صنعة الشعر... كيف تهز الكلمات الوجدان?

صنعة الشعر... كيف تهز الكلمات الوجدان?

أوراق أدبية

إذا كان الشعر صنعة - كما جزم القدماء بذلك - فما مواصفات القصيدة الجيدة وكيف تؤثر في سامعها?

مفهوم الصنعة الشعرية واحد من المفاهيم التي انبنت عليها نظرية الشعر في النقد العربي القديم على امتداد عصوره, كما انبنت عليه النظرية نفسها في تجلياتها الإحيائية التي كانت بعثا للموروث العربي القديم, واستعادة لمفاهيمه الأساسية, ومنها مفهوم الصنعة, وأول ما يترتب على هذا المفهوم - سواء في أصوله القديمة أو تجلياته الإحيائية - هو الثنائية التي قسمت البناء الشعري قسمة حادة إلى شكل ومضمون, أو صورة ومادة, أو لفظ ومعنى, وهي القسمة التي ظلت سائدة إلى أن تمردت عليها المفاهيم الحديثة للشعر.

لقد آمن الإحيائيون - مثل أسلافهم من نقاد التراث وبلاغييه - أن الشعر صناعة قولية تُكتسب بالدربة والممارسة والحفظ. ويشير المصطلح, على هذا النحو, إلى القدرة على إحداث نتيجة سبق تصورها بواسطة فعل خاضع للوعي والتوجيه, فالشاعر صانع ماهر ينتج من أجل مستمعين. وترمي مهارته إلى إحداث تأثير خاص - أو تخييل - في عقولهم. والشاعر - على هذا النحو - مثل أي صانع آخر, يجب عليه أن يتعلم كيفية صنع شعره عن طريق الحفظ والممارسة والرجوع إلى القواعد التي لا تزيد على كونها مأخوذة من تجارب أسلافه. وقد تحددت دلالة المصطلح بهذه الصورة - كما تحدد كثير من قيم الإحياء - نتيجة إيمان الإحيائيين بالموروث العربي القديم, والعودة إليه بوصفه ملاذا يحمي الذات العربية ويدعمها في مواجهة حضارة الغرب الغازية. وترتب على هذا أن حمل مفهومهم عن الشعر بشكل تلقائي المبادئ القديمة نفسها. تلك المبادئ التي انتهى إليها البلاغيون العرب في ضوء نظرتهم العقلانية إلى الشعر. ولقد تبلورت هذه المبادئ في مفهوم الإحيائيين عن اللفظ والمعنى. وهو مفهوم تمثلوه من الموروث النقدي والبلاغي القديم, وجعلوا منه المنطلق الأساسي لكل المفاهيم النظرية والممارسات العملية لصناعة الشعر أو الإنشاء أو الكتابة.

المعنى والكسوة اللغوية

يشير مصطلح (المعاني) في الكتابات الإحيائية إلى (المقاصد) أو الدلالة النثرية للأبيات مجردة من كل الحواشي والزخارف. والمعاني - في هذا الفهم - ثابتة وموجودة قبل التعبير عنها, أي أنه ليس هناك فارق جوهري بين الهيكل التجريدي للمعاني من حيث هي أفكار في ذهن الشاعر وبينها من حيث هي أبيات في قصيدته, فالمعنى شيء ثابت وواحد قبل الشروع في كتابة القصيدة وبعد كتابتها على السواء, قد يوجد فارق بسيط بين الصورة القبلية السابقة للمعنى في الذهن وبين الصورة الآنية أو الحالية في القصيدة. لكن هذا الفارق فارق في الشكل أو في الكسوة اللغوية. ولذلك ذهبوا إلى أنه يمكن التعبير عن المعنى الواحد بأشكال وأساليب متعددة, قد يكون لبعضها رونق وجمال ليس في غيرها. هذه هي الدلالة الأساسية لمصطلح (المعاني). لكن له دلالة أخرى ثانوية, ففي أحيان كثيرة يتحدث الإحيائيون - متابعين البلاغيين القدماء - عن المعنى المخترع أو النادر أو البديع, ولا يعنون بالمصطلح - في هذه الحال - مجرد (المقاصد) أو الدلالة النثرية للأبيات, وإنما يعنون التصورات الغريبة والتشبيهات أو الاستعارات النادرة, الأمر الذي يجعل المعنى البديع أو المعنى المخترع عندهم يتشابه إلى حدّ ما مع المفهوم البلاغي للصورة عند الباحثين المعاصرين.

أما الألفاظ فهي إشارات ثابتة أيضا, يختص كل منها بدلالة فردية ثابتة, يشير إليها ولا يتعدّاها إلا في الحالات المجازية التي هي بمنزلة انحراف في مجرى الدلالات العادية للألفاظ أو خروج على الطبيعة العادية للغة. ويمكن القول إن فكرة المعنى واللفظ على هذا النحو المتمايز هي المقدمة المنطقية التي بني عليها مفهوم الشعر بوجه عام, ومفهوم التصوير بوجه خاص, وذلك من حيث الطبيعة النوعية للشعر والتصوير عند الإحيائيين. ولذلك يقول حسين المرصفي أستاذ الإحيائيين وأبرزهم في ريادة التأثير: (اللغة العربية ألفاظ معدودة عينت عند العرب للأشياء, لتحضر بها في العقول عند الإرادة). وتعيين اللفظ للشيء على هذا النحو يعني أن وظيفة اللفظ هي إحضار الشيء المقصود في أذهان المخاطبين عند إطلاقه وإرساله من الفم, ومن ثم يسمى الشيء الذي وضع له اللفظ معنى, أي موضع العناية والقصد. لكن الألفاظ عند المرصفي تنقسم إلى قسمين, فهي باعتبار الأوضاع الأصلية والمعاني الأولية تسمى حقائق, وباعتبار الأوضاع التبعية والمعاني الثانوية تسمى مجازات. وعلى هذا الأساس, فالشاعر إما أن يستخدم اللغة استخداما حقيقيا وإما أن يستخدمها استخداما مجازيا, لكنه يفضل الاستخدام المجازي لأنه ينطوي على التحسين والتزيين وإحداث خصوصية في المعنى لا يحققها الاستخدام الحقيقي. وسواء كان الشاعر يعالج لغته في ظل هذا الاستخدام أو ذاك, فإن عليه أن يخضع لمجموعة من القواعد الخاصة بكل منهما.

دلالة الألفاظ

والقاعدة الأولى للاستخدام الحقيقي هي استخدام الألفاظ فيما وضعت له بدقة, فلا تشير إلا إلى المدلول الحقيقي المفرد الذي عينت له. أما الاستخدام المجازي - وهو الانتقال من معان أولية إلى أخرى ثانوية - فعلى الشاعر أن يجعل الانتقال بينهما ظاهرا واضحا. يفهمه السامع بسهولة عن طريق القرينة المحددة أو العلاقة المناسبة التي تربط بين الاثنين وإلا وقع في الخطأ والتعقيد. ويترتب على ذلك أن الشاعر ليس حرا حرية كاملة في النقلة المجازية المتاحة له, بل عليه أن يرتبط بنوع خاص من العلاقات حددها أسلافه من قبل, فقد بحث العلماء - في ما يقول المرصفي - عن العلاقات التي لاحظتها العرب في مجازاتها وحصروها باستقصاء التتبع, وحكموا بأنه لا يصح أن يتجوز بلفظ اعتمادا على غير تلك العلاقات, حيث كان الغرض التكلم باللغة العربية, وإذن, فعلى الشاعر - أولا - أن يعتبر مواقع هذه العلاقات بإطالة الفكر وإمعان النظر في كلام الله جل ذكره وكلام من يرد عليه من شعراء العرب الأقحاح ويقتفي أثرهم, ليكون ذلك له - ثانيا - (بمنزلة المحك الذي تعرف به الزيوف من الصحاح الخلاص).

ونتيجة هذه المعايير, يتوقف المرصفي أمام بيت لأبي نواس الشاعر العباسي:

فما جازه جود ولا حل دونه ولكن يصير الجود حيث يصير


ويعقب عليه بقوله:

(هذا البيت من الشعر الذي كثر لفظه وقل معناه, إذ معناه أنه لا يفارقه الجود, وعليه فيه مؤاخذة, فإنه أخذه من قول الشنفرى:

ظاعن بالحزم حتى إذا ما حَلَّ حَلَّ الحزُم حيث يحل


ونقل العبارة من الحزم نقلا غير صحيح إلى الجود, وذلك أن الحزم يتعلق بالسير والحلول, وأما الجود فإنه لا يصح ربطه بالسير والإقامة, وإنما يربط بالأحوال فيقال: إنه جواد على كل حال من يسر وعسر). وأهم ما يخرج به القارئ من نص المرصفي أن لغة الشعر ذات طبيعة إشارية وأن اللفظة فيه لها معنى واحد قائم بذاته. يتحكم في استخدامها وفي الغرض الذي ينبغي النطق بها من أجله. وقد تحدد هذا (المعنى) الفردي الثابت في ضوء نظام عرفي, حددته الممارسة أو الاستعمالات اللغوية للعرب الأقحاح الذين شهد لهم بالنقاء اللغوي, ومن ثم فقد أخطأ أبو نواس لأنه لم يراع في استخدامه كلمة (الجواد) دلالتها الفردية الثابتة, وإنما خلط بها دلالة أخرى ليست لها, فضلا عن أنها لم ترد في هذا النظام العرفي الموروث. ويشبه ذلك ما نجده في كتابات محمد المويلحي (1868-1930) الذي نقرأ له في نقده للجزء الأول من (الشوقيات) الذي صدر سنة 1898م ما يلي:

(ومما نعيبه عليه - أي على شوقي - قوله من أبيات:

وقطعة خدّ بينما هي جنة لعينيك يا رائي إذا هي نار


لأن القطعة بغير الخد أنسب, ولو قال صفحة خد لكان التعبير أنسب وأجمل). وفيما يقوله المويلحي نجد الجزء الثاني المكمل لفكرة المرصفي يجري تطبيقه على أحمد شوقي (1868-1932) الذي أخطأ النقلة المجازية لأنه لم يجر على طريقة العرب الذين درجوا على نسبة الصفحة إلى الخد, ولذلك فنسبة القطعة إلى الخد هي نسبة غير مناسبة.

الشاعر ولغته

ويسهل ملاحظة - في نقد أبي نواس وشوقي - أن لغة الشعر تحاكم محاكمة منطقية في ضوء قواعد عقلية أشبه بقواعد الجملة النحوية الصارمة. ويستوي نقد المويلحي والمرصفي في الوجهة النقدية التي تعيد لنا الموقف القديم الذي وقفه الآمدي وعبدالقاهر من بعده في ما يتعلق باستخدام الشاعر للغة. ولقد حكم الآمدي - في كتابه (الموازنة) - على أبي تمام بالخطأ لأنه قال:

أجْدر بجمرة لَوْعَة إطفاؤها بالدمع أنْ تزداد طول وقود


لأن هذا (خلاف ما عليه العرب) وضد ما يعرف من معانيها, لأن المعلوم من شأن الدمع أن يطفئ الغليل ويبرد حرارة الشوق). وأخذ عبدالقاهر - في كتابه (دلائل الإعجاز) - الموقف نفسه بلا فارق من بيت العباس بن الأحنف:

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتطلب عيناي الدموع لتجمدا


إذ لم يوجد شاعر قبله (جعل جمود العين دليل سرور وإمارة غبطة وكناية عن أن الحال فرح). وقد فلسف عبدالقاهر موقفه ليصل به إلى مرتبة القانون فقال: إن اللغة (تجري مجرى العلامات والسمات, التي تتحدد باستعمال الشعراء الأوائل), ولذلك لا يستطيع الشاعر (إلا أن يستعملها على ما وضعت عليه). والأصل هو (أن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغير على الجملة عما أراده واضع اللغة).

هذا هو الموقف في صورته الأصلية. وقد تمثله المرصفي والمويلحي وغيرهما من نقاد الإحياء الكبار, وتابعوه دون تغيير. ولذلك حاسبوا على أساسه الشعراء, وطالبوهم - باستمرار - بأن يتقيدوا بالدلالة العرفية كما حددها الشعراء المعترف لهم بالنقاء اللغوي, وكان ذلك أمرا طبيعيا لأن نقاد الإحياء كانوا, مثل أساتذتهم من بلاغيي العرب القدامى, لا يضعون في اعتبارهم أن للغة مستوى آخر غير المستوى الإشاري, الأمر الذي دفعهم إلى الإلحاح على الجانب المنطقي للغة الشعر وأغفلوا جانبها الانفعالي. أقصد إلى ذلك الجانب الذي لا ينحصر في التسجيل والتوصيل وحدهما, أو يهتم بالإشارة المحددة والمباشرة والثابتة, وإنما يهدف - ابتداء - إلى التعبير عن انفعالات الشاعر ومواقفه وحالاته النفسية, وتوصيلها إلى المتلقي أي إحداثها أو إثارتها لديه.

ومن المؤكد أن الإحيائيين تابعوا البلاغيين العرب القدماء في النظر إلى اللغة على أنها ذات مستوى دلالي واحد, يخضع لقوانين المنطق وقواعد النحو, ووظيفة واحدة تتحدد في النقل أو التوصيل أو الإشارة. وذهبوا إلى أن الفارق بين الشعر وغيره من الأنشطة اللغوية هو أن لغة الشعر تعتمد أكثر من غيرها على الزخارف والتخييلات التي تقدم المعنى الملقى في الطريق في قالب منمق موزون. ولكنها لا تختلف عن غيرها في ما عدا ذلك, فلها - كما لسواها - هدف منطقي يقوم على ثبات الإشارة وصحتها, فضلا عن توصيلها الفكرة المحددة سلفا. وتتمثل خطورة هذه النظرة في أنها دفعت بالقدماء والإحيائيين معا إلى عدم إدراك الفارق الجوهري بين استعمال اللغة في الشعر واستعمالها في العلم مثلا, قد نقول الآن إن كلا الاستعمالين يمثل منهجا خاصا في التفكير أو النشاط الذهني يختلف عن الآخر اختلافا يفرض لكل من العلم والشعر استعمالا لغويا ذا طبيعة خاصة ووظيفة متمايزة. ولكن الإحيائيين والقدماء لم يعرفوا هذا, بل فهموا لغة الشعر على أنها (آلة) أو (أوعية) تنقل معاني المتفنن إلى ذهن المتلقى.

فلسفة البلاغة

وقد صاغ جبر ضومط (1859-1930) في كتابه (فلسفة البلاغة) هذه النظرة التي جمع فيها بين آراء البلاغيين العرب وآراء البلاغيين الأوربيين المنتمين إلى النزعة الكلاسيكية التي لا تختلف جذريا عن آراء البلاغيين العرب, فالجميع يرى أن الفن محاكاة, وأن الشعر صنعة قولية لها قواعد ثابتة, وينقسم إلى معان وألفاظ, والإيمان بالتقليد والتقاليد عند الجميع يرد اللاحق على السابق, ويحصر اللغة في الاستخدام الإشاري الذي لا يعرف التمييز بين لغة الشعر ولغة العلم, فاللغة هي الآلة أو الأداة أو الوعاء في كل الأحوال. ولذلك يقول جبر ضومط ما لا يختلف فيه عن المويلحي والمرصفي خصوصا حين يؤكد (أن اللغة آلة لنقل الفكر). ويذهب إحيائي آخر هو محمد روحي الخالدي (1864-1913) إلى الهدف نفسه, متأثرا بالكلاسيكية الفرنسية التي عرفها, والتي كانت تتجاوب مع أفكار البلاغة العربية القديمة. ولذلك يؤكد في كتابه (علم الأدب بين الإفرنج والعرب) أن (الأصل في الكلام للمعاني لا للألفاظ, لأن اللفظ هو ظرف للمعنى يتخذه المتكلم أو الكاتب لسبك ما يصوره في نفسه ويشكله في قلبه من المعاني... وحيث إن المعنى سابق للفظ وجب أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني وخادمة لها). ويعني ذلك أن العلاقة بين الألفاظ والمعاني علاقة احتواء لا أكثر ولا أقل. وأن الصلة بينها كالصلة التي بين الوعاء ومحتواه أو بين الثوب والجسم. ويكمل قسطاكي الحمصي (1858-1941) هذه النظرة في كتابه (منهل الورّاد في علم الانتقاد) حين يؤكد المنظور الثنائي نفسه للعلاقة بين اللفظ والمعنى, فاللفظ للمعنى كالثوب للجسم, فالثوب الطويل للقوام الطويل, والثوب العريض للجسم السمين. والمتفنن العبقري يعطي كلاّما يخصه من الصورة أو الألفاظ اللائقة. وإذا كان الأمر كذلك فإن وظيفة الأديب تتمثل في عنايته بالألفاظ إلى جانب عنايته بالمعاني لأن الهدف الذي يروم الأديب إصابته - فيما يرى محمد روحي الخالدي - هو التفنن في طرق الإفادة وبيان المعنى الواحد بأساليب مختلفة من الكلام. ولذلك أظهر الأدباء كل مهارتهم في الألفاظ وبيّنوا اقتدارهم في معرفة اللغة وحفظ الأسماء الكثيرة والمترادفات وإفادة المعنى الواحد بطرق مختلفة, فكانت الألفاظ طوع قريحتهم يتصرفون بها كما يتصرف الصائغ في سبك الفضة.

وإذا كان المعنى ينفصل عن ألفاظه على هذا النحو, فإن النص الشعري نفسه يمكن أن ينقسم إلى أقسام مماثلة, أقسام يمكن الاستعانة في صياغتها بالمنطق الأرسطي الذي لجأ إليه قسطاكي الحمصي عندما وضع الشعر في أربعة أقسام, أو مراتب متمايزة. ويرجع ذلك إلى أن المراد بالحقائق الأدبية (هو كل كلام من منثور ومنظوم إذا كان صحيح المعنى فاسد التعبير, أو بالعكس, أو إذا كان فاسدهما معا, أو صحيحهما, فإنه في الأحوال الثلاثة يستعدي الجدال لبيان وجه نقصه وفساده, وفي الحالة الرابعة لبيان ما هو أحسن منه, أو لإمكان عمل ذلك). وعلى هذا الأساس يقول الحمصي معلقا على هذا البيت:

حتى إذا ما حاولت خطوة والصدر بالأرداف مدفوع


(إن قوله الصدر بالأرداف مدفوع, كلام حسن التركيب فاسد المعنى). ولا يختلف المنفلوطي (1876-1924) أمير النثر الإحيائي في الإيمان بالقواعد نفسها, فقد صاغها وصدر عنها في مقدمة المختارات التي جمعها ونشرها, خصوصا حين يؤكد في هذه المقدمة ما يلي: (وقد جعلت قاعدتي في الاختيار جمال الأسلوب أولا, وجمال المعنى ثانيا, فربما أختار ما حسن لفظه وتوسط معناه, وقد اختار ما توسط لفظه وسما معناه... ولكنني لا أختار ما كان معناه ساميا ونظمه فاسدا). وتصبح القاعدة نفسها أساسا لعملية التقويم الشعري, بل يتلقفها الشعراء ليجعلوا منها أساسا لمفاهيمهم الخاصة عن الشعر, فيقول أحمد محرم (1877-1945) في مقدمة الجزء الأول من ديوانه: (ورب شعر تبهرك ديباجته ويستفزك حسن تركيبه ورونق ألفاظه, ولكنك إذا عصرته لم تظفر منه بمعنى ولا رجعت عنه بطائل. وآخر ترى من خشونة ملمسه وفساد تركيبه ما تكاد تصعق له, ولكنك تلمح تحت كلماته تيارا كهربائيا من الخيالات والمعاني, فتجد في نفسك من الغيظ والتحرق ما تجده إذا رأيت الحسناء تخطر في ثوب خلق) وهي القاعدة نفسها التي نظر بها خليل مطران (1871 - 1941) إلى شعراء عصره فقال عن حافظ إبراهيم (1872 - 1932): (له غرام باللفظ لا يقل عن الغرام بالمعنى, وفي أقصى ضميره يؤثر البيت المجاد لفظا على المجاد معنى). ويصف مطران محمود سامي البارودي (1840 - 1904) (كان قلبه كلفا بالنغمة, وذهنه منصرفا إلى الصناعة كما يدل على ذلك منظومه, وكما يشير إليه اختياره من أقوال المتفوقين, فإنه لم ينتق إلا كل ما حسن لفظا ومعنى, أو ما حسن لفظا فقط, وأهمل ما حسن بمعناه دون مبناه). ويصف حافظ إبراهيم شعره بقوله: (أما أنا فأميت المعنى إذا لم يتفق لفظ رائع. وأستاذنا في ذلك, والنجار (الدقي) للشعر, إسماعيل صبري فقد كان يظفر بالمعنى الشارد واللفظ الرقيق). ويمكن اختزال كل هذه النصوص في التحليل الأخير, وردّها إلى أصلها التراثي الأول الذي تفرعت منه, كلمات ابن قتيبة في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء), وذلك حين يقول: (تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب: ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه... وضرب منه حسن لفظه فإذا فتشته لم تجد هناك طائلا.. وضرب منه جاد معناه وقصرت الألفاظ عنه.. وضرب منه تأخر لفظه وتأخر معناه).

نظرية المحاكاة

وليس من الضروري بعد ذلك أن نرجع كل تفصيل إحيائي في مفهوم العلاقة بين المعنى واللفظ إلى أصله, فالأمر ممكن ولا يحتاج إلى مجهود كبير من أي باحث عارف بتفاصيل التراث وكتاباته البلاغية والنقدية. ولكن الإشارة إلى نص ابن قتيبة في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء) كافية على سبيل التمثيل على الأقل, وذلك من حيث الإشارة إلى المنحى التراثي الذي سار فيه النقد الإحيائي موازيا لحركة الشعراء الإحيائيين, أمثال البارودي وشوقي وحافظ ومطران والرصافي والزهاوي وغيرهم في العلاقة الاتّباعية التي وصلت بين السلف والخلف. ومن الواضح أن هذه العلاقة لم تمنع نقاد عصر الإحياء من الإفادة من الكلاسيكية الأوربية خصوصا حين لاحظوا التجاوب بينها وبين الأفكار والمفاهيم التراثية التي لم تفارق نظرية المحاكاة, ولم تفارق النزعة العقلانية التي كانت الأساس لعلم الأدب بين الإفرنج والعرب في المنظور الأدبي الإحيائي لمحمد روحي الخالدي, أو المنظور البلاغي الإحيائي لأمثال جبر ضومط.

ويمكن التفرقة ظاهريا - من هذا المنظور - بين نقاد إحيائيين سلفيين اقتصروا على التراث العربي وحده, من أمثال حسين المرصفي وحمزة فتح الله وأمثالهما, والذين وصلوا التراث العربي بالمفاهيم الكلاسيكية الأوربية, من أمثال محمد روحي الخالدي وجبر ضومط وأقرانهما. ولكن هذه التفرقة تظل ظاهرية لأن الفريقين يتفقان في المبادئ البلاغية الأساسية والتوجهات النقدية المسيطرة, وهي المبادئ والتوجهات التي حافظت على ثنائية اللفظ والمعنى وأسهمت في تأصيلها نظريا, وممارستها عمليا على مستوى التطبيق في التناول النصّي لأبيات الشعراء أو قصائدهم.

وقد ترتبت على هذه النظرة إلى الألفاظ والمعاني النتائج القديمة التي توصل إليها البلاغيون القدماء في درسهم للشعر. فأصبحت الصور الشعرية مجرد زخارف وحواش تضاف إلى مجموعة من المعاني الثابتة. ولذلك ذهب علي الجارم (1881 - 1949) في مقدمة الجزء الأول من ديوانه: (لا يكون جمال الشعر دائما بالمجاز أو التشبيه وضروب التزويق اللفظي, وإنما جماله في استعداده للنفاذ إلى النفس والوصول إلى القلب على أي صورة كان وفي أي ثوب يكون). ويعني ذلك ما ذهب إليه روحي الخالدي من أن الاستعارات وضروب التزويق اللفظي (وإن كان لها تأثير عظيم على النفس فهي لم تزل في نظر العقلاء كالحلي والمصوغ للعروس. فالعاقل يجتهد أن تكون عروسه من ربات الجمال والدلال والأدب والكمال فإن وجد معها شيء من الحلي فنعم). وعلى هذا الأساس يقول الخالدي: (إن الواجب على الكاتب ألا يشغل نفسه بالاستعارات وأنواع البديع وألا يتصنع ولا يتعمل في الكلام بل ينبغي له أن يهتم بإظهار موضوعه الذي هو فيه وإيضاحه بالأوصاف السديدة المظهرة له ظهور الشمس في رابعة النهار.. ليكون أشد تأثيرا على السامع). لكن هذا كله لا يعني التنكر الكامل للصور الشعرية, إنها نافلة, ومع ذلك فهي في نظر الشيخ حمزة فتح الله (1849 - 1918) - في كتابه (المواهب الفتحية) - (أشد ما يحتاج إليه الشاعر أو المنشئ لأنها تكسو كلامه حلل التزيين وترقيه درجات التحسين).

وتقودنا عبارة الشيخ حمزة فتح الله إلى مفتاح الفهم الإحيائي للتصوير في الشعر, أقصد إلى الفهم الذي يعطي الأولوية للمعنى من حيث الورود على الذهن, ويعطي الأهمية للتصوير من حيث هو الصياغة التخييلية لهذا المعنى. والصياغة التخييلية هي الصياغة الزخرفية التي تستعين بالتشبيهات والاستعارات والكنايات والتمثيلات بوصفها الأوعية البراقة التي يوضع فها المعنى الذي سبق اكتماله في الذهن. ويعني ذلك بكلمات أخرى ان الصور بوصفها نوافل يمكن إطراحها دون أن يفقد المعنى الأصلي طبيعته الجوهرية, لكنها - مع ذلك - ذات وظيفة خطيرة تجعل من العسير - وليس من المستحيل - تقديم الفكرة أو المعنى في عقل السامع. والقصد من ذلك التأثير الذي يساعد السامع على تقبّل الفكرة أو المعنى الذي يسعى الشاعر إلى نقله إليه على سبيل الإقناع أو الوعظ أو التعليم. وإذا كان التأثير الذي يحدثه الشعر في القارئ يرجع - في أهم جوانبه - إلى هذه الصور الشعرية والبراعة في صنعها, فإن هذه الصور تغدو الخاصية التي يمكن أن تميّز الشعر عن غيره من الصناعات, كما تغدو سمة من سمات الشاعر الحاذق أو المبتكر, فالشعر في التقويم الأخير له عمل تخيلي تخييلي. وإذا كانت قوة التخيل العقلي لدى الشاعر هي القوة الذهنية التي تنتج الصور الشعرية وأمثالها, في مجال صنعة الشعر أو صياغة القصيدة, فإن الصياغة الناجحة هي التي تؤثر في مخيلة القارئ, وتدفعها إلى الإثارة التي تؤدي بالقارئ إلى الاستجابة المطلوبة, وتلك هي عملية التخييل الناتجة عن براعة التخيل. وإذا كان الأصل في نجاح الصنعة هو حسن التخيل, على مستوى تكوّن المصنوع في عقل الشاعر, فإن دليل حسن التخيل هو تأثيره في مخيّلة القارئ, ومن ثم قدرة الشعر التخييلية. وفي ذلك النوع من الحجاج ما يؤسس المبدأ الإحيائي الذي يمكن تلخيصه في أن التخييل هو الخاصية التي تميز الشعر عن غيره من الصناعات, على أن هذه الأفكار لم تظهر بشكل مكتمل لدى الإحيائيين منذ البداية بل أخذت تتبلور تدريجيا منذ المرصفي إلى أن وصلت إلى ذروة اكتمالها عند الخضر حسين أحد تلاميذ الشيخ محمد عبده. وقد صاحب تبلورها واكتمالها عمق الارتداد إلى الموروث والتوسع المتزايد في نشر جوانبه المختلفة.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات