخمتين دون جذع الجسم في الصحراء) مع (وجه مهشم شبه غارق) في الرمال, وبالقرب منها قاعدة للتمثال كتب عليها:

اسمي أوزيمندياس, ملك الملوك

انظروا إلى أعمالي, يا أيها العظماء, واقطعوا الأمل!

لا يبقى شيء آخر, وحول آثار

ذلك الخراب الهائل, تمتد رمال القفر المنبسطة والقاحلة إلى الأفق البعيد.

 

فارس غلوب 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




في أثناء إحدى جلسات المؤتمر





السيد أحمد مرجان (إلى اليمين) من منظمة مظلوم دبر, والسيد مصطفى أوزكايا من مؤسسة القوقاز





جوزيف غيرسون (إلى اليمين) , ومايكل سيمونز





مشهد من قرطبة التي احتضنت  المؤتمر





المسجد الصغير الذي يصلي فيه مسلمو قرطبة





عمدة المدينة تستقبل ضيوف المؤتمر





منارة مسجد قرطبة