وداعاً يا آنا ماري شيمل

وداعاً يا آنا ماري شيمل

وداعا أيتها الفقيرة إلى رحمة الله

في السادس والعشرين من يناير 2003 الماضي انطفأت شمعة حياة أهم وأكبر مستشرقة في القرن العشرين, كانت من أكبر عشاق الشرق والإسلام.

نعم هذا هو التعبير الصحيح, فهي بلا منازع الأكبر والأهم (وهذا في الواقع لا يفيها حقها أيضا).... فمن الطبيعي أنها كانت عالمة عظيمة, ومعروفة على مستوى العالم, إلا أن العالم مليء بالعلماء المشهورين في كل الميادين والاختصاصات, وما يميز آنا ماري شيمل, هو حبها للناس, وأمانيها أن ترى الخير والإيجابيات في كل مكان, وأن يصبح التفاهم بين البشر من أعماق أنفسهم. وأشد ما كانت تبغض في هذا العالم المحاولات المقصودة, (وعند الكثيرين غير المقصودة), للتقليل من قيمة الناس الآخرين, وقلب الثقافات والحضارات الأخرى رأساً على عقب, والاستهزاء بطرق تفكير هؤلاء الناس, واعتبار الرأي الذاتي هو المقياس وهو الحكم.

لقد أحبت آنا ماري شيمل الشرق بكل أبعاده ومعانيه وسحره, وخاصة الناس فيه, ونذرت كل حياتها لبناء الجسور بين الشرق والغرب, تماما كما فعل بعض المفكرين الألمان وقبل مائتي سنة. وأذكر هنا خصوصاً الشاعر جوته والشاعر روكيرت اللذين كانا مقياسها في روائع الشعر. ولم تكن هذه الجسور مبنية على أسس علمية بحتة فقط, بل كانت مبنية على الحب والتفهم. وكانت إنسانة من الطراز القديم عن قصد وعمد. فهي لم تكتب في حياتها كتابا عن الاجتماعيات, أو عن النظم السياسية. بل اقتصر عالمها على القصائد والشعر, وعلى الأدب التقليدي الكلاسيكي, وكانت في أعماقها عاشقة وفيّة لكبار شعراء العصور الماضية والحاضرة, كما وجدت الأجوبة الحقيقية لقضية الإنسانية سابقا ولإنسان عصرنا هذا.

نذرت آنا ماري حبها وتعاطفها واهتمامها لأفكار الصوفية بأشكالها العربية, والتركية, والفارسية والأوردية. وأعادت مقارنتها دائما مع أفكار التصوف الأوربية وخصوصا الألمانية في القرون الوسطى. وأعتقد جازما بوجود استمرارية للفكر بين الماضي والحاضر, والتي تعطي لبعض الأماكن خصوصيتها, ولهذا لم تكن مجرد مصادفة أن تولد آنا ماري شيمل في عام 1922 في مدينة إرفورت التي عاش وعلّم فيها المعلم الرئيس إيكارت, وهو المفكر الأكثر عمقا للصوفية الأوربية قبل سبعمائة عام خلت. وفي قلب تركيا في قونيه مدينة مولانا الرومي, كانت آنا ماري تقضي دائماً فترات طويلة من التأمل, ليس فقط من أجل الدراسة بل أيضاً من أجل الفهم والتفهم وتعيد.

كتبت آنا ماري شيمل في حياتها العلمية الحافلة 120 كتاباً, أو ما هو أكثر من ذلك. إذ من الصعب حصرها بالتحديد, حيث كتبت العديد منها باللغة الألمانية, أو بالإنجليزية أصلا, ثم أصدرتها في ترجمة منقحة جديدة إلى هاتين اللغتين... هل هما كتابان, هل هو كتاب واحد, سؤال بسيط في مسألة بسيطة, إذا ما قورنت بالسؤال الأساسي لكبار مفكري التصوّف عندما يتعلق الموضوع بماهية الروح أو الله.

وقد لا تكون أجمل أحجارها الكريمة في حياتها هي أبحاثها المهمة ذات الثقل العلمي كمجلديها حول الحضارة الإسلامية في الهند, أو أعمالها المرجعية الأساسية في فن الخط, أو (أبعاد التصوف في الإسلام), بل قد تكون (الجنان الصغيرة) أو (زهور الحدائق في الإسلام). وأخيرا وليس آخرا (القطة في الأدب الإسلامي).

أول مستشرقة

ولدت آنا ماري شيمل في وسط سنوات صعبة من القرن العشرين, وفي عام ولادتها 1922 كانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها لبعض الوقت بعد أن قضت على الملايين من الألمان, ثم تكفل المرض والجوع بالقضاء على ملايين أخرى في أعقاب الحرب, وجاء التضخم المالي كنتيجة مباشرة للعقوبات والشروط التي فرضها المنتصرون في الحرب, حيث قضى على كل الملكيات الخاصة, وأصبحت حسابات التوفير في البنوك غير ذات قيمة, وفي النهاية أصبح الدولار الواحد يعادل أكثر من 4000 مليون مارك.

عاشت آنا ماري شيمل كل هذه المصائب والنكبات في عائلتها, ولم يكن والداها من أصحاب الثروة, بل كان موظفاً في دائرة البريد, وراتبه يضمن الخبز اليومي لأسرته. وكانت التربية الألمانية الكلاسيكية, كالاجتهاد, والتواضع, والنظام هي السائدة في ذلك البيت. فالتسلية واللهو أو حتى تبديد الوقت, كان يعتبر في ذلك البيت خطيئة لا تغتفر. آنا ماري شيمل لم تملك جهاز تلفاز في بيتها حتى مماتها, وبالمقابل كان منزلها مليئاً لا بل محشوّاً بآلاف الكتب.

في عام 1937 قررت آنا ماري شيمل تعلم اللغة العربية بكل طاقتها, وكان عمرها حينذاك خمسة عشر عاما فقط. وقد فسرت ذلك بتراث عائلتها, التي كانت تقطن في منطقة فقيرة جدا على الشاطئ الألماني لبحر الشمال وحيث اعتاد الرجال الخروج بسفنهم دائماً إلى البحار البعيدة, يمارسون التجارة مع القارات النائية.

جد آنا ماري شيمل كان الأول في العائلة الذي امتلك سفينة شراعية كبيرة, وبعد سنوات من التجارة الجيدة حدثت الكارثة التي اعادت العائلة كلها إلى براثن الفقر, حيث اصطدمت السفينة بالقاع في بورتو الليغرة في جنوب البرازيل وغرقت.

لكن ما بقي من تقاليد عائلة البحارة التجار هو الانفتاح على العالم الخارجي البعيد, وفي الواقع فإن التجارة تكون ممكنة فقط عندما يتقبل هؤلاء التجار الناس الآخرين كما هم. وطبعا يذكرني هذا بتاريخ الكويت البحري التجاري.

ثم جاء الدافع الآخر لها لتقرر طريق حياتها, متأثرة بأمها وهو الاهتمام بالعقل والتفكير, فقد كانت أمها تكره مشاركة النساء الأخريات تمضية الوقت في احتساء القهوة والدردشة التي لا تفيد بشيء.

وهكذا كان بيت عائلتها منفحتاً على العالم, يدرك بأن وراء الحدود الذاتية يوجد أناس آخرون, وحضارات أخرى, وهذا ما أرادت تلك الفتاة الصغيرة أن تستوعبه, وشعرت بلا وعي بأن ذلك لن يكون سهلا أبدا, وأنها لن تتمكن من إنجاز ذلك بصورة جانبية, وأن عليها أن تعمل بجد وحزم ونشاط, كما أن عليها أن تتنازل عن كل شيء حتى عن أن تكون لها حياة خاصة بها, وعائلة لها وحدها. وبأن على المرء قبل أن يبالغ في الادعاء, أن يتعلم بشكل متقن ومحكوم.

حصلت تلك الفتاة النادرة على الثانوية العامة عام 1939 وأرادت أن تلتحق بالجامعة. وبدءا من تلك السنة, حصر القبول في الجامعات الألمانية على كليات العلوم والتكنولوجيا, وغيرها المهمة للجهود الحربية. ونتيجة لذلك قلص عدد المقبولين في الدراسات الأدبية. وهكذا سجلت آنا ماري شيمل في كلية العلوم في جامعة برلين وسجلت إلى جانب ذلك اللغات العربية, والتركية, والفارسية والأوردية. هذه الدراسة التي يحتاج غيرها من الجامعيين إلى سنوات عدة لإنهائها, أنجزتها هي في عام 1941. وفي العام نفسه تقدمت للحصول على درجة الدكتوراه حول (الخليفة والقاضي في مصر المملوكية), وحصلت على درجة الدكتوراه وهي في سن التاسعة عشرة.

الحرب / الدمار

ثم قامت الحرب العالمية الثانية وأصبحت القنابل تتساقط يوميا على كل المدن الألمانية. كانت البيوت المحترقة والقتلى في كل مكان. في يونيو 1941 بدأت الحرب ضد روسيا, وشعر أغلب الناس, على أي حال أغلب المثقفين, بأنها بداية النهاية.

في البداية كانت الانتصارات الألمانية السريعة ولكن تبعتها معارك ستالينغراد وكورسك ولينينغراد الحاسمة, حتى احتل الروس أخيرا نصف ألمانيا, وكانت هذه أشد سنوات الحرب في القرن العشرين رعبا, لقد تم تقرير مصير الحرب العالمية الثانية في روسيا وعلى أرضها, تماما كما كان الأمر مع نابليون قبل 150 عاما خلت, حيث بدأت هزيمة نابليون أيضا في ساحات المعارك في روسيا وعلى أرضها.

كانت آنا ماري شيمل تعمل يوميا تحت هذا الجحيم بقوة وعزم كبيرين. وفي عام 1945 وقبل أربعة أيام من انتهاء الحرب سقط أبوها كغيره من كبار السن والأولاد اليافعين الذين جنّدوا على وجه السرعة وكان لكل 26 فردا منهم ثلاث بنادق لا غير وبها كان عليهم الدفاع عن ألمانيا.

عندما أصبحت برلين خرابا, توجهت آنا ماري إلى مدينة ماربورج للاستمرار في طريقها الجامعي. وكانت هذه السنوات سنوات الجد والنشاط, وفي عام 1951 حصلت على الدكتوراه الثانية حول (مفهوم الحب في التصوّف الإسلامي). ولكنها في سنوات ماربورج وجدت اختصاصها في علم الاستشراق, حيث أعرضت عن اللغات الشرقية الأربعة التي كانت أدواتها الضرورية (بعد إتقانها بطلاقة) وتوجهت لدراسة الدين الإسلامي والعلوم الدينية بحد ذاتها. وأصبحت اللغات الآن مجرد وسيلة كما أصبح الانشغال العلمي بالإسلام, والاكتشاف والوصف وإيصال ذلك كله إلى الناس (ليس للعلماء, لكن لجمهور الناس العاديين). وأصبح من الآن وصاعداً نتاج عمل نصف قرن من الزمان, هو هدف ومحتوى حياتها الوحيد.

لقد أرادت للناس أن يتذوّقوا الجمال ومافي هذا الدين من فن وشاعرية وأدب, فتعمّقت في الدراسة والبحث والمعرفة, لتقدمه للناس في (الغرب والشرق).

وكانت في عام 1950 شاركت كمحاضرة بسيطة في المؤتمر العالمي الأول للدراسات الدينية في أمستردام. وبعد عشرين عاما من ذلك أصبحت آنا ماري شيمل رئيسة هذا الاتحاد العالمي.

علاقة قوية بالدين

ولربما علي هنا أن أذكر شيئا عن علاقة آنا ماري شيمل بالدين, أي علاقتها الشخصية بالمسيحية. فمن الطبيعي أنها كانت قد ولدت (نحن في أوربا عام 1922), في مجتمع مسيحي وعائلة مسيحية. وأذكر في محاضرة آنا ماري شيمل في الخرطوم عاصمة السودان - وكنت آنذاك سفيرا لألمانيا هناك - ورافقتها إلى المحاضرة.... وبعد انتهائها سألني أحد السودانيين الأذكياء, إن كانت آنا ماري شيمل مسلمة...? كلا, أجبته, إنها مسيحية, فقال إنها تعلم الكثير عن الإسلام, وتعرف القرآن, والحديث وكل التقاليد الإسلامية الموروثة, وهي أذكى وأعلم من بعض العلماء المسلمين, وتتكلم العربية والفارسية والتركية والأوردية, فكيف تم ذلك? إن سؤالا بسيطا كهذا يتطلب إجابة معقدة: فأولا هنالك في المسيحية أيضا مذاهب متعددة, وكانت آنا ماري شيمل تنتمي إلى الكنيسة الإنجيلية, وهذه قسم مما يسمى البروتستانتية (تعود إلى مارتن لوثر) الذي أسسها عام 1517. آنذاك لم يشأ مارتن لوثر أن يؤسس كنيسة جديدة, وطبقا لمفهومه, فقد كانت تعاليمه الرئيسية, العودة إلى أصول تعاليم سيدنا المسيح كما جاءت في الإنجيل, ولهذا فإن للإنجيل, وللقراءة, وللعلم لدى البروتستانتية قيمة ومرتبة أعلى مما لها لدى الكنيسة الكاثوليكية, وكلنا يعرف ما أدركه ماكس فيبر بأن روح البروتستانتية وروح التعلم الفردي الذاتي هي أساس المجتمع الحديث. لهذا كانت آنا ماري شيمل بكل المفاهيم طفلة الثقافة البروتستانتية, وبالرغم من عدم ذهابها إلى الكنيسة إلا نادراً, فقد كانت تؤمن بالقيم الرئيسية للدين, ولم يدر بخلدها أو يجول بخاطرها إطلاقا أن تبدل ذلك, لأنها تؤمن بأن المرء يستطيع أن يجد الله بطرق متعددة, وأن الطرق والوسائل لإيجاده ليست هي الفصل في الموضوع, بل الهدف هو الفصل والجدية التي يبحث فيها المرء عن هذا الهدف. وبالتحديد فقد كانت قادرة وبشكل يثير الإعجاب على أن تبحث عن طرق أخرى وتتفهمها وتقدّرها.

تجربة في تركيا

أصبحت آنا ماري شيمل أستاذة في أنقرة بتركيا, من 1952 إلى 1959, ولقد قالت لي مرة بأن تلك الفترة كانت أسعد سنوات حياتها. كانت تركيا في ذلك الوقت بلادا فقيرة, ورغم ذلك فقد كان العلم يحتل مرتبة لابأس بها في الحياة, فقد أراد العديد من الطلاب والطالبات فقط أن يدرسوا ويتعلموا من الصباح وحتى المساء. في تلك الفترة كانت قد مضت ثلاثون عاما فقط على تغييرات أتاتورك, إلا أن قيم العلم والمعرفة التركية الإسلامية التقليدية مازالت موجودة بالرغم من أن آنا ماري استشعرت كلتا حالتي التطرف لتحديث العالم الإسلامي, خاصة لدى النساء: أولاها كونهن يرغبن في أن يظهرن بمظهر النساء الغربيات, ولا يلحظن أنهن يأخذن من الحضارة الغربية الشكل الخارجي فقط, والثانية كونهن لا يفقهن من الحضارة والثقافة الشرقية الغنية إلا النزر اليسير, ومن أجل هذا أخذن يعتنين ببعض الظواهر الخارجية للتقاليد وطريقة الحياة دون أن يلحظن أنه لا علاقة لهذا أيضا بالحضارة والثقافة الإسلامية الشرقية لا من قريب ولا من بعيد.

فكر وفن

المصادفة, فحسب, أعادت آنا ماري شيمل إلى ألمانيا, حيث أصبحت في عام 1961 بروفيسورة لدى جامعة بون. وليس في نيتي هنا أن أتحدث عن إنجازاتها العلمية الفريدة في بون. ولكن عن تأسيسها للمجلة الدورية (فكر وفن), والتي مازالت تصدر حتى الآن (باللغة العربية) في كل سنة عددان, ويقيني أنها أجمل مجلة عربية على الإطلاق تصدر في أوربا. والأجمل منها الأعداد الأولى التي أصدرتها آنا ماري شيمل شخصياً في البداية: فعدد عام 1963 مثلا حول فن الخط, حيث لم يقتصر البحث على إظهار روعة فن الخط العربي, بل وضعته في مصاف أعمال فن الخط الألماني والأوربي التي ظهرت في الحقبة نفسها. أو العدد حول (الحصان ذو القرن الوحيد). أو العدد الذي احتوى على قصائد نازك الملائكة أو محمود درويش.

وقد سعت هارفارد بصبر وجد وأناة للحصول على آنا ماري شيمل, حيث كانت تبحث عن عالِمْ متخصص في الحضارة الهندية الإسلامية, قادرا ً على أن يحاضر عنها بالطريقة العلمية الغربية. وفي عام 1965 تحدثت هارفارد إلى آنا ماري شيمل تسألها إن كانت تستطيع أن ترشح أحداً لذلك الكرسي التعليمي, وقد رشحت لهم آنا ماري أكبر المتخصصين ولكنهم أبوا وأصروا على اختيارها هي لأنها كانت الأفضل.

وبهذا تم شغل الكرسي التعليمي لدى جامعة هارفارد بأفضل عالم في العالم, وكان هذا العالم عالمة, وبذا درّست آنا ماري شيمل هناك من 1967 وحتى تقاعدها في عام 1992 (في هارفارد تصل سن التقاعد إلى السبعين).

إن من قضى شتاء واحدا في كامبريدج يعرف معنى الثلج, لقد كنا في هارفارد وبعد هارفارد, نتحدث دائماً عن الثلج في كامبريدج, حيث كان الثلج في هارفارد موضوعاً نسجت منه آنا ماري شيمل حكايا عدة ونوادر شائقة ومرحا دائما, أما أنا فإنني أستطيع فقط أن أروي حوله قصة مملة, كيف كسرت رجلي في الثلج في تلك الأيام البعيدة.

ومهما كان جمال هارفارد خاصة في الربيع أو في الخريف, فإن جمال نيويورك أروع وأبهى. لأن في تلك المدينة الكبيرة يوجد متحف ميتروبوليتان... حيث كانت آنا ماري شيمل زائرة دائمة هناك, كما شاركت في المعرض الكبير عن الهند), وكانت تتمتع دائماً بتأمل سجادات حصان القرن الوحيد في جناح كلويسترز التابع للمتحف.

وحيد القرن

وهذه ذكرى أخرى أشاركها بها: حيث كنت مازلت أذهب إلى المدرسة في الخمسينيات من القرن الماضي, التقيت بحصان وحيد القرن (ليس في الغابة بل في المتحف طبعاً). إحدى السيدات وكانت صديقة لوالديّ, كانت قد أنهت لتوّها دراستها القياسية السارية المفعول حتى اليوم حول السجاد الذي يحمل رسوم حصان وحيد القرن في باريس. وقتها تعلمت أن الأعمال الفنية الكبيرة هي ليست فقط تلك التي تحمل أسماء فنانين معروفين كبار, لقد التقيت أنا مع آنا ماري شيمل - إن صح التعبير - في المتحف أيضا: كان كل منا يعرف الآخر منذ بضع سنوات ولكن بشكل سطحي. كانت تحب مخاطبة جيل الشباب. لقد كان مثيراً وعجيباً جدا ويحتاج المرء إلى أن يعتاد عليه, أن تتحدث بروفيسورة جامعة هارفارد المشهورة إلى أناس أصغر منها بكثير على قدم المساواة, عن أفكارها ومشاريعها حول الشرق. وفي عام 1987 تعرّف كل منا الآخر بشكل صحيح, حيث كنت قد نظمت آنذاك معرضا كبيرا عن اليمن في متحف حياة وعادات الشعوب في مونشن في ألمانيا وأصدرت كتاب المعرض (كاتالوج), وكان أنجح معرض أقيم حول حضارة عربية قديمة. أعجبت آنا ماري شيمل بالمعرض وبالتحف الرائعة التي عرضت فيه, كما أعجبت بطريقتي الجديدة التي ابتدعتها للتعريف عن حضارة أخرى, وقدمت آنا ماري وقتها محاضرة في المتحف لم أعد أذكر موضوعها, ولكنها لم تكن حول اليمن بالتأكيد. ومنذ ذلك الوقت كنا نلتقي بين الحين والآخر بكل رغبة وتقدير. وكانت آنا ماري كاتبة نشيطة ومثابرة للرسائل, كما كانت تعتني وترعى صداقاتها مع الآخرين, وتسر كثيراً عندما نمر بها أنا وزوجتي في بون, ونذهب ثلاثتنا إلى مطعمنا المفضل الجميل المطل على شاطئ نهر الراين العظيم حيث كنا نجلس دائما إلى الطاولة الأمامية من جهة اليسار, وكانت آنا ماري شيمل تشاركنا حب المطبخ الجيد والنبيذ المعتق.

إقبال وباكستان

من الطبيعي أن آنا ماري شيمل كانت تنطلق من هارفارد في سفرات متعددة إلى الهند وباكستان. وأصبحت باكستان بالنسبة لها - وهي التي لم تتزوج إلا لفترة قصيرة وغير موفقة - حب حياتها الكبير. كان ذلك قد بدأ في زمن مبكر جدا في 1951 حين أهداها أحد أصدقائها كتابين لمحمد إقبال الشاعر الفيلسوف والسياسي والأب الروحي لباكستان, وقضت آنا ماري شيمل كل حياتها وهي تعجب بإقبال وتقدره, وترجمت أعماله إلى الألمانية والإنجليزية, وكتبت عنه أيضاً, حول كل مجالات الأدب الأوردي الحديث, كما كتبت حول الشعر والفلسفة الباكستانية الحديثة.

في لاهور أطلقت المدينة على أحد شوارعها اسم آنا ماري شيمل الخجولة المتواضعة جدا - بعكس السياسيين الذين يذهبون حيث تكون كاميرا التلفزيون بانتظارهم - وكان ذلك بالنسبة لها مدعاة متواضعة للفخر واعتبرت أن الشهرة التي تمتعت بها لدى العديد من الباكستانيين اعترافاً وتقديراً لهدف حياتها. كما أعطاها احترام الناس وتبجيلهم لها القوة دائماً كي تكافح في الغرب أشكال التحيّز ضد الإسلام أو ضد الشعوب الإسلامية.

أحبت الكويت

ترتبط آنا ماري شيمل بالكويت بمشاعر خاصة: إحدى طالباتها والتي تقدمت لنيل درجة الدكتوراه تحت إشرافها في هارفارد السيدة غادة القدومي والتي شغلت منصباً مرموقاً لدى المؤسسة الفريدة في العالم العربي (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب). كما أعجبت آنا ماري بالكويت وبالعمل الجليل الذي حققه السيد طارق رجب في متحفه الخاص عن التاريخ العربي الإسلامي. ولكن وقبل كل شيء, أعجبت آنا ماري بشخصية رقيقة مكافحة, حققت بمبادراتها الخاصة وطاقتها الذاتية ومتابعاتها, وحفظت وأحيت القيم العظيمة للحضارة العربية والإسلامية. وكما قال غوته:

كثير من روائع العالم
تحطمها الحروب والنزاعات,
من يحم التراث من ظلم العالم
يعطه الله أجمل ما في الحياة.

هذه السيدة هي الشيخة حصة الصباح التي قابلتها آنا ماري شيمل بضع مرات, إلا أنها كانت أمامي تعتبرها واحدة من أغلى صديقات حياتها على الإطلاق. لقد أنجبت الكويت دولة التجارة والأعمال والبترول, شخصية تنذر نفسها وبشكل مكثف ومنذ عشرات السنين للذود عن التراث العربي والإسلامي, وقبل هذا وذاك أن تكون امرأة, وفي هذا المجتمع المحافظ.

خذ وردة وسمّها أغاني

إن ما بقي من آنا ماري شيمل هي كتبها, أحدها بعنوان (خذ وردة وسمّها أغاني), أو كتابها (القطة في الأدب الإسلامي), أو موضوعها حول النحلة في الإسلام, هذا طبعا إلى جانب إصداراتها العلمية العديدة, ولكن هذا جزء مما بقي منها, الجزء الآخر أهم وأكبر بكثير.

وفي العام الماضي وعند بلوغها الثمانين من العمر أصدرت مذكراتها, التي ختمتها بكلمة لفريدريش روكيرت, الذي وقبل مائتي عام كتب ليس فقط القصائد الحزينة التي نذكرها خصوصا عبر موسيقى شوبر بل ترجم أيضا محيطا واسعا من الأعمال الشعرية العربية والفارسية إلى مقاطع شعرية ألمانية رائعة.

إذا قدر لي أن أموت غدا
أكون قد عملت ما يكفي,
وإذا قدر لي أن أعيش أبداً
فلدي أيضاً من العمل ما يكفي.

ماتت آنا ماري شيمل, وانتزعت من قلب الحياة والعمل, وخسرت أنا صديقة لا تعوض. وخسرت زوجتي صديقة وفية, لقد بكيناها ووضعنا زهوراً عند صورتها وعلى أحد كتبها.العالم بأسره خسر إنسانة عرفت بأن السلام لن يأتي عن طريق قادة الدول, السلام سيأتي بواسطة الشعر, بواسطة التفهم والحب, وأننا قد نكون اليوم أقرب إليه من أي وقت مضى.كانت الفقيرة آنا ماري شيمل توقع رسائلها إلى أصدقائها بجملة (الفقيرة إلى رحمة الله, آنا ماري) .. ويحق لى الآن أن أنعيها (وداعا أيتها الفقيرة إلى رحمة الله لقد مت وستعيشين إلى الأبد). لقد فاتني أن أذكر أن آنا ماري شيمل قد حصلت على الكثير من التقديرات والأوسمة والجوائز, منها أهم جائزة ألمانية معنوية تمنحها ألمانيا على الإطلاق وهي جائزة السلام لاتحاد الكتاب عام 1995.

آنا ماري شيمل كانت أيضا عضوا في مؤسسة الفرقان (للشيخ أحمد زكي يماني) إلى جانب العديد من المؤسسات الثقافية والعلمية.

إلا أنني لا أريد أن أكتب حول ذلك في هذا المقال.

أهم إصدارات آنا ماري شيمل

  • لغة الصور لجلال الدين رومي
  • أبعاد التصوف الإسلامي (بالإنجليزية).
  • أبعاد التصوف الإسلامي (بالألمانية).
  • المسيح ومريم في التصوف الإسلامي.
  • الآداب الإسلامية في الهند.
  • الإسلام في شبه القارة الهندية (بالإنجليزية).
  • الإسلام في الهند وباكستان.
  • الإسلام في شبه القارة الهندية (بالألمانية).
  • فن الخط الإسلامي.
  • أسرار الأرقام (بالألمانية).
  • أسرار الأرقام (بالإنجليزية).
  • القطة الشرقية.
  • الإسلام وأوربا.
  • بلاد الشرق وبلاد الغرب.
  • تعلم اللغة العربية (17 إصدارا).

 

فيرنر داوم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات