لحظة تشكيلية مصرية

لحظة تشكيلية مصرية

يبدأ مشوار اللوحة بعيدًا. ربما في سماء الحلم, أو تحت غيمة الخيال, أو عند عتبة الغيب. لكن تحقق ذلك المشوار يشرق حين يعبر بوابة الواقع. من هنا يأتي معرض الفنان ليجسد أحلامه, ويقتبس من مخياله, ولكنه قبل كل شيء ليعيد صياغة جوهر ما أسرى به في عتمة الألوان ونورها. في مصر كانت اللحظة التشكيلية تعلن عن ذاتها في أعمال ثلاثة من فنانيها, لم يجمع بينهم سوى الاحتراق الذي توزع رماده في الجهات الأربع على قماش لوحات معارضهم التي تؤسس لتجارب تشكيلية مغايرة. إنها القاهرة قبل أن تودع شتاء هذا العام. وإذا كان بعض النقاد يرى أن مشوار الفنان ـ أي فنان ـ يبدأ عند منعطف ما, يتجاوز بعده مرحلة التجريب, فهو اعتقاد يجانب الصواب. لأن الفن صنو التجربة الجديدة. والحقيقة أنه لا فن من دون تجريب. فإعادة إنتاج النموذج نفسه, يعني أن يتحول الفنان إلى حرفي.

سنبدأ رحلة الجهات الأربع مع فنان ظن الجميع أنه يقدم التجربة ذاتها على مدى أكثر من أربعة عقود. لكنه مثل شجرة السنديان التي كلما طال بها الزمن, امتدت جذورها تنهل من تربة جديدة, رغم زعم الشاهد لها أن ظلها واحد.

صالح رضا: حديث الروح

في العام 1954 ميلادية يقدم الفنان صالح رضا ضمن مرحلة أولى عمله الذي سيصبح أيقونة تميز رحلته التشكيلية, بعنوان (عروسة المولد). في تلك اللوحة التي أنجزها رضا بألوان خامة الباستيل مع الكولاج بمقاس 120 * 80 سم على الورق, تكتب شهادة ميلاد جديدة للون شعبي يعبر حاجز الفن التقليدي إلى فضاء التشكيل الفردي الفذ. ففي تلك اللوحة المبكرة, التي يصل عمرها اليوم إلى نحو نصف القرن, نلمح الإرهاص بما ستكون عليه خزفيات الفنان الكبير خلال رحلته حتى اليوم.

في جميع المدن المصرية, وحتى في القرى الصغيرة ـ قبل أن تغزو العرائس البلاستيكية القادمة من آسيا السوق المحلية ـ استمتع الصغار بعروس المولد (التي تباع أثناء الاحتفال بالمولد النبوي الشريف) المصنوعة من السكر, والمحلاة بالورق المفضض. كانت القوالب الخشبية تجهز سلفا للعروس والفارس الذي يمتطي الحصان, كعادة الثيمات الشعبية في أن يوجد الذكر والأنثى في كل استلهام تشكيلي (مثل إناء الماء الفخاري أو النحاسي الذي يكون أنثى (قلة) أو ذكرا (إبريق)). المهم أن هذه القوالب الخشبية التي كان الصانع يصب بها السكر الممزوج بالماء الساخن ومسحوق النشا وبعض اللون ويتركها تجف ليخرجها قالبا تبدأ الأيدي بتزيينه بلصق الشرائط وصبغ الألوان وإضافة الشعر المستعار, قبل أن توضع خلفها مروحة ـ مثل عروس حقيقية في ليلة عُرس ـ تمثل الوجه الأخير للبهجة. ومن البديهي أن تكون الألوان زاعقة صارخة وصريحة, أليست تستلهم جو الريف وأزياءه?

في خلفية هذه اللوحة يستعير الفنان صالح رضا صورة بنت من الريف أو المدينة, لا يهم بعد أن تم تحييد الزي إلى لون أساسي نيلي يرى فيها ابنة نهر النيل من شمال مصر إلى جنوبها, تحتضن نموذجا لهذه العروس, وهي نفسها تكاد تشبهها في كون يديها وقدميها متشابكتين (مثل العروس التي خرجت من القالب), فيما يبدو في الخلفية إرث صالح رضا للنقوش الفرعونية التي رسم بها جدارية اللوحة: حصان المولد (النبوي), فلاحون راقصون بالعصي, ديكة قادمة من كتب المأثورات الشعبية, بنات ريفيات يحملن نسيج التشابه مع العروس.

كان على الفنان صالح رضا أن يقدم عروسا مختلفة, وخاصة حين ينطلق بها إلى عالم الخزف, عروس لا تضاهي عرائس السابقين عليه إلا في الجذور. عليه أن يخرج (عروس المولد) من قالب الخشب, إلى مهد الحياة, أن يجعلها تسكب في أذني المتلقي وحواسه حديث الروح. نعم سيحتفظ باليدين المتشابكتين, لكنه سيعمد إلى دفق ماء النيل والخلود إليهما, في ذلك اللون الذي يجمع بين الأخضر والأزرق الشاف. وصحيح أنه سيحتفظ لأزياء عروسه بالتصميم لكنه سيعيد صياغة مفردات وموتيفات هذا الزي ليتجدد مع الزمن.

في كل ذلك يحتفظ صالح رضا في تلك المراحل المبكرة بخاصتين استلهمهما من فنون الفراعنة, وأجواء الطبيعة الريفية, وربما يتضح ذلك في نحته الفخاري الملون (ابتهال): تجلس العروس على قاعدة تنتمي في تشكيلها إلى المبادئ الرصينة في التماثيل الفرعونية وقد حول زخارف القاعدة إلى قراءة جديدة بهيروغليفية تستعير أبجديتها المصورة من واقع الريف. أما المرأة/العروس الجالسة فقد وشمت صدرها بقلب تتوسطه عين محبة, وما الرأس إلا برج حمام وألفة ينظر بحنو واليدان المتشابكتان مرة أخرى تتبتلان بالدعاء.

سرعان ما يطلق الفنان صالح رضا العنان لعروسه من القاعدة, مع سنوات التحرر التي أعقبت قيام الثورة المصرية, لتقف وحدها معبرة عن الذات الخاصة لذلك الكيان الجديد. وسنوات أخرى تمضي ليبدأ معها الفنان بالإيجاز والتلخيص. وتدخل خامة الخشب ضمن خامات أخرى مع الفخار والخزف, لتقدم جيوشا من تلك العرائس التي استعاضت عن التفاصيل الفردية لكل منها بالتأثير الجماعي لها.

يقول الفنان صالح رضا: إن الفن في صورته الحقيقية هو ما بعد الواقع, وليس الواقع نفسه, وإن لم يكن الفن هو حلم المستقبل فكيف يعيش الإنسان من دون هذا الحلم? نحن في أشد الحاجة إلى تغيير هذا الواقع بكل ما فيه. إن جذور الأشجار لا ترى بالعين المجردة, ولكن ثمارها تتحول إلى واقع ملموس ومحسوس, ويتحول هذا الحلم الجديد إلى امتصاص الحلم القديم. وكما لا نرى جذور الأشجار المثمرة الضاربة في أعماق الأرض, وهي تمتص أحلامها القديمة, علينا بالحلم: لأنه المعين لنا في التغيير إلى واقع جديد وآفاق جديدة.

يصل الفنان صالح رضا بالتلخيص إلى مداه في برونزياته, التي تحمل أيضا اسم العروس نفسها. وفي زحمة الحياة العصرية قد تضيع التفاصيل, لكن الجوهر باق. فلا تزال العروس المعدنية تحتفظ برشاقة الأنثى الريفية التي غزلها قبل 50 عاما, مثلما احتفظت خزفياته بصورة المرأة الفرعونية قبل خمسة آلاف سنة تحمل على رأسها, المكشوف في المدينة أو المغطى في القرية, آنية الماء والخير. ومثل شجرة مورقة أثمرت هذه السنوات في معرضه الاستعادي (180 عملا) بين نحت برونزي وخشبي وألومنيوم ونحاسي (70 قطعة) ولوحة تصوير زيتي وكولاج (40 لوحة) وجرافيك (30 عملا) وخزف (20 عملا) و (20 تصميما ميدانيا) الذي أضاء (نصف قرن من الزمان) كما حمل عنوان معرضه الذي استضاف فيه قصر الفنون في دار الأوبرا المصرية عطاء فنان همه إضاءة الذاكرة, لتظل حية.

فاروق حسني : لحظات التحرر

كان على موعد مع البحر في مسقط رأسه الإسكندرية, ومبتدأ لوحاته في مرحلة سبقت رحلته الباريسية التي امتدت ثماني سنوات (مديرا للمركز الثقافي المصري) ووضعته على عتبات التجريد. هناك, وبعد عام واحد من استقراره في بلد الجن والملائكة يمنحه المهرجان الدولي للتصوير في كاني سورمير جائزته, وإن لم يكن ذلك الفوز أهم ما حققه فاروق حسني إلا أنه يحكي عنه باعتزاز وحب شديدين, حتى بعد ثلاثين عاما من ذلك الحدث.

اختفى البحر, ليحل مكانه الإحساس به عبر الأزرق وأخواته, وابتعدت الشواطئ المشمسة ليستبدل بها مساحات من اللون الأصفر, وإذا بعاصفة الضربات غير المنتظمة للباليتة تهب على الاستقرار الذي توخته الضربات الأولى لفرشاة الفنان فاروق حسني. قراءة النص التشكيلي يبدأ بالتعرف على أبجدياته. والمثير أن لكل فنان تجريدي أبجديته التي يصوغ مفرداتها وفق قاموس خاص, ليس دورنا ترجمته, قدر محاولة التحاور معه.

في السنة الماضية حضرت معرضه الأربعين, ذهبت لأحاور لوحاته السبع والعشرين عن قرب, اللوحات التي حررته ـ ولو قليلا ـ من متاعبه اليومية, ومنحته فسحة من الوقت يعيشها في محراب الريشة, تراوده مثلما راودته للمرة الأولي في مدينة الأخوين وانلي ومحمود سعيد وحسين بيكار. وباستثناء عملين تنتمي لوحات المعرض كلها, كما يشير التوقيع, إلى هذا العام 2002, واختار الفنان الكبير القاهرة لتقديم أحدث معارضه الذي أسماه (تصاوير جديدة), وقال لي إن لوحات المعرض ستقوم بجولة في أكثر من عاصمة تبدأ في قطر وتمر بكرواتيا وتنتهي في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن التاريخ يتدخل ليحرف الجغرافيا, وليقدم الوزير الفنان معرضه الجديد في القاعة نفسها.

ستكون هذه الكلمات رحلة في لوحات الفنان فاروق حسني بين معرضين, جسد في الأول متونا تشكيلية مغايرة لأهرام جديدة وثائرة. لم يعد يشكل فيها الهرم ذلك الرمز المثير كرأس سهم إلى قلب التاريخ, بل تخطى الفنان حدود الرمز ليرسم مستويات ثلاثة لتشكيل أهرامه: هرم مصمت يكتب نفسه لهبًا لضوء الشمع حين ينصهر التاريخ على جانبيه, أو بقعة أرض خضراء تتوضأ مثل جزيرة في محيط من الزرقة السخية, أو جسر للمحبة يصل بين عالمين.

هنا يبحث الفنان عن بوصلة هرمية تمنحه اتجاه الحقيقة, يلقي بنفسه في فراغ مشحون بالتوتر, الهرم صامت, وصابر, ومثابر, كأنه فاروق نفسه في بعض مواقف حياته وسيرته, لا ينطق إلا عن ألوانه التي تحمل رسائله, مثل خيط وحيد من الضوء في ليل المتصوفين. أما المستوى الثاني فهو الهرم الذي يفصح بفضل شفافيته عما في داخله; حين يتحول هيكل الهرم إلى مثلث من الخطوط تضج بعفويتها وعنفوانها وتجمع في قلبها كائنات وتعاويذ. بين هرم قلبه الماء يثير نافورة الأزرق حوله, أو هرم مطرز مثل نقوش سجادة ضوئية تعبث براحة الرمال, أو هرم عين تدمع أو هرم بستان يهدي فاكهة وأبا, وهو الهرم الفنان مرة أخرى يسرد عذاباته للوحة, ربما تواسيه ولو قليلا.

ينتقل الهرم من هيئته الصامتة المصمتة الأولى, إلى هيئة بواحة كاشفة عن مكنون أسراره, فكأنه القلب يحفظ للحزن والفرح سيرتهما الأولى. في المستوى الثالث تنفرج خطوط الهرم, تتحرر من زواياها, تلهو الخيوط المراوحة بين الاستقامة والانثناء بين النحافة والغلظة, بين الأحمر والأزرق, تتشظى الخطوط حاملة أرقها إلى فضاءات اللوحة كلها. ففي هذه المجموعة يختزل الفنان متون أهرامه إلى مجموعة من الخطوط, الشجرة الطيبة يسمق فرعها للسماء, الخطوط تسبح أذرعها في عتمة الليل, الكائنات تتحول مفردات أولية: نجمة في سماء العاشق, أثرا في صحراء الراهب, أو بئرا في واحة الوحيد.

لكنه في تجريداته الجديدة يبحث عن لحظات التحرر, عن الطاقة الأولى. فالفنان فاروق حسني الذي اتخذ مرسمه على النيل لا تكاد تفصل بين اللوحة ومجراه سوى سماء وطيور تحلق بحُرية, يبحث في رحلته عن أيقوناته المصرية الخالصة, وأسرارها الدفينة. صولجان فرعوني هنا ـ ربما وجده في أحد أهرام المعرض السابق ـ يشير إلى تلك الجذور التي لا تمحى. صولجان يتحرك مشيرًا إلى كائنات ومفردات لونية تنتشر في وادي اللوحة ونهرها.

يرفض أن يعطي لوحات معرضه اسمًا, يتركها لنستعيد حياتها وتسميتها من جديد. مثلما يضع ـ أحيانا ـ حول كائناته السابحة باللوحات إطارا فطريا رخوا يستمد لونه الأساس من فضاء اللوحة, ليماهي بين الإطار والخلفية, بين الأغلال والحرية. وإذا بالهرم الذي كان جليَّا في معرضه السابق, يذوب أو تراه يغرق, فلا يبقى منه سوى علامات, كأنها آثار مطر خفيف على بحيرة اللون.

ظن البعض أن اللون الطاغي هو الأسود. لكن الفنان فاروق حسني لا يسكب اللون, بل يشيد الإحساس به. يعود بذلك اللون البهي الجليل إلى مرحلة التكوين من رحم العتمة, التي تصنعها ظلال الألوان الداكنة واحتراقاتها. وهو في فضاء اللوحة الواحدة يزاوج بين الخطوط اللامكتملة, والأشكال التي اتخذت كامل هيئتها. وليس العالم الذي يحيطنا سوى هذين الوجهين معًا.

سألت الوزير الفنان فاروق حسني, وقد انتهينا من رؤية معرضه الأحدث في القاعة التي عشقت أعماله: متى يحين الوقت لكي تكون لدينا في مصر مجلة للفنون التشكيلية? قال لي إنه يطمح أن تصدر مثل هذه المجلة, وأنه يبحث إصدار عدد فصلي من المجلة الشهرية التي تصدرها الوزارة (المحيط الثقافي) يكون مخصصا للفن التشكيلي وحده. ولكن صفحة تشكيلية جيدة في جريدة قد تكون كافية في الوقت الحالي. كنت أتحدث وفي ذهني لحظات تشكيلية تضيع هباء دون رصد متعمق, أو تحليل نافذ, أو توثيق حي. لحظات لا تلتقطها الجرائد غير المتخصصة, التي تضيق الخناق على اللوحة, والفنان, والمعرض. كنت أسأل ,وأنا أعد وجود وزير فنان لحظة مثالية لصدور هذه المجلة, خاصة ونحن نعبر لحظة تشكيلية مصرية تفيض بتيار وأمواج قوامها عشرات الأسماء الجادة من مختلف الأجيال, ولا زلت أسأل.

حسن سليمان: نساء القاهرة

في الستينيات, عاش الفنان حسن سليمان (74 عامًا) تجربة تصميم (الكاتب); مجلة المثقفين العرب. كان الفنان عائدًا من ميلانو, وقد نهل من مادة سيكولوجية البعد الرابع في الفراغ المعماري, وبقدر ما بهره أستاذ المادة التي درسها بكلية (بريرا), وضعت الدراسة يده على مفاتيح كثيرة كان من شأنها أن يفهم الكاتب والفنان والمصمم لغة اللون ومغزى الفراغ, فقدم أعمالا كثيرة, سماها بالتمارين البصرية, واختار منها ثمانين عملا ليقدمها في معرضه (كولاج وتجريد), الذي أقيم قبل أكثر من عام بقاعة مشربية, ويرصد للسنوات من 1964 إلى 1967 ميلادية.

قصاصات من أوراق الجرائد, خلفيات من أوراق متعددة الخامات والألوان, أشكال تحاور الفراغ بليونتها وانحناءاتها, لا يتركها الفنان سابحة تسقط في عتمة الفوضى, بل تمتد إليها يد الهندسة المؤنسنة لتستريح قصاصة فوق أخرى, يبحث الفنان عن أساس لعمله, وهو يخشى التكرار, فيعتمد التبديل والتوفيق, ليعيد إنشاء الكائنات الورقية في لوحته, لكنه يدرك كما يقول في ملصق المعرض الذي صاغ نصه العربي مترجما عن الإنجليزية الفنان منير الشعراني: لقد اطمأنت هذه القصاصات في أماكنها, لكنها ما زالت تمنحني الشعور بإمكانات لا نهائية لتسكينها في حيز ما, هذه هي وظيفة الفن.

كنا نجد في كل عدد من أعداد (الكاتب) نحو 15 رسما للفنان حسن سليمان: رسوم لقصائد, وموضوعات, وجوه حالمة وأخرى صارخة, أيقونات بالحبر الثقيل أو الخفيف, وإذ خرجت الأصول إلى النور, فذلك لنضع أيدينا على بعد جديد يحاول اللون الإفصاح عنه. ربما هو لون السعادة الممتزج بالحزن, خاصة في ذلك الداكن الهادئ الذي يغمر الفضاء.

نتساءل عن السبب وراء هذا المعرض, فالعبث بصندوق الذكريات لبعث الأدوار القديمة لا بد له من حاجة, هل هي محاولة لإعادة كتابة تاريخ التجريد الفني, هل يمكن القول إن هذه الأعمال خارج سياقها المنشور, تمثل كيانا قائما بذاته, هل الأمر يتعلق بالعبث الفني المجاني في بعض زوايا المشهد التشكيلي وحاجة الفنان إلى العودة للأرض الصلبة, للجذور, هل كان هناك إحساس من الفنان بسوء حال بعض المطبوعات الثقافية فرأى أن يبرز هذه الدروس المستعادة من التاريخ القريب? الأسئلة كثيرة, قد لا يصح أحدها, وقد تصلح كلها.

محاولا البحث عن إجابات, أعود إلى نص كتبه الفنان حسن سليمان قبل 32 عاما في أحد أعداد المجلة نفسها, وفي زاوية الفنون التشكيلية, بعنوان (أنا والجرذان), لأقتطف منه ما يشي بإجابات لأسئلتي, يكتب: (كثيرا ما أكتشف نفسي متحدثا للجدران حولي. أقول لها لا شيء, لا أقل ولا أكثر من ثرثرة, الإنسان بطبيعته حيوان ثرثار. نزعم أننا مازلنا قادرين على الثرثرة فنثرثر. وحين نقدر, ونقدر حقيقة نحول الثرثرة إلى صور ومقالات وفنون وآداب, وأحيانا إلى أحداث وصدام ومشاحنات لا داعي لها. الفنان يثرثر بالضبط كما يثرثر الرجل العادي على المقهى. الفرق بين الفنان الآن والفنان قديمًا.. أن الفنان قديما كان لا يدرك أنه يثرثر أما الآن فهو يعي أمر ثرثرته, لذلك فقد بدأ يكتب ويرسم أشياء لا داعي لها ولا معنى, أما قديما فكان يجهد ذاته كي يجد مسببات لما يعمل....).

بعدها بنحو عام, يقدم الفنان عالمه الأثير كائنات الريف والورد في معرض بضاحية جاردن سيتي القاهرية; ليجمع شتات ذكريات رحلته ويبث الروح في المرأة والموديل وحتى الحيوانات المستكينة وهي تعبر الكادر. ويعود هنا في اللحظة التشكيلية القاهرية خلال معرضه الأحدث (نساء القاهرة) ليكتشف تلك اللحظات المنفلتة ـ رغم تكرارها ـ في حياة امرأة مصرية. لحظة تتهيأ فيها لتكتب شيئا جديدا في دفاتر حياتها اليومية. ورغم أن نساء القاهرة هنا يقبعن في البيت, بما يرسم الاستقرار الذي يشي المكان به, إلا أنهن في لحظات التهيؤ يذبن بين الترقب والتحرك أو التأهب ولا يجمع بينهن سوى تفكير عميق نقرأه على الخلفية التي اختارها لكل منهن. لقد توقفن عن الثرثرة, لكن الفنان لم يتوقف, يقول في نص آخر ـ ترجم كلماته عن الإنجليزية أيضا الفنان منير الشعراني : ليس من السهل إدراك أن الصمت أثقل من الكلمات, هذا ما أقوله, يستطيع فم مفتوح أن يغني, لكن أغنيات الصمت أعمق.

نساء صامتات في (البيت), قد يكون أقرب العناوين لذلك المعرض الذي استضافته قاعة عرض مسرح الهناجر. هن في البيت لكن الذهن مشغول بالعالم خارجه. لذا يصورهن الفنان على عتبات الأبواب, وأمام أفاريز النوافذ, وقبالة ضلفات الشرفات. المرأة هنا, دائما ـ رغم الجدران الآسرة للتكوين القوي لجسد أنثوي في حيز مكان أغلبه فارغ ـ نراها تتأهب للتحليق, لو أن جناحين لها. وبقدر ما يخفي تحت غلالة الظل, بقدر ما يبين في تعبيرات الوجوه.

ترتخي القدمان العاريتان لتمنح الاتزان للمرأة الجالسة فوق كرسيها الدوار, صامتة ساكنة هادئة, لكن خلفها يحرك الفنان الخلفية, التحول في الخلفية: في الزاوية, في الضوء, في العتمة, في النقوش, في اقتراب العين بلوحة وابتعادها في أخرى, إن الهدوء الذي يغلف السكون يسبق عاصفة من المشاعر أو يحجبها, لكن قلق الفنان يفضحها.

نساء قاهريات بثياب بسيطة, لكنها كافية لوأد الرغبات. نساء قاهريات بنظرات ساهمة, لكنها كافية لإشعال الحنين. نساء قاهريات يغطين الرءوس إلا من خصلات كافية لإثارة الأصابع حتى تدرك الطريق, يصب عليهن جميعًا الفنان رشرشات من كئوس النور, فتكاد التفاصيل تضل الطريق للعين. لكنك حين تتأمل ترى نبع الضوء الداخلي أقوى. في عناد حقيقي مع آلة التصوير يعيد الفنان تصوير الموديل نفسه في أكثر من زاوية. لا يجمع بينها غير الصمت والوحدة, لكن الوحشة غائبة, فمعها عاشق فنان وباليتة ألوان; يقول حسن سليمان مناجيا: لكنك حبي المفقود .. حلمي المفقود. كانت عيناك أحيانا نجمتي الوَحدة, لكني دومًا, كنت أراهما مغرورقتَين بدمع حائر. أسميك ليلي, ولن أنحدر فأترك الظلمة تقتحم أعمالي, أبدًا.

 

أشرف أبو اليزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صالح رضا: لغة شعبية تحكيها خطوط عرائس مصرية





حسن سليمان: نساء القاهرة بين الصمت والوحدة وكأس النور





 





صالح رضا بعدسة رضا سالم





ابنة نهر النيل: تستلهم رموز الريف وظلال التاريخ المصري القديم





عروس المولد: أيقونة رحلة الفنان صالح رضا التشكيلية





فاروق حسني بعدسة مصطفى عبدالله. مماهاة بين الإطار والخلفية, بين الأغلال والحرية في عملين للفنان





نساء قاهريات بنظرات ساهمة, لكنها كافية لإشعال الحنين





الفنان متأملا: لن أنحدر فأترك الظلمة تقتحم أعمالي, أبدًا





امرأة ونافذة وخيال يحلق