شيخوخة من دون جنون

شيخوخة من دون جنون

منذ عقود قليلة, كان الأطباء عندما يكتبون شهادة وفاة لمتوفى مسن, يستخدمون تعبير (شيخوخة من دون جنون), لأن خَرَف أو عته الشيخوخة كان يمثل خطراً يهدد معظم كبار السن, ولا يزال. لكن أملاً طبياً جديداً, وفلسفة طبية حديثة, يبشران بمواجهة حاسمة تزيح هذا التهديد.

مع تقدم متوسط الأعمار في أغلب دول العالم, أصبحت مشاكل المسنين الصحية تشغل اهتمام العلماء, بعد نجاح الإنسان في القضاء على كثير من الأمراض التي أرقته عبر عصور طويلة, وكانت تفتك بالكثيرين عبر عواصف من الأوبئة, وأمراض سوء التغذية, مما ارتفع بعمر البشر عبر الكرة الأرضية بشكل مثير, أصبح الطب الحديث معنياً أكثر برعاية الإنسان المسن الذي أصبح يمثل نسبة مطردة في كل المجتمعات الحديثة, والحلم البشري الأكبر هو الحفاظ على الذاكرة البشرية والقدرة الذهنية للمسنين, بعد التوصل لمعرفة عمل الموصلات الكيميائية والعصبية الدقيقة التي تختل في كبار السن, واكتشاف المواد المؤثرة على الأجزاء المتحكمة في الذاكرة البشرية والتي تختص بحافظة الذكريات التي تحاول حافظة الحاسوب أن تحاكيها, يستبشر العلماء بعهد جديد ربما يتمكنون من خلاله من توفير مخ بشري شاب وحاد الذاكرة رغم تقدم العمر!

ومعروف أن المخ البشري تصاحبه تغيرات مرضية على مر العمر, حيث تحدث أعراض شيخوخة بطيئة, تشتمل على نقص في وزن المخ مع تضخم في الجيوب المخية, والتغيرات تكون ناتجة جزئياً عن نقص الموصلات العصبية, والخلايا العصبية. وقد أثبتت الأبحاث أن ذلك النقص في الخلايا العصبية والموصلات يكون في أماكن مختارة من المخ, ويقول الدكتور أندرسون بقسم علم الأعصاب, بمعهد الأمراض النفسية بالكلية الملكية بلندن, إن التغيرات التكوينية التي تحدث في الموصلات العصبية, وتكون البقع التي تحدث مع تقدم العمر هي المميز لحالات مرض ألزهايمر الذي يصيب كبار السن في العادة, وهو مرض له مسببات جينية مؤكدة, حيث تترسب بروتينات معينة تتزايد مع العمر وتؤثر بشكل واضح في قدرة المريض على التفكير وتدمر ذاكرته بالتدريج, وتصيبه بالخرف الذي يسبب متاعب بالغة للمريض وللمحيطين به.

وكان قد تم التعرف منذ عام 1906 على ظاهرة تكون الصفائح البروتينية على يدي الطبيب الألماني المتخصص بالأعصاب (لويس ألزهايمر) الذي حمل المرض اسمه, ويظهر المرض في العادة بعد سن الستين ويسبب تدهوراً بالغاً في الجهاز العصبي المركزي, حيث يعاني نحو أربعة ملايين شخص في الولايات المتحدة وحدها من مرض ألزهايمر ويتوقع أن يرتفع العدد إلى 5.5 ملايين شخص عام 2010.

النوم والحركة والذاكرة

يعاني مرضى ألزهايمر من نوبات متكررة من القلق والهيجان واعتلال المزاج وفقدان القدرة على التركيز وعدم الإدراك, وتبدأ عادة بعد سن الستين, وتتزايد الأعراض مع تقدم العمر, فتحدث للمريض ظاهرة يسميها العلماء متلازمة غروب الشمس حيث يعاني المريض من الأعراض بشكل حاد في المساء, ربما نتيجة استنفاد مجهوده عبر اليوم الطويل وربما كان ذلك بسبب اعتلال الساعة البيولوجية التي تعود عليها الإنسان طوال عمره, وكأنه يعبر عن ضجره من فقدان ضوء النهار, لذلك ينصح الأطباء بتوفير ضوء كاف في غرفة المريض, مع عدم إيقاظه من النوم مهما كان وضع المريض, فيجب تركه ليستجم دون أي إزعاج كما يجب تعديل نظامه الغذائي بحيث يقتصر تعاطي المنبهات على فترة الصباح فقط, وتجنب الحلويات خاصة في فترة المساء, مع تشجيع المريض على تناول الدهون والبروتينيات خاصة قبل تناول الخضراوات حتى لا يشعر بالامتلاء, وغالباً ما يشعر المريض بفقدان الشهية كعرض من أعراض الاكتئاب, ينصح بمساعدة المريض على ممارسة المجهود العضلي خاصة في فترة الصباح حتى ينعم بفترة نوم هادئة في الليل, كما يمكن تدريبه على فترات استرخاء مناسبة.

وللمجهود العضلي تأثير مفيد على أغلب المرضى, حيث يؤدي ذلك إلى تحسين كل وظائف الجسم, خاصة معدلات ضخ الدم للأنسجة الحيوية والاحتفاظ بكل المهارات العضلية, وتحسن الطاقة, والنوم والمزاج, وإن كان المريض يحتاج إلى بعض الرعاية في أثناء ممارسة الرياضة, كما تجب رعاية الذاكرة بكل الوسائل الممكنة, بحيث يمكن تنشيطها بالصور والأشخاص المعروفين لدى المريض.

وقد تكون السيدات المصابات بهذا المرض أسعد حظا, إذ ثبت أن السيدات المسنات اللاتي يتعاطين هرمون الأنوثة يكُنّ أقل عرضة لهذا المرض, حيث تبين أن هذا الهرمون يقوم بزيادة تدفق الدم للمناطق الموصلة لخزائن الذاكرة في المخ البشري, وإن كانت الأبحاث ما زالت جارية في هذا المجال.وهذا يعضد الاتجاه السائد الآن في العالم كله في تعاطي السيدات المسنات لهرمونات الأنوثة بعد توقف إفرازها من المبايض عند سن اليأس وذلك تجنبا لأمراض كثيرة منها هشاشة العظام وأمراض القلب, ويضاف لها الآن مرض ألزهايمر.

وفي دراسة أجريت لفحص التغيرات التركيبية التي تحدث في مرض ألزهايمر, والتي تختبر الذاكرة الكلامية لمقارنة ما يحدث عند صغار السن مقارنة بكبار السن, وجد أن المنطقة الموصلة ما بين جذع المخ وباقي أجزاء المخ تتركز فيها التغيرات المرضية التي تحدث في المخ, وقد ثبت أن التغيرات التي تحدث في تلك المنطقة الدقيقة تمثل التغير الأساسي الذي يحدث في هذا المرض حيث يضطر المخ البشري لاستخدام شبكات بديلة لاسترجاع الذاكرة. ويقوم الدكتور ستيرن وزملاؤه باستكمال البحث بكلية الأطباء والجراحين بجامعة كولومبيا - بنيويورك بالولايات المتحدة لاختبار الأنواع المختلفة من الذاكرة مثل الذاكرة الأساسية وذاكرة العمل وخلافه لاكتشاف مواقع الشبكات البديلة عند هؤلاء الأشخاص.

ويقول باحثون بريطانيون إنهم توصلوا إلى مركب كيميائي كفيل بالقضاء على صفائح البروتينيات التي تتجمع في الدماغ وتسبب هذا المرض وذكر البروفيسور مارك بيبيس وزملاؤه في كلية طب يونيفرسيتي سيتي كوليدج في لندن إنهم بصدد إجراء تجارب لهذا المركب على المرضى المصابين بمرض ألزهايمر. إلا أن ذلك يبقى في طور الأبحاث حتى الآن.

قطع غيار للخلايا الشائخة

استحدثت تكنولوجيا الخلية المتقدمة برامج جديدة, تنبئ بثورة في الطب وفلسفة العلاج, فهي ببساطة تغير فلسفة الطب من إصلاح العطب الذي يحدث في كثير من الأمراض إلى (فلسفة قطع الغيار), حيث تقوم الفلسفة الجديدة على أساس النجاح في استحداث برامج يمكن من خلالها تكوين كل أنواع الخلايا البشرية, ومن المعروف أن خلايا الجسم البشري يتم تكوينها من الخلايا الجذعية الجينية, التي تتوالد فيما بعد وتتخصص كل في جهاز معين من أجهزة الجسم, وقد تركز البحث العلمي في الآونة الأخيرة على الأمل البشري الأكبر في إنتاج قطع غيار جديدة للجسم البشري لا يتم رفضها بواسطة الجسم المضيف, ولنا أن نتخيل حال البشر بعد عقد أو عقدين من الزمان حين يقوم الإنسان بتغيير أعضائه التالفة, دون حاجة لإصلاح ما فسد! رغم ما يصاحب ذلك من مشاكل أخلاقية, تشغل بال العلماء لكي يضعوا الضوابط التي تحترم قدسية التكوين البشري, وترقب ما قد تحدثه التغييرات الجديدة من متاعب.

والخلية البشرية الجذعية الجينية التي يتم الآن إنتاجها عن طريق التخصيب المعملي خارج الرحم, أو عن طريق أصول جينية, وحيث إنها ليست مستمدة من المريض نفسه, فإنه يتبقى لها مشكلة التوافق التي تواجه الأطباء وقت زرعها في جسم المريض, حيث بقيت حتى الآن مشكلة (طرد) الأنسجة المزروعة. ويقول الدكتور (سونج) من قسم البيولوجيا الجزيئية من معهد سالك, بكاليفورنيا, إن الخلايا العصبية الأم الموجودة في البالغين يمكن أن تتفاعل وتنمو مع الخلايا الجينية المزروعة, وقد نجحت التجارب البحثية بالفعل على حيوانات التجارب, مما يبشر بآفاق جديدة في العلاج على البشر. والاكتشاف الرئيسي هو وجود الخلايا في البالغين كما يقول الدكتور (ستندلر د.أ) من قسم العلوم العصبية بجامعة فلوريدا, حيث يقول إن العلم الحديث كان ينظر لمخ البالغين بأنه عديم القدرة على تخليق نيورونات عصبية جديدة, إلا أنه ثبت عكس ذلك مما يتيح آفاقاً جديدة للبحث في حلول جذرية لكل مشاكل كبار السن.

واستحدثت تكنولوجيا الخلايا المتقدمة برامج واعدة, فمن المعروف أن الخلايا الجذعية الجينية يمكنها تكوين فصائل الخلايا المختلفة, ومن خلال برامج التكنولوجيا الحيوية يمكن تخليق الموصلات العصبية المهمة في علاج الكثير من الأمراض حتى تلك التي تصيب البعض من غير المسنين مثل مرضى الشلل الرعاش وإصابات العمود الفقري وضحايا جلطات المخ, وحتى عضلة القلب في حالات الهبوط التي عادة ما تصيب كبار السن, وكذلك يمكنها تخليق مفاصل جديدة, في حالات تآكل الغضاريف, وحالات مرضى السكري حيث تجرى بنجاح مثير عمليات زرع خلايا جديدة في البنكرياس المصاب بداء السكري, لكن مشكلة كبرى مازالت تعوق المسيرة حيث تناقش الآن على المستويات الطبية والاجتماعية قوانين جديدة لتنظيم عملية الزرع من حيث الضوابط الأخلاقية والعملية معا.

والخلية البشرية المستمدة من الأجنة (ES) يتم إنتاجها الآن عن طريق التخصيب المعملي خارج الرحم, أو من أصول جينية انتظاراً لما يمكن أن تسفر عنه القوانين الجاري بحثها, وحيث إنها ليست مستمدة من المريض نفسه, فإن المشاكل الطبية الناتجة عن رفض الأجسام المزروعة تبقى في انتظار الحل, وتقوم الأبحاث الآن على حلها عن طريق نقل خلايا المريض نفسها وتخصيبها صناعيا عن طريق بويضة إنسانية بعد انتزاع الحامض النووي منها الذي يحمل شفرة الخلية, والمحصلة النهائية تتمثل في إعادة برمجة خلية المريض إلى خلايا جذعية قادرة على إنتاج احتياجات المريض من الخلايا, وخلال عام 2002 استحدث العلماء خلايا نوعية, منها خلايا المخ والقلب مستمدة من أجنة القردة, من خلال عملية تخليق تسمى Parthenogenesis (وتتلخص في تنشيط بويضة بشرية غير مخصبة), وفيها لا يتم إنتاج جنين على الإطلاق, ويلاحظ أن العلماء يتجنبون المشكلة الأخلاقية الناجمة عن تخليق الأجنة, حيث يتم إنتاج أسراب من الخلايا الأم, التي يتم تصنيفها فيما بعد إلى خلايا عصبية, وخلايا للقلب وعضلات!! وقد نمت الخلايا لمدة عشرة شهور كاملة, ويقول الباحثان الأمريكيان جرانت وفرانا المشرفان على البحث بجامعة وست فورست بالولايات المتحدة إن هذه الطريقة قد تحل المشاكل التقنية في العلاج الخلوي للبشر. وكان أكثر هذه الأبحاث استحداث خلايا جذع المخ الأوسط لما لها من أهمية بالغة في علاج الشلل الرعاش.

آمال البشر في حياة هادئة في العمر المتقدم تتخلق الآن, وما أبدع أن نتخيل المخ البشري الذي كان سبباً في الحضارة عبر العصور, يمكنه أن يجدد نفسه, وأن يضاعف بالتالي من قدراته ويعوض التآلف منه بالجديد, لينعم بعمر مديد دون متاعب.

 

محمد يوسف علوان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




خلايا المخ التي كان مستحيلاً تجددها, ستجد قطع غيار من الخلايا المستحدثة





مرض الشلل الرعاش الذي أحال بطلاً مثل محمد علي إلى الشيخوخة المبكرة ستعالجه الخلايا المستنبتة جينياً





صورة نصف كرة المخ في مرض ألزهايمر.. هل تختفي قريباً?