الأمن الناعم... وصيانة كرامة البشر

الأمن الناعم... وصيانة كرامة البشر

قضايا عامة

الأمن الإنساني مفهوم حديث نسبيا, جرى صوغه وتداوله في السنوات الأخيرة, وحظي باهتمام عالمي واسع, ولاسيما من جانب الأوساط والفئات المعنية بقضايا الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان.

يطلق بعض المفكرين على مفهوم الأمن الإنساني اسم أو مصطلح (الأمن الناعم) (Soft Security) وذلك لكونه يختص بصون كرامة الإنسان في تلبية احتياجاته الروحانية والوجدانية. وهو بذلك يتميز عن الأوجه أو الأنواع الأخرى للأمن المتعلقة بالحاجات المادية للإنسان, كالأمن الغذائي والأمن الاقتصادي والمائي والأمن العسكري وما شاكل ذلك.

والواقع أن المعنى الجوهري للأمن هو نقيض الخوف. أو أنه التحرر من الخوف بمفهومه السيكولوجي - الاجتماعي. وقد جرى تصنيف الأنواع المختلفة للأمن, أو ابتكارها تباعاً, نتيجة للتطور التاريخي لحاجات الإنسان وتزايد التحديات والأخطار التي يواجهها سواء كانت من فعل الإنسان أو المجتمع (أخطار مجتمعية) أو أنها صادرة عن تهديدات طبيعية أو بيئية, الأمر الذي يستلزم مواجهة هذه التحديات على أنواعها باعتماد سياسات وبرامج وآليات معينة من جانب الدولة والمجتمع وكذلك مؤسسات النظام الدولي.

ومن جهة أخرى, يعتبر مفكرون وباحثون آخرون الأمن الإنساني بأنه مفهوم معني في الدرجة الأولى بأمن الأفراد أو أمن المواطنين, وذلك تمييزاً له عن أمن الجماعة أو المجتمع أو الدولة بالمفهوم الواسع. ويستندون في ذلك إلى خلفية تاريخية معينة وواقع راهن معيش في عدد من البلدان حيث جرى ويجري التضحية بأمن الفرد وحقوقه تحت ذريعة التركيز على ما هو أهم وأعم وهي الحقوق المتعلقة بالمصلحة العامة, وهو مفهوم خطير للغاية ينطوي على الاستهانة بالحقوق الطبيعية للإنسان ويضع مصيره في مهب الريح, كما تؤكد الكثير من التجارب والممارسات المرّة في بعض أقطارنا العربية, سابقاً وراهناً.

ممارسة الخيارات

ويلاحظ أن الأمن الإنساني قد تضاعفت أهميته خلال العقد الأخير بالارتباط مع التطورات الكبيرة والتاريخية التي اجتاحت أوربا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا وأفضت إلى زوال أنظمة وأساليب الحكم الشمولية وإعادة الاعتبار للرأي العام والحقوق السياسية والمدنية للمواطنين. ونظرا لأهمية هذه التحوّلات السياسية والاجتماعية في هذه البلدان, عكفت التقارير المتعلقة بالتنمية البشرية في هذه المنطقة على معالجة موضوع الأمن الإنساني في السنوات الأولى من عقد التسعينيات من القرن الماضي.

وفي ضوء التجربة التاريخية المهمة لهذه البلدان, يتضح أن الأمن الإنساني المنشود هو الأمن القائم على الحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية للمواطنين واحترام حقوق الإنسان كما أقرّتها المواثيق الدولية. كما أنه من ناحية ثانية, يجسّد الضمانة لتوفير الظروف والمستلزمات الكفيلة بممارسة الناس لخياراتهم باطمئنان وحرية ومن غير خوف أو وجل. فضلاً عن أنها تتيح الظروف للمحافظة على الفرص (Opportunities) التي يتمتعون بها وحمايتها من خطر الضياع والتبديد في المستقبل.

فالأمن الإنساني, بهذا المعنى أو المفهوم, هو الأمن المتمركز حول الناس ولمصلحتهم (People-Centered). وهو يستلزم تأمين الوسائل الضرورية لحماية المكاسب التي يجنيها المجتمع والأفراد لتعزيز قدراتهم وتوسيع خياراتهم وفق ترتيبات وأنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية. كما أنه - الأمن الإنساني - يستمد قوته وثباته من الاستناد إلى قبول أو توافق مجتمعي عريض (consensus) وعبر مؤسسات وآلات مستقرة قادرة على احترام حقوق واستحقاقات المواطنين.

والواقع أن تحليل مفهوم الأمن الإنساني بصورة علمية ودقيقة يؤكد وجود مكونّين أو ركنين أساسيين له, وهما يشكلان , كل منهما مع الآخر, كياناً مفهومياً واحدا ومتجانساً. وهنا يتعين معالجة هذين المكوّنين أو الركنين بشيء من التفصيل, وهما الأمن الإنساني بوصفه مجموعة حقوق أولا, والأمن الإنساني بوصفه مجموعة مستلزمات وآليات ثانياً.

والحقيقة أن فكرة الحقوق في مفهوم الأمن الإنساني ترتكز على هدف كبير وقيمة إنسانية رفيعة وتتلخصان بصون كرامة الإنسان. وهي حقيقة متأصلة في كل إنسان ولا يمكن ولا يجوز التنكر لها أو الاعتداء عليها. وهذا ما جاء به وأكده (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ العاشر من ديسمبر 1948. هذه الوثيقة التي جمعت في ثناياها أهم الحقوق والاستحقاقات التي تتطلع إليها البشرية وناضلت من أجلها خلال المراحل التاريخية السالفة. وهي تلخص أهم القيم والغايات النبيلة التي راودت المصلحين من الفلاسفة والمفكرين من جميع المدارس الفكرية والاجتماعية, فضلاً عن العقائد الدينية. وأهمها - دون شك - حرية التفكير والتعبير والتجمع والعقيدة والحق في الحياة والأمن وغيرها. وقد استكملت هذه الوثيقة التاريخية بإصدار الأمم المتحدة لوثيقتين مهمتين أخريين هما العهد الدولي المتعلق بالحقوق السياسية والمدنية الصادر في 1966, وكذلك العهد الدولي الثاني المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في 1976.

والحقيقة أن هذه الوثائق الثلاث تشكل بعرف الأمم المتحدة (الشرعة الدولية للحقوق) (Universal Bill of Rights).

بالإضافة إلى ذلك, وخلال العقود الماضية, صدرت مجموعة أخرى من المواثيق والقرارات والمعاهدات الخاصة بطائفة واسعة من الحقوق على نحو تفصيلي ومحدد وهادفة لاحترام حقوق الطفل والمرأة ومكافحة جميع أشكال التمييز ضدها, وتلك المعلقة بحقوق الأقليات والعمال الأجانب وحق تقرير المصير للأمم ومكافحة جميع أشكال التمييز العنصري وغيرها. هذه جميعها, إضافة إلى الآليات والأجهزة والبرامج المعتمدة, ولاسيما من قبل (المركز العالمي لحقوق الإنسان) في جنيف تشكل المنظومة العالمية لحقوق الإنسان.

صيانة الحقوق

وفي هذا السياق, يثار أحياناً بعض التحفظات بشأن الحركة العالمية لحقوق الإنسان, وإلصاق الشك والريبة في دوافعها ونشاطاتها وذلك بالإشارة إلى ما يسمى بازدواجية المواقف والمعايير في سلوك بعض الحكومات والجهات الأجنبية. وهنا يتعين التمييز بين أمرين: بين حركة حقوق الإنسان ومبادئها باعتبارها حركة إنسانية أصيلة وهادفة لخير المواطن والمجتمع وملبية لحاجاته الأساسية, وبين المحاولات الحاصلة لاستغلال مبادئ وشعارات هذه الحركة لأغراض مريبة ومرفوضة ومناهضة لمصالح المجتمع وتطلعاته. فالتنديد بازدواجية المعايير في السلوك والمواقف هو أمر مشروع ومبرر ولا يجوز التهاون أو التسامح في محاربته والمتمثل في التصرفات والسياسات العملية لبعض الحكومات والأجهزة المحلية والدولية, كما ينبغي الدفاع عن المبادئ ذاتها ودلالاتها النيرة وتحصينها من سوء الاستغلال.

فالدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان والسعي لتحويلها إلى واقع حيّ ومصون في إطار مؤسسات وآليات دستورية وتنفيذية هو من أهم المطالب والضمانات الهادفة لتقدم المجتمع وإشاعة العدل والمساواة والتوازن والاستقرار في ربوعه.

ومن جهة ثانية, شهدت العقود الأخيرة أيضا, مطالبات ومحاولات لصياغة إعلانات أو وثائق للتعبير عن حقوق الإنسان على أساس ديني (إسلامي أو مسيحي.. إلخ) أو إقليمي (إفريقي أو عربي... إلخ), وهو أمر يستدعي التفكير ملياً وتقييم مدى الفائدة أو الجدوى المترتبة على هذه المساعي. فالإقرار بشمولية (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) ولكونه القاعدة العريضة العالمية لمجموعة المبادئ والقيم الإنسانية تستلزم التريث في البحث عن مواثيق أخرى ذات طابع ديني أو إقليمي كبديل عن الإعلان العالمي موضوع هذه المعالجة. فإذا ما وجدت حاجة ما لتناول أوجه معينة لم يعالجها الإعلان العالمي, فيمكن عند ذاك التفكير بإصدار مواثيق مكملة للإعلان العالمي هدفها التعبير عن القضايا والأمور التي تمّ إغفالها في تلك الوثيقة العالمية, على أن تكون هذه القضايا والأمور نابعة من أوضاع وحاجات خاصة, أي ذات طابع خصوصي, وتعكس حالات اجتماعية وثقافية وتاريخية مميزة لأمم معينة أو مناطق متجانسة ومحددة في العالم.

شرعية مدعومة

أما المكوّن أو الركن الثاني للأمن الإنساني فهو المتعلق بالآليات والوسائل.

ويتركز هدفه في تحرير وبناء القدرات الإنسانية. ويشمل عدداً من التدابير والسياسات الاستراتيجية, بغية بناء وترسيخ أطر مؤسسية مستندة إلى شرعية دستورية ومدعومة من الرأي العام على قاعدة توافقية عريضة. وهذا ما يطلق عليه, الحكم الصالح أو إدارة الحكم. ويتضمن هذا الحكم, الذي تبلورت مضامينه في إطار المناقشات والدراسات التي أجرتها هيئات الأمم المتحدة, إلى الغايات التالية بوجه عام:

  1. تعزيز الرفاه الإنساني, أي تحسين مستوى المعيشة.
  2. توسيع القدرات البشرية وخيارات المواطنين.
  3. احترام وحماية الحقوق والحريات الفردية والعامة.
  4. احترام حقوق الأقليات والمرأة وتمكينها, أي تعزيز إمكاناتها.

كما يحمل هذا النوع من الحكم المنشود سمات جوهرية من أهمها أن يكون تشاركيا وشفافا وخاضعا للمساءلة وسلطة القانون. أي أن الحكم الصالح ينهض على توافق مجتمعي واسع, ويكفل مشاركة جميع أو غالبية الفئات الاجتماعية في عملية صنع القرار وتخصيص الموارد للتنمية وإدارتها بصورة سليمة بوصفها محور عملية النمو والتقدم في البلاد.

والواقع أن الحكم الصالح يتلخص, باختصار, في تعزيز قدرات المواطنين ونشر الديمقراطية وذلك بخلق بيئة مؤسساتية تضم برلمانا (مجلس نواب) وأنظمة تشريع وقضاء وانتخابات تجرى بصورة صحيحة ووفق رقابة شعبية مسئولة.

وإلى جانب ذلك, تبرز أهمية الدور الذي يلعبه المجتمع المدني بمختلف منظماته ومؤسساته في تحقيق الأمن الإنساني والتنمية المستدامة الشاملة. الأمر الذي يستوجب تشجيع هذه المنظمات والمؤسسات ودعمها بجميع الوسائل.

ولكي تقوم هذه الهيئات بدورها بصورة صحيحة, ينبغي أن تكون مستقلة عن الحكم وممثلة لقطاعات من الرأي العام وتعبر عن مصالح وتطلعات فئات اجتماعية مختلفة.ومنها جمعيات الصناعيين والتجار والنقابات العمالية والمهنية الأخرى (محامين واقتصاديين ومهندسين وصحفيين وإعلاميين بوجه عام), والهيئات النسائية والشبابية والرياضية وأصحاب الاختصاص والجماعات الدينية والاجتماعية والمهتمين بالدفاع عن البيئة وغيرها.

روح العصر

ولعل المهمات التي تضطلع بها منظمات المجتمع المدني تتنوع وتتسع لكن هدفها العام يتمثل في تقديم المساهمة لدعم مسيرة التنمية البشرية المستدامة وفي توفير تعاون مثمر مع الدولة والقطاع الخاص ضمن مجهودات مشتركة.

وفي هذا السياق, تبرز الحاجة إلى تمكين المرأة من التمتع بكامل الحقوق على أساس المساواة مع الرجل وفق الأعراف والمواثيق الدولية, ولاسيما المعاهدة الدولية ضد جميع أشكال التمييز ضد المرأة وكذلك مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وتشمل هذه الحقوق جميع مجالات الحياة وإدارة الحكم وشئون المجتمع من النواحي القانونية والتشريعية والتمثيلية واعتماد قانون عصري للأحوال الشخصية يتماشى مع روح العصر ومتطلبات التقدم الإنساني.

لا شك في أن بلوغ الأمن الإنساني وتجسده عملياً وحمايته في إطار من احترام القيّم والآليات التي أتينا عليها هو ليس فقط حاجة إنسانية بالغة الأهمية, بل إنه ضرورة لا غنى عنها لأي تطور اقتصادي واجتماعي وثقافي مطرّد وسليم. لذا, فإنه يقع في صلب الأهداف والتطلعات التي يناضل البشر من أجل تحقيقها في جميع المجتمعات والدول. ولعل العالم العربي يواجه اليوم أكثر من أي وقت مضى, طائفة من التحديات على هذا الصعيد, ويضع هذه الأهداف في مقدمة ما يرنو إليه في المستقبل على النحو الذي كشف عنه (التقرير العربي للتنمية الإنسانية) الذي صدر منذ شهور عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي

 

مهدي الحافظ

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات