هل كان الجواهري حقاً.. آخر العمالقة?

هل كان الجواهري حقاً.. آخر العمالقة?

هذه القصائد الطويلة الفخمة.. هل كانت مجرد كلمات جوفاء.. غاضبة ومتشنجة وهل كان الجواهري سريع الانفعال عاجزا عن التأمل?! إن هذا المقال يقدم رؤية جديدة ومختلفة لهذا الشاعر الكبير.

عندما ظهر الشاعر محمد المهدي الجواهري كان يسيطر على الساحة الشعرية العراقية شاعران, تفاوتت حظوظهما من الشعر تفاوتاً كبيراً.

فكان الزهاوي بلغته الركيكة الواهية ونظمه النثري المتهافت الذي كان يشفع له لدى الناس نوعا من المواقف المتحررة الجريئة التي كان من الممكن أن تصنع منه المصلح أو الثائر, ولكنها على جرأتها, لم تصنع منه الشاعر. وكان الشاعر الآخر معروف الرصافي. وكان هذا الشاعر شيئا من المزج بين طريقة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ويتضح ذلك في توظيفه الشعر لخدمة القضايا الاجتماعية ومناقشة المواقف السياسية, والمتابعة الصحفية الشعرية, إذا صح هذا التعبير. على أنه يفوق شوقي وحافظ بالتزامه الوطني والاجتماعي المعلن والذي لم يكن يهادن فيه أو يساوم, إلى حرية فكرية جريئة لا نكاد نلتقي بها لدى غيره من شعراء الوطن العربي في ذلك الأوان, وخاصة في وقوفه إلى جانب حرية المرأة, مع صياغة شعرية راقية ترتفع به عن مستوى الزهاوي وما شابهه من شعراء العصر. ويمثل الرصافي في إطار المدرسة التقليدية العربية الحديثة أقوى صوت شعري قدمه العراق في العصر الحديث.

كما يمثل ارتباطه بقضايا الوطن العربي جانبا في شخصيته القومية وتوجهاته القومية الواضحة. والواقع أنه بعد ذهاب شوقي وحافظ, لم يكن هناك شاعر تلتفت إليه الأبصار, أبرز من معروف الرصافي. ومن هنا كانت له هذه الشهرة التي ظفر بها. وبصفة خاصة, بعدما نسبت إليه في أواخر حياته بعض المواقف الفكرية الجريئة, ومنذ أن حصل الجواهري على اعتراف الرصافي به أميراً للشعر في العراق, في قصيدة يرويها الجواهري نفسه باعتزاز وفخر. نصب نفسه فيما بعد الشاعر الأكبر والأوحد في العراق. وبسط هيمنته على الساحة الشعرية العراقية. وحاول أن ينفذ منها إلى البيئة اللبنانية والسورية ثم المصرية, فلم تنته الحرب العالمية الثانية حتى كان الجواهري أقوى صوتا في الشعر العراقي, ومن أجهر الأصوات في الوطن العربي. والواقع أن هذه الظاهرة الجواهرية التي تنامت في العراق ظاهرة جديرة بالاهتمام والوقوف عندها طويلا, لتفسير كثير من اتجاهات الشعر العربي المعاصر في العراق, وبالتالي في الوطن العربي الذي انسحبت عليه آثارها. وأنا أعزو قيام حركة الحداثة الشعرية إلى هيمنة هذه الظاهرة الجواهرية في العراق, وأعتبره بهذه الهيمنة المُعْجِزَة للكثيرين من الشباب, سبباً في قيام حركة الشعر الحديث في العراق. فقد جرب شباب الشعر أجنحتهم اللذنة للتحليق في عوالم الشعر العربي بصياغته التقليدية القديمة فأيقنوا أنهم لا يستطيعون أن يحققوا شيئاً أمام هذا النسر المحلق - وهذا الوصف ليس للتمجيد ولكن لبيان الحال.

فقد أدرك السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي أنه لا قدرة لهم على مطاولة هذا الشاعر, أو تجاوز صياغته اللغوية القوية الصخّابة ذات العجيج والضجيج صياغة وإلقاء وسلوكا. فإذن, لابد من قلب المعبد على من فيه. وكانت حركة الشعر الحديث التي انفكت انفكاكاً كاملاً عن الشعر التقليدي, تخلصا من الهيمنة التي بسطها الشاعر على بيئته وعصره, والتي كادت أن تغطي قرناً كاملاً. فأنا أعتبر الجواهري مسئولا بطريقة أو بأخرى عن قيام حركة الشعر الحديث.

وقد ظل شعراء الحداثة حتى بعد انفكاكهم عنه, بأسلوبهم الجديد ينظرون إليه نظرتهم إلى الصخرة العاتية التي لا يمكن أن يناطحها أحد دون أن يوهن قرنه, لا في عالمه الشعري, ولكن في صياغته هذه اللغوية القويّة ولذلك شعروا بالارتياح أن يدفنوا فيه آخر العمالقة!

الكون الشعري المفقود

وأنا أعتبر أن معجزته الشعرية هي لغته, مقارنة بما كان معاصرا له أو ما جاء بعده. وليس لهذا الشاعر (كون شعري) لغته هذه المتأججة الصخّابة هي التي أظهرته على شعراء عصره, وشكلت قوة رهيبة, أحسن هو نفسه استغلالها والإفادة منها, في ترسيخ كيانه في العراق وخارجه.

أما عن عوالمهم الشعرية أعني ألوانهم الشعرية فلم يستطع أن ينافسهم فيها, حيث ظل كل واحد من هؤلاء متميزاً بلونه الشعري الخاص, بمن في ذلك الزهاوي صاحب تلك الصياغة الواهية, ولكنه كان يتوفر على كون شعري لا يملكه الجواهري.وفي الشعر العربي شعراء قام كيانهم الشعري كله, على ما توفر لهم من صياغة قوية. في القديم كان البحتري وفي الحديث أحمد شوقي ثم محمد المهدي الجواهري وأصحاب اللغة الشعرية كبائعي حلوى (غزل البنات) تقدم إليك لغَّة كبيرة حتى إذا وضعتها في فمك لم تجد شيئا. أو هي كما يقول المثل التركي قنطار خرشف ودرهم حلاوة. وقد أدرك شباب الشعر في العراق ما يختلف به بعض هؤلاء الشعراء المتعاصرين عن بعض فسجل السياب مثلا أن أحمد الصافي النجفي (عالم قائم بذاته متسع الأفق, وشكل لا مثيل له عند أي شاعر عربي بمفرده. لم يترك موضوعاً إلا وطرقه, ولا عاطفة إلا وصورها فهو شاعر فلسفة وحكمة وهجاء وسخرية وغزل ووصف طبيعة, وهو شاعر ذاتي إلى أبعد حدود الذاتية, وموضوعي, إلى أبعد حدود الموضوعية إنه ظاهرة ضخمة في الشعر العربي).

وأهمية هذه الشهادة ليست لتأكيد خصائص شاعرية النجفي فقد حدّدها أيضا نقاد آخرون ولكن أهميتها في الدلالة على أن رواد الحداثة, كانوا يجدون عنده ما لم يكونوا يجدونه عند الجواهري, من عالم شعري رحب.وهذا ما نعنيه بالكون الشعري المفقود لدى الجواهري. وقد انبسطت حياة الشاعر على القرن العشرين بكامله. بدأت من أوله وانتهت بأعوامه الأخيرة التي يتأهب فيها لدخول القرن الواحد والعشرين. وهذا القرن العشرون الذي عاشه الشاعر وعشناه من أهم العصور في حياة البشرية, وأخطرها في تاريخ الحضارة الإنسانية, وأحفلها وأخصبها بالأحداث العلمية والفكرية والفنية والسياسية والاجتماعية والحربية. فيه انهارت ثلاث إمبراطوريات في أعوام قليلة.

بل وفي أشهر قليلة فيه غابت الشمس عن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وفيه سقطت الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية ثم لم ينته العصر حتى تحققت الظاهرة المدهشة وهي انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وسقوط سور برلين. في أيام معدودات وفي فترة قصيرة تفكك ذلك الستار الحديدي. هذا على المستوى العالمي, أما على مستوى الوطن العربي فقيام الثورات فيه ابتداء من الثورة في سوريا ثم في مصر ثم في العراق ثم في ليبيا وما حدث من أحداث صاحبت هذه الثورات وقيام الوحدة الأولى بين مصر وسوريا ثم انفكاكها والحرب الأهلية في لبنان والمصالحة المصرية - الإسرائيلية وقيام الحرب الإيرانية - العراقية واحتلال العراق للكويت ثم حرب تحرير الكويت وانعكاساتها على المنطقة.

وقد كان لكل هذه الأحداث الكبرى أثرها في المواطن العربي في نطاقه الوطني أو الإقليمي أو العالمي. فأين هذا العالم الصاخب المجنون المهووس بكل ما فيه من نكبات ومآسٍ من عالم هذا الشاعر العظيم.

وأنا بالطبع لا أعني مصاحبة هذه الأحداث بالتاريخ الشعري لها, على نحو ما كان يفعل شوقي وحافظ من تسجيلات للأحداث تغني عنها الصحافة ووسائل الإعلام. وإنما أعني هذه المعاناة البشرية الكبرى التي يعيشها إنسان القرن بما يجعل الشاعر منتسبا إلى عصره مذكورا فيه على أنه شاهد من شهوده فلا تخطئ في رده بإبداعه إلى العصر الذي عاش فيه. أخشى أن يكون الرد سلبيا لا في الإطار الإنساني الواسع فحسب ولكن في الإطار الوطني الضيق, حتى لتشعر في قراءتك لشعره, إن هذا الشاعر, لم يكن مشغولا بشيء, سوى أن يؤكد نفسه في موضع سياسي يمثل فيه الفئة التي ينتسب إليها, وهو يود أن ينال هذا الموقع بموهبته الشعرية, إذا ناله الغير بوسائل أخرى, وقد يدفعه السعي إلى هذا الموقع أن يتلون بأكثر من لون, ويرتدي أكثر من رداء, أو أن يهادن هذا وذاك في لعبة سياسية يكون فيها الرابح أحيانا أو الخاسر في بعض الأحايين. شعره هو أداته البيانية في خصامه السياسي لا شيء أكثر من ذلك ووسيلته للتهديد الذي يتخذ في بعض الأحيان ملامح تهديد (القبضايات) في بعض المحافل أو الشوارع. ولكن بأسلوب شعري رفيع النبرة والضجيج. والشعر هنا ليس هما إنسانيا كبيرا يؤهل صاحبه لأن يكون في مصاف الشعراء الذين مثلوا القرن العشرين ولكنه وسيلة لبلوغ مطمح تتحقق فيه الذات السياسية والاجتماعية للشاعر. والمجتمع في هذه الحالة يتحول إلى صورة (الخليفة) الذي يُمْدَح إذا جاد, ويهجى إذا منع, وإنك لتشعر من قراءة شعر الرجل أن عقدته كانت سياسية, ومطمحه كان الوصول إلى (ولاية) تؤكد ذاته السياسية, وينوب فيها عن الفئة التي ينتمي إليها.

إحياء القصيدة القديمة

هذه بعض خصائص شعره حددناها, لا ننتقص من قدره أو نستصغر من شأنه, فإنه يبقى في جميع الأحوال من أقوى الأصوات التي عرفها الشعر العربي, ولعل دوره الإحيائي في إحياء القصيدة العربية القديمة لا يقل أهمية عن الشعراء الذين تقدموه أو صاحبوه ابتداء من البارودي وشوقي والرصافي وبدوي الجبل. وهو في جميع الأحوال شاعر متميز, ولكنه لم يكن الشاعر العملاق الذي يبتدئ به الشعر أو ينتهي به..

فهذه من المبالغات التي ارتضاها الشاعر لنفسه لكي يوهم بأن الشعر سينتهي بعده في صورتيه القديمة والحديثة. وقد كان الشاعر شديد الاعتداد بنفسه, والإيمان بأنه الشاعر المجلي الذي لم يسبقه ولم يلحق غباره أحد. وقد أجاز القدماء للشاعر أن يفخر بنفسه, ويزهو بشعره, ونحن نتقبل ذلك منه بغبطة وتسامح. ولا يضيرنا أن نعترف له بصفاته المميزة التي يتفوق فيها على أقرانه, ويشكل فيها إضافة إلى عصره وإلى الفن الذي تصدى له.

لقد قرأت دواوينه كلها في طبعتها السورية التي ضخَّمها التوسع في الحروف, وملأ الصفحة بأبيات قليلة, فجعلها سبعة أو ثمانية أجزاء لا تزيد في حالة الطبعة العادية على جزأين على نحو ما نشرته دار العودة.

وفي هذا الديوان ظواهر لافتة للنظر, موضحة مدى إعجاب الشاعر بنفسه وشعوره بأن كل كلمة تخرج من فيه هي جوهرة جديرة بالحفظ, ففي هذه الطبعة الكبيرة ما لو طرحه الشاعر, لم يكن ليقلل من رصيده الباقي, كما أن الشاعر يحمل إعجابا لبعض القصائد مثل قصيدة (أنيتا) التي يعتبرها درة الدرر وهي قصيدة عادية ما أظنها ستخلد ضمن تراث القصائد الغزلية العربية في القديم والحديث. وهي قصيدة نظمها في حب وقع فيه على شيخوخة, فجاءت قصيدة شمطاء, قد وهن العظم منها وعلى كل حال فإن هؤلاء الشعراء الأربعة الرصافي والزهاوي والنجفي والجواهري كانوا يمثلون محاولة مستميتة لاسترجاع العراق لزعامته التاريخية التليدة للشعر العربي الذي توجت به مصر رأس البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم لفترة حل بها الشعر العربي ضيفا مؤقتا على بلد لم يسكنه الشعر العربي من قبل بالمعنى العالي للشعر.

ولكن هذا الانتقال لم يتحقق إلا بعد أن قامت حركة الريادة الشعرية في العراق على يد الثلاثي السياب والبياتي ونازك الملائكة. فما لم يتحقق للشيوخ تحقق للشباب الذين قادوا الحركة الشعرية الحديثة. فلحقت بهم مصر بعد ذلك, أي أن الشعر الحديث في مصر, تتلمذ على رواد الشعر الحديث في العراق وهذا أثر لا يمكن إنكاره ولا التشكيك فيه.

نماذج شعرية

كان أمام الجواهري عند نشأته الشعرية الأولى, ثلاثة نماذج عُلْيا من أعلام الشعر العربي القديم يحتذيها, ويتلقى عنها, ويحاول من تعمقه في عوالمها, أن يصنع عالمه الخاص, ويهتدي لطريقه, ويؤسس لكونه الشعري الذي لم يتحقق له. وهذه الشخصيات هي المتنبي والشريف الرضي وأبوالعلاء المعري. ولكن الأمر انتهى به إلى معارضات حاول أن يثبت بها في مطالع شبابه, أن شأوه في الصياغة الشعرية,لا يقل عن هؤلاء الأعلام وهذه هي الشهادة الأولى التي يحرص المعارضون للشعر القديم على أن يحصلوا عليها من وراء كل معارضة. وهو بذلك يعيد منهج البارودي وأحمد شوقي في الحديث في اتكائهما على المعارضات, لإثبات علو القدم, والوقوف في صف واحد مع الشعراء الذين يعارضونهم.

ولكن هذه المعارضات سواء كانت لدى شوقي أو الشاعر مستحق لإجازة النظم إذا كان يقصد من هذه المعارضة الحصول على هذه الإجازة. ولكن الغرور يزين لبعضهم ومنهم الجواهري, إنهم قد تجاوزوا بهذه المعارضة النموذج الذي عارضوه, وتظل المعارضة دوما عملا دون مستوى العمل الإبداعي الأول لأسباب عديدة, منها أن الأول يصدر فيها عن الطبع والعفوية والثاني يقلده ويحاذيه بالافتعال والتعمل, ولأن الغاية في جميع الأحوال ليست شعرية فنية, ولكنها سباق ومنافسة, لتحديد الأولية التي يظل فيها الفضل للمتقدم.

وما رأيت شوقي أفلح في جميع معارضاته إلا في معارضاته للحصري في (ليل الصب) فقد تجاوزه بآماد بعيدة, بسبب قدرته الشعرية التي تفوق الحصري الذي لم يعرف له من الشعر سوى هذه الفريدة التي خلدته بوزنها اللطيف ومركبها الصعب في قافيتها المعروفة.

ولقد انتهى الجواهري من معارضاته هذه إلى مجرد المعارضة العادية التي قصد بها إظهار العضلات, أو تدريبها على ركوب الصعاب, ولم يستطع أن يصنع من ورائها, كونا شعريا يستفيد فيه من هذه الألوان المتميزة لدى المتنبي والشريف الرضي وأبي العلاء المعري. ويفترض من شاعر يجعل من هؤلاء قدوته الأولى, ومدرسته الكبرى, أن يكون قد استفاد شيئا من كل واحد منهم, أو منهم مجتمعين! وفي بعض شعره إشارات تدل على أنه كان يرى المعري أقرب الشعراء إليه لتعاسته, ومع ذلك يظل المعري بالذات أبعد الناس عنه, ونستطيع القول بعد مراجعة دقيقة لديوان الجواهري من الغلاف إلى الغلاف, وأكثر من مرة أن الجواهري لم يتلق عن المعري أي درس, وإنه لم يكن مؤهلا بحكم تكوينه الشخصي أن يتلقى عنه أي درس فالجواهري لم يكن شخصية تأملية, تطيق العكوف على نفسها طويلا ولكنه كان شخصية انفعالية غاضبة, وأحيانا متشنجة, ولذا غابت عنه إمكانية أن يكون الشاعر التأملي وإمكانية فهم وتذوق عالم المعري يدل على ذلك تحديده للشبه بينهما في (التعاسة) فلم يكن المعري شاعرا تعسا. ولكنه كان شاعرا عظيما يعيش تعاسة البشر.

وهو الأمر الذي لم يفهمه الجواهري في علاقته بشعر المعري.

شاعر للتحريض

ونحاول أن نصوغ من هذا الشعر الذي نشره الشاعر في عدة دواوين عالما شعريا خاصا يضعه في صف واحد أو متقارب أو خلفي وراء هؤلاء الأعلام الثلاثة فلا نجد لديه من ذلك شيئا. والمحك الأول يواجهنا في هذا السؤال, ما هي فلسفته في الحياة?! وماذا أخذ من فلسفة المعري ومن مفردات الشريف الرضي, ومن المتنبي? لا أراه أخذ من المتنبي سوى هذه العرامة التي كانت تغذي طاقته التحريضية الغاضبة وهذا القاموس اللفظي الذي يساعده على نقل هذا التحريض إلى الآخرين ولذلك كان منه هذا (الشاعر التحريضي المنبري) لا غير.

وما أظن هذا التحريض سيخلده طويلا, ولن يكون شأنه في ذلك مختلفا في شأن حافظ إبراهيم الذي عرف في الأوساط الأدبية بالنكتة وبراعة الإلقاء. فحين غاب صاحب النكتة, وانتهت براعة الإلقاء, مات الشاعر ولم يعد يذكره أحد إلا بأبياته في تمجيد اللغة العربية المقررة على جميع المدارس والمعاهد في الوطن العربي ولولاها لاضمحل ذكر الشاعر.

لقد امتد العمر بهذا الشاعر قرنا يوشك أن يكون كاملا وهي أخطر فترة عاشتها البشرية توافر فيها من العلم بالماضي والحاضر والمستقبل ما لم يتوافر لأي عصر من العصور.

فهل انعكس عليه شيء من هذا يجعله منافسا للمعري في تأملاته التي تجاوزت عصره لتجعله معاصرا لنا في القرن العشرين?!

ولكي يفهم بوضوح ما نعنيه بالكون الشعري حق الفهم, فإننا نضع الجواهري, في مواجهة شاعر عراقي معاصر له, هو الشاعر أحمد الصافي النجفي. فهذا الشاعر لم يكن يتوفر على اللغة التي يتعامل بها الجواهري, ومع ذلك, فإن هذا الشاعر أرحب كونا شعريا وأعمق شاعرية وأكثر توفرا على شاعرية (عالمية) من الجواهري. ولو ترجم الكثير من تأملات الصافي, إلى لغات أخرى, لأحلته هذه التأملات وحدها مكانا عاليا بين شعراء العصر, ولم تختلف مكانته عن مكانة أي شاعر عالمي معاصر, ولقد حدثت لي تجربة شخصية في الوقوف على شاعرية الصافي. فقد اتفق أن كنت أقرأ في وقت واحد دواوينه, وديوان الشاعر الإسباني (ماشادو) فوجدت أن شاعرنا العربي الكبير يتفوق كثيراً في هذه التأملات على هذا الشاعر الإسباني صاحب الشهرة العالمية ولكننا قوم لا نحسن مقارنة إبداعنا بإبداع الآخرين حتى نكسب بذلك ثقة في النفس, سواء كان هذا الإبداع من رصيدنا الحضاري القديم, أو من إبداع العصر الذي نعيش فيه. ولم يتوفر لأصحاب القدرتين في اللغة أعني اللغة الأم إلى جانب القدرة في اللغة الطارئة نقل هذه الروائع إلى العالم حتى تكون له فكرة صحيحة عن الإبداع العربي.

ضجيج وعجيج لغوي

عالم الجواهري عالم ضجيج وعجيج لغوي, ولولا ذاتية عارمة لأمكن القول عنه ما قاله المعري عن ابن هاني إني أسمع جعجعة ولا أرى طحينا ولكن لغة الجواهري العالية المطاوعة قد تصبح في ذاتها غاية شعرية.

لا نقول ذلك على سبيل الطعن أو التقليل من شأنه ولكن نقوله على سبيل التحديد للملامح والخصائص وبيان حجم الأدوار. وكان لا بد أن يظهر الجواهري بلغته هذه القوية على أصحاب الزاد اللغوي الهزيل من أمثال الزهاوي, كما ظهر أيضا بسيطرته على الساحة العراقية على شاعر كبير هو الصافي النجفي الذي لم يكن يتوفر على هذا النسج اللغوي الذي توافر للجواهري رغم ما في عالمه الشعري من رحابة واتساع. فإذا استثنينا الرصافي الذي كان يتأهب للرحيل عند ظهور قامة الجواهري فإن مستوى الصياغة الشعرية يجعل اللغة ماثلة إلى جانب الجواهري الذي أحسن الإمساك بلحظته التاريخية وذهب معها إلى أبعد أشواطها مما جعله في نظر الكثيرين وريثا لزعامة شوقي, وقد سعى هو نفسه للحصول على هذا الاعتراف بمدحه للدكتور طه حسين ولكن يبدو أن طه حسين لم يجازف هذه المرة بالاعتراف له بهذه الزعامة التي نقلها من قبل بعد وفاة شوقي إلى العقاد واكتفى بتسجيل إعجابه, ومع ذلك فإن قامة الرجل ظلت تطول وينتشر له صيت في الوطن العربي الذي مثل لديه حنيناً للشاعر القديم الذي أخذت تغرب شمسه عن إمبراطورية شعرية يزيد عمرها على ألفين من السنين وهو عمر لم يبلغه أي شعر من شعر الأمم المعروفة في هذا العالم.وأنا أزعم أن العراقيين وحدهم ولفترة قصيرة سيكونون القادرين على تذوق هذا الشاعر حيث مازالت تسعفهم الذاكرة بإطار تاريخي لشعره فإذا انقضى هذا الجيل وخلف من بعده خلف آخر, انحسر الإعجاب وآل صوته إلى خفوت يشبه خفوت الكثيرين ممن تقدموه على هذا الدرب في الوطن العربي ممن ارتبطوا بالأحداث ارتباطا تاريخيا صحفيا مشدودا إلى الموقف السياسي الخاص.

الحداثة.. عنصر مضاد

وهذا يجعل الجانب الأكبر من شاعرية هذا الشاعر إن لم يكن شعره كله محليا. وربما رفعه عن المحلية, ما شكَّله شعره من مواجهة للحداثة كعنصر مضاد, ولا يجوز أن يغيب عنا بأي حال في تحديد مواقفه, انتماؤه المذهبي الذي لا بد من الرجوع إليه, في تفسير كثير من المواقف.

وعلى كل حال, فإن أجمل قصائد الجواهري عندي هي القصائد التي يؤكد فيها ذاته, ويقدمها كبطاقة تعريف, مثل قصيدة. (أنا) فهي حقا من روائعه, لأنها حققت له ما يريد, من الشعر, أن يكون وسيلة لتأكيد الذات.

والجواهري يعاني عقده تضخيم الذات بما يتجاوز عقدة تضخيم الذات لدى المتنبي الذي استطاع أن يخفف منها بتأملاته النافذة في الناس والحياة. ولكنها عند الجواهري ظلت عند الحدود الخطابية التحريضية الهجائية المحدودة. وقد كان المتنبي أفصح وأوضح في التعبير عن غاياته في الوصول إلى منصب الحكم فقال (وفؤادي من المملوك وإن كان لساني يعد في الشعراء) وخاطب كافور (فإن لم تنط ضيعة أو ولاية فجودك يعطيني يسلب). وقد كان الجواهري يطمح إلى زعامة سياسية, إلى جانب زعامة الشعر التي انعقدت له. فأنت لا ترى في عالمه, أي عالم الجواهري, إلا عراكا وصراعا ضد قوى ظاهرة وخفية تقف في طريق تحقيق هذه الغاية. عالمه عالم مشاغبة, ويبدو أن المشاغبة في حد ذاتها, مصدر من مصادر إلهامه, فهو من أولئك الشعراء أو الأدباء الذين لا يصالحون الحياة لمجرد أن هذه المصالحة تطفئ في نفوسهم لهيب الخصام اللازم لاستمرار إنقاد إلهامهم وشعرهم. وما من شك في أن المذهب النفسي في النقد يستطيع أن يجد مادة خصبة لتحليل شخصية هذا الشعر الفريد.

تأكيد الشخصية

الجواهري جعل الشعر مركبا لتأكيد الذات الفردية الشخصية, وليس هذا عيبا, على أن تعتبر خصيصة من خصائصه التي لا يمكن الهرب منها. وما كان الجواهري ليأبق من ملك ربه, فيخرج عن أرض له وسماء, والطباع تأبى على الناقل, كما يقول المتنبي فهذه هي شخصيته, وهذا هو طابعه الذاتي ولو خرج عن ذلك لسقط, وكان مجرد ناظم.

لقد كان المتنبي يطلب صراحة في شعره أن تناط به ضيعة أو ولاية كما ذكرنا ولكنه جمع إلى ذلك قدرة نادرة على صنع كون شعري هو كون المتنبي الوحيد الفريد.

وكان الشريف الرضي أيضا يشعر بأنه مهضوم الحق, وأنه يسعى أن يكون في منزلة لا تقِلُّ عن منزلة ابن عمه الذي اضطر اضطراراً أن يفخر بخلافته وكان يشعر في أعماقه بأنه بمواهبه أحق بهذا المكان, ولكن الشريف الرضي استطاع إلى جانب تعبيره عن هذا الطموح الذاتي المشروع, أن يصنع كوناً شعرياً لا يقل عظمة وروعة عن هذا الكون الذي تلتقي به عند المتنبي والمعري ومن قبلهما عند أبي تمام وابن الرومي, وسيلاحظ القارئ أنني تخطيت البحتري فهو على طلاوته وروعة نسجه, ليس من أصحاب الأكوان الشعرية وإذا كانت له لمعات هنا وهناك فلا تخوله (كونا شعريا) في مثل عظمة ورحابة الكون الشعري عند ابن الرومي. والمواجهة بين ابن الرومي والبحتري كالمواجهة بين الجواهري والصافي والنجفي فالأول يملك صياغة شعرية ونبرة خطابية عالية. وهذا يملك كونا شعرياً أرحب, أفسح وأجدر أن تؤهله للمكانة العالمية في الوقت الذي لا يخرج بالجواهري عن حدود الطرب لجمال الكلمة وحسن موقعها من شعره وأدائه لهذا الشعر.

هل هو ظاهرة فردية?

الجواهري ليس مدرسة شعرية, ولكنه ظاهرة فردية, غير متكررة خاصة بشاعرها وتحليل هذه الظاهرة يساعد على تحديد حجمها, والوصول إلى حكم منصف غير مجحف بحق الرجل, ولا يتجاوز أحكام النقد.

لم يعرف الشعر العربي شاعراً مشغولاً (بأناه) الشخصية مثل الجواهري, وهو بانشغاله بهذه (الأنا) يشعر بأن الشعر يخوله حقاً إلهيا لتأكيدها وإحلالها المكان الذي يريده. فالشعر لديه ليس قضية ولكنه وسيلة لبلوغ المنزلة التي يريدها لنفسه, وعلى الناس أن يخصوه بكل الإجلال والاحترام لمجرد أنه شاعر.

وأنا لا أسجل هذه الملامح والخصائص كمآخذ ولكني أرصد الظواهر التي يلاحظها المرء من شعره وسلوكه.

كنت دائماً أقول إن الجواهري شاعر ضجيج وعجيج. وإن كونه الشعري محدود في ردود فعل انفعالية تخص (أنا) الشخصي وليس له في شعره رؤية متكاملة للكون, وأن الرصافي أرحب كوناً شعرياً منه, بل أذهب إلى أبعد من ذلك, فأقول إن الزهاوي على ضعف وتهافت وركاكة نظمه ينطوي على طموح شعري يتجاوز كيانه اللغوي المهدود (المتفضفض).

ويذكرني الجواهري بالوصف البارع الذكي الذي وصف به الدكتور زكي مبارك معاصره الشيخ عبدالعزيز البشرى الذي قال عنه إنه (رجل صخّاب ضجّاج يدق الأجراس الضخام حين يدخل الغابة للصيد).

إن شاعرية الجواهري وخصوصيته وشخصيته كلها في هذه القعقعة والصخب وهذا الضجيج اللفظي, فإذا نزعت عنه هذا الضجيج, لم تجد عنده شيئاً. إن اللغة قد تصبح أحياناً عند الذين يحسنون ترويضها ويملكون عصبها شعراً يقصد لذاته, وهو أمر تراه يحقق في الحديث لشاعرين: أحمد شوقي والجواهري, فشاعرية شوقي أيضاً تقوم على اللغة أعني أنه شاعر لغة ربما كان ذلك قدر الذين يبعثون في مراحل الإحياء أو مراحل الترف والرخاء. أن تصبح اللغة ذاتها شعرهم, وغايتهم الشعرية وربما كان ذلك علة اختفاء الشخصية في شعر شوقي, وعلة اختفاء الكون الشعري لدى الجواهري.

 

خليفة محمد التليسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





الرصافي





نازك الملائكة





بدر شاكر السياب