الابتكارات التقنية عملية تطورية

الابتكارات التقنية عملية تطورية

لا يسعى هذا الكتاب فحسب الى محاولة اكتشاف قوانين التطور الكامنة في مسار الابتكارات التقنية واستخراج المتشابهات بين تلك الابتكارات والتطور كما عرفته البيولوجيا , وإنما يحاول ايضا إلقاء الضوء على عملية الابتكار نفسها, وما تتضمنه من تعليم وخيال ومنافسة وانتقاء وتراكم في الخبرات.

يعود النجاح الباهر للعلم الحديث إلى انطلاقه منذ نشأته على أساس تبسيط الظواهر إلى عناصرها الأولية, ومن ثم التوصل إلى قوانين تقريبية قابلة للتطبيق والتحول إلى منجزات تقنية, لكنه يواجه بجرأة حاليا ما حاول تجنبه في بدايته ألا وهو تعقد الظواهر وعشوائيتها ونسبيتها. واستطاع العلماء اكتشاف كثير من القوانين المختفية داخل نسيج العشوائية والتعقد, مما ساعدهم على إحراز نجاحات باهرة كانت تبدو مغلقة أمام المنهج العلمي.

ودخل الحلبة العلمية أيضا وعي جديد بأهمية بحث الترابط بين المجالات العلمية المختلفة, فلم تعد الفيزياء والبيولوجيا والاقتصاد والاجتماع معزولة عن بعضها البعض, كلّ مكتف في برجه العاجي بما أحرزه من نجاحات. من هذه الجرأة العلمية الحديثة في محاولة الربط بين مجالات كانت تبدو مستقلة عن بعضها البعض, مثل القوانين الحاكمة للتطور في مجال الابتكارات التقنية وقوانين التطور البيولوجية, اكتسب هذا الاتجاه مصداقية جديدة مع عصر المعلومات والاستخدامات الواسعة للكمبيوتر ونماذج محاكاة الظواهر المعقدة.

ففي ميدان الابتكارات التقنية تتوافر عدة عناصر تغري ببناء تشابه بينها وبين التطور بالمفهوم البيولوجي مثل التنوع الذي تحكمه الصدفة والتنافس والبقاء للأصلح, مما يغري بدراسة هذا التشابه لكشف آلية الابتكارات التقنية من أجل الإسراع بهذه الابتكارات وتحسينها والاستفادة منها.

نحو ابتكارات جديدة

ويطمح هذا الكتاب, الذي شارك في وضعه خبراء عالميون في عدة مجالات علمية مثل التطور البيولوجي, تاريخ العلم والتقنية, علم الكمبيوتر والذكاء الصناعي, الاقتصاد, علم النفس, التعليم والثقافة, وأبحاث الإدارة, إلى اكتشاف قوانين التطور الكامنة في مسار الابتكارات التقنية, لاستخراج المتشابهات بين تلك الابتكارات والتطور كما عرفته البيولوجيا. ويتيح اكتشاف هذه الجوانب المتشابهة استخدام تقنية عمل النماذج الإحصائية التي يمكن التعامل معها عن طريق المحاكاة بواسطة الكمبيوتر لاستخراج نتائج مفيدة في مجال معرفة آليات الابتكارات التقنية وطرق دعمها. وهذا المجال البحثي الجديد بالغ الأهمية في إلقاء الضوء الساطع على عملية الابتكار نفسها وما تتضمنه من تعليم وخيال ومنافسة وانتقاء وتراكم في الخبرات, وهي أمور يحتاج إليها بشدة أصحاب المواهب المؤهلون للمساهمة في الابتكارات التقنية الحديثة والمستقبلية.

ويطرح الكتاب العديد من الأسئلة المهمة حول المكونات الأولية للابتكار التقني, هل تحكم الصدفة هذه الابتكارات? هل عنصر التصميم يتطور تبعا للتفسير اللاماركي أو الدارويني? هل تجميع الأفكار هو أساس الإبداع التقني? هل يمكن محاكاة الابتكار ببرامج الكمبيوتر? وما العناصر التي تتطور في هذا المجال, هل هي المنتجات الصناعية أم الأفكار أم المنظمات? لماذا تظل بعض المجتعات مفتقرة إلى الابتكارات التقنية? كيف يمكن دعم الابتكارات اقتصادياً.

ويحاول الكتاب البحث من منظور تطوري عن عناصر التشابه بين التطور بالمفهوم البيولوجي ومسار تطور الابتكارات العلمية, وسيان كان هذا التشابه قابلا لأن يطلق عليه (تماثل) أو (تشابه مجازي) أو (نموذج), فإن وجهة نظر مؤلفي الكتاب تقدّم فوائد كثيرة في مجال الأعمال. وفي هذا الإطار يطرح الكتاب كثيراً من التساؤلات العملية ويقدم إجابات مفيدة للمصممين والمدراء في المجالات التقنية, ولصانعي السياسات والآخرين في المجال الصناعي والمجالين الحكومي والأكاديمي ويساهم في تطوير وتحسين فهمنا للقواعد التي تتحكم في التغيرات التقنية.

إذا ذهبت إلى متحف تقنيات ونظرت إلى الدراجات البخارية القديمة, ثم انتقلت إلى متحف آثار لترى الفئوس الحجرية, ثم إلى متحف تاريخ طبيعي حيث تشاهد الجياد الأحفورية, سيلفت نظرك التتابع عبر الزمن والتغير الذي يبدو متشابها في الأشياء والكائنات الحية, الذي يحكمه التنوع الجيني والانتفاء الطبيعي والتغيرات التي تحدث كرد فعل معدَّل استجابةً لتغير في البيئة المحيطة. وتعتبر الابتكارات التقنية ضمن الإطار الواسع للتطور الثقافي, وكانت هناك جهود سابقة لاستنباط التشابه بين التطور البيولوجي والتطور الثقافي, بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر واستمرت حتى الآن, وسبق أن لاحظ هذا التشابه كل من ويليام هويل, كارل ماركس, توماس هنري هكسلي, إرنست ماخ, وليام جيمس, وجورج سيميل. وتم تطوير الأفكار الأولية حول هذا الموضوع بواسطة جين بياجيه, كونراد لوريتر, دونالد كامبيل, كارل بوبر, وجاك مونود. وتصوّر بعض هذه الأفكار مجمل قصة التطور الإنساني الاجتماعي, الثقافي, والمادي على أنه استمرار للتطور العضوي بوسائل أخرى.

منظور تطوري للابتكارات

وتوصل المشاركون في هذا الكتاب الذي حرره جون زيمان وصدر عن جامعة كمبردج, إلى الدور المهم للتعليم والخيال في الابتكار, وإلى أن الابتكار التقني استخدم منذ زمن بعيد (الانتقاء المنجز) المبني على الخبرة السابقة, ليناسب الظروف الجديدة لذلك تمكن من الإقلال من الجهد الضائع في تنفيذ ابتكارات ستفشل حتما عند طرحها للاستخدام.

ومع بناء المادة العلمية للكتاب على أوجه التشابه بين التطور البيولوجي والتطور في مجال الابتكارات التقنية, استعرض الكتاب أوجه الاختلاف أيضا للتوصل إلى مدى عمقها ومدى مقاومتها لبناء نماذج التشابه, ويأتي على رأس هذه الاختلافات أن المنتجات الصناعية الجديدة لا تأتي بشكل عشوائي, حيث تكون غالبا منتجات للتصميم الواعي.

وحسب الداروينية الجديدة لا تكون الاختلافات الموجودة أمام الانتقاء ناجمة عن آلية يغيب عنها الهدف النهائي. وتتوافر في الابتكارات خصائص تنتقل إلى الأجيال اللاحقة.

بذلك يمكن القول إن الابتكارات التقنية لها سمات (لاماركية). ومن الاختلافات الأخرى الرئيسية عدم وجود مرادف تقني مباشر للجين في البيولوجيا الجزيئية. ولتدعيم التشابه العام بين التطور البيولوجي والتطور في مجال الابتكارات التقنية, يمكن دراسة النظم التقنية في إطار أنها (عناصر تذكارية memes), أي مفاهيم أولية تستمر زمناً طويلاً, تكرر نفسها وتتشكل من خلال المنتجات الصناعية, لكن هذا المصطلح يعتبر تجريدياً ومجازيا, فهذه (العناصر التذكارية) ليست معادلا عمليا للكينونات غير القابلة للانقسام التي افترضها مندل وتحقق كل من فرانسيس كريك وجيمس واطسون (مكتشفي بنية الـDNA) من وجودها. ولا يمكن تحليل السمات المميزة للمنتج الصناعي على أنه فقط مجرد عناصر تصميم محددة تبقى دون تغير لفترات زمنية طويلة. وهكذا فإنه رغم أن كل الدراجات لها عجلات, لكن تختلف في التصميم والتركيب ولا يمكن اعتبارها تعبيرا عن (عنصر تذكاري للعجلة) يتكرر من نوع إلى آخر.

ويمكن اعتبار لغة (العناصر التذكارية) عنصرا بناء في التأكيد على وراثة المسارات التقنية, كشيء يميزها عن البقاء المادي للمنتجات الصناعية المتضمن في هذه المسارات. وأنجز علماء البيولوجيا الكثير في مجال معرفة العلاقة بين الصفات البيوكيميائية للكائنات الحية التي تتعرض واقعيا للانتقاء, والبنية الوراثية للكائن الحي التي تشفر لهذه الصفات. وهذا أمر أكثر بساطة وأكثر دقة مقارنة بالعلاقة بين المنتجات الصناعية, وبنية العناصر التذكارية, ويتم غالبا تحليل المنتج الصناعي الجديد وتعديله عدة مرات قبل بدء أي عمل هندسي يتعلق به. ويمكن نقل العناصر التذكارية, تخزينها, تنشيطها, تنويعها وانتقاؤها بشكل مستقل عن تطبيقها المتوقع على منتجات صناعية محددة.

ويوجد اختلاف مهم أيضا يتمثل في أن الخريطة الوراثية لكائن حي ما تعتبر (وصفة) لتطوره عن البداية التي كان عليها, أكثر من كونها (مخطط عمل) لهيئته الجديدة. أما في التطور التقني, فإن (العناصر التذكارية) من النسل البعيد تتجمع و (تتعدد أصولها) عادة.

ولا يوجد - مثلا - كائن بيولوجي يشبه شريحة الكمبيوتر, التي تتضمن أفكارا أساسية, تقنيات, ومواد محددة من مجالات كيميائية متنوعة, أفكاراً فيزيائية, رياضيات, وهندسة. فهل تنوّع الكائنات الحية على هيئة أنواع مستقلة - وهو ما جعله تشارلز داروين أمرا أساسيا في نظريته عن التطور - يمكن تطبيقه حقا على الابتكارات التقنية? يشبه (الرسم النشوئي) للمنتج الصناعي التقني كثيرا شبكة عصبية أكثر من شجرة عائلة.

وينطلق الكتاب في تحليل الأسس الإيجابية التي يمكن من خلالها بناء نماذج التشابه بين التطور البيولوجي والابتكارات العلمية معتمدا على أن (التصميم) يعتمد على وجود (غرض) وتتحدد قيمة المنتجات الصناعية تبعا لاستخداماتها العملية مما يدخلها في ميدان التنافس والبقاء للأصلح عبر الأجيال, ولا تنفصل الابتكارات عن (الثقافة) التي أنتجتها, مما يعني ارتباطها بالأطر الفكرية والسلوكية, ويتضح ذلك أكثر في أن مفهوم (التقنية), أي تطبيق العلوم العملية على الصناعة والتجارة, لا يقتصر على الأشياء المادية, حيث يتضمن أيضا تنويعة واسعة من العمليات التقنية المنظمة, مثل الأنشطة الزراعية المحددة أو العلاجات الطبية, حيث لا تكون الأجهزة المادية هي مركز الاهتمام. ويمتد نطاق البنية الاجتماعية من دون انقطاعات من الأشياء المادية مثل الفئوس الحجرية, الدراجات, وحبات الأسبرين, إلى أكثر الكيانات تجريدا مثل العقود التجارية, السوابق القانونية, والنظريات الاقتصادية.

أي أن النموذج الشامل للابتكارات التقنية عليه أن يغطي تقريبا كل جوانب التغير الثقافي.

ويركز هذا الكتاب, من باب تبسيط الأمر, على تطور الأشياء التي تعتبر أصولا ثقافية مثل السيوف, الكاتدرائيات, التوربينات النفاثة, والمنتجات الدوائية.

اختبار صلاحية الابتكارات

ويستعرض الكتاب كيف تم في الوقت الراهن تطوير نظام كامل يطلق عليه (بحث, تطور, تصميم وإثبات صلاحية (RDD@D) حيث يتم إخضاع (المنتجات الصناعة الافتراضية), مثال لذلك التصميمات الأولية, لتحليل نظري, عمليات محاكاة بالكمبيوتر, واختبارات عملية قبل طرحها في الأسواق. وهكذا يمكن التعامل مع عمليات الأبحاث المعقدة متعددة المستويات, التي تتضمن سلاسل من التنوع والانتقاء, باستخدام كميات ضخمة من الخبرات والمعلومات والاستنتاجات والتخمينات. وتماما كما يحدث في عقول الأشخاص المبتكرين, تمتزج عناصر التنوع والبقاء للأصلح وتتعاقب بسرعة عالية لتتحول إلى نشاط خلاق مستمر يشبه (التغير الموجه).

وبهذا يتشابه التاريخ الطويل للابتكارات التقنية مع ظاهرة التطور البيولوجي واسعة النطاق, حيث تظهر نماذج جديدة للتغيرات. وتعتبر عمليات التجميع والتنظيم المؤسساتي للابتكارات في القرن العشرين مجرد خطوة في سلسلة الانتقالات إلى عصر تقني جديد, حيث تكتسب المنتجات الصناعية والمعرفة والمنظمات والأشخاص أشكالا جديدة, بل حتى العمليات التطورية الأساسية تدخل أيضا في علاقات جديدة.

ويتيح هذا الجهد العلمي في الكتاب استعراض الجديد أيضا في مفهوم التطور بالمعنى البيولوجي الذي بدأ يشهد (تطورا للتطور), حيث يظهر ذلك بوضوح في تعاقب انتقالات مهمة إلى (نظم تطورية) جديدة. ويستنتج الكتاب أنه في الإطار الواسع لعملية التطور التاريخية, تبدو المراحل المختلفة للتطور التقني مجرد الامتدادات الراهنة لقدرات الحياة نفسها على التعامل مع المعرفة.

يحاول الكتاب من خلاله تنوع مواده وثرائها الإلمام بكل جوانب المنظور التطوري للابتكارات التقنية, حيث يبدأ باستعراض النماذج الأساسية المعبرة عن التغير التقني, من خلال التشابه بين هذا التغير والتغير البيولوجي, وأوجه الاختلاف بينهما, ودراسة إمكانية المقارنة بين (التطور) و(التصميم), والمنتجات الصناعية كبناءات ثقافية.

وفي استعراضه لظاهرة التطور البيولوجي, يوضح الكتاب الجديد في مجال نظرية داروين, التكاثر والوراثة, أهداف الانتقاء, المواءمة, والتقدم والتناقض.

وحول نظم الوراثة لدى لامارك باعتبارها مصدرا للاستعارات والنماذج في التطور التقني, يناقش الكتاب النموذج الوراثي, اختلالات النموذج الوراثي في مجال التطور الثقافي, نظم التخلق الوراثي المتعاقب EISs, الانتقائية والتعقد, ظاهرة التطور في التغير التقني, مقولة الانتقاء في عمليات الانتقاء في نظريات التطور الثقافي.

وفي مجال الابتكارات كممارسة ثقافية, يدرس الكتاب نموذج مقارنة بين أوربا واليابان بالنسبة للتطورات والارتدادات التقنية في المجالين الزراعي والصناعي, ويستعرض الدور المؤسسي في تطوير المبتكرات من خلال المنتجات الصناعية والتعليم ومشاريع البحث والابتكار.

وهكذا يلج الكتاب مداخل عصرية جديدة للتعامل مع الابتكارات التقنية كمادة للبحث العلمي للمساهمة في اكتشاف القوانين التي تحكمها حتى يمكن بالتالي تنشيط منابع هذه الابتكارات.

 

جون زيمان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات