إن هذا التزامن قابل - بالطبع - لقراءات وتأويلات متعددة نشير منها
هنا بشكل خاص إلى قراءة المنظّر السينمائي ريمون بلور الذي يربط هذه النشأة
المتزامنة بانحدار الحقلين معا, السينما والتحليل النفسي, من جذر مشترك هو التنويم
المغناطيسي.
وما يهمّنا هنا هو الموقف الغريب لمؤسس التحليل النفسي فرويد من
السينما, بهذا الصدد ما فتئ المعنيون بالعلاقة بين السينما والتحليل النفسي يذكرون
واقعتين لهما دلالتهما من غير شك:
- أولاهما أن المنتج الأمريكي الشهير (غولدوين) صاحب شركة (متروغولدوين ماير)
اقترح على فرويد مبلغا ماليا بـ100.000 دولار مقابل إنجاز أعمال عاطفية ذات أبعاد
سيكولوجية, غير أن رد فرويد كان هو الرفض.
- والثانية أن الشركة الألمانية UFA, وهي أول شركة سينمائية كبرى تم تأسيسها في
ألمانيا اقترحت عليه إنجاز عمل سينمائي حول التحليل النفسي, ومرة أخرى كان رد فرويد
هو الرفض.
ما الأسباب التي دفعت فرويد لاتخاذ هذا الموقف السلبي تجاه الفن
السابع, علما أنه عرف بشغفه الكبير بالفن, مثلما تميز بتنظيراته الدقيقة والعميقة
سعيا إلى الإمساك بثوابت العملية الإبداعية?
إذا كنا لا نتوافر على حيثيات الرفض الأول وبواعثه الواضحة, فإن رسالة
من فرويد إلى تلميذه كارل أبراهام تبرز السبب الجوهري الكامن وراء الرفض الثاني.
يقول مؤسس التحليل النفسي في هذه الرسالة: (إن اعتراضي الرئيسي يرجع سببه إلى أنه
لايبدو لي من الممكن أن نجعل من تجريداتنا تمثلا فنيًا يحترم نفسه ولو بأقل قدر
ممكن). ولما تولى كارل أبراهام الإشراف على المشروع خاطبه فرويد قائلا: (إنني لا
أنكر أنني أفضّل أن يظل اسمي بعيدًا عن ذلك كله). وقد أنجز الفيلم سنة 1925, وقام
بإخراجه السينمائي الألماني بابست بعنوان: (غرائب النفس). وهو يعتبر أول شريط يتطرق
لقضايا تهم التحليل النفسي.
الفيلم والحلم
يعتبر المهتمون والباحثون موقف فرويد غريبا لسببين على الأقل:
- الأول أن اللقاء بين التحليل النفسي والسينما, سواء على المستوى الإبداعي أو
على مستوى الدراسات التنظيرية, قد أثمر أعمالا سينمائية غنية, خصبة, وطلائعية.
- والثاني أن هناك تشابها كبيرا بين الفيلم والحلم, بما يعني أن الفن السابع يعمل
على تفعيل اللاوعي وإخراجه سينمائيا, لكن بطريقة مغايرة لطريقة التحليل النفسي.
لذلك انطلقت التأويلات لمحاولة فهم الموقف الفرويدي من السينما:
هناك مَن فسّر الأمر بالانتماء الثقافي اليهودي لفرويد, وهو انتماء
يحضر فيه الدين بكامل ثقله, مثلما تحضر فيه الصورة بوصفها ممنوعا أو محرما خاصة إذا
سعت إلى الاقتراب من الإنسان نفسه ومن روحه.
غير أننا لا نميل إلى الأخذ بهذا الرأي, من جهة لأن الصورة والتمثلات
الفنية كانت حاضرة بكل ثقلها في حياة فرويد وثقافته الشخصية (قراءته لأعمال الرسام
الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي, وأعمال النحات الكبير مايكل أنجلو), ومن جهة
ثانية لأن ثقافة فرويد هي ثقافة مزدوجة بوصفه (يهوديا لايهوديا), وقد شكّلت هذه
الازدواجية عاملا لإخصاب فكره وتطويره بما يعني تخلصه من المحرم عوض الانصياع
الكامل له.
ويرجح الباحث السينمائي روجيه دادون في دراسة له بعنوان (اللاوعيان
المتوازيان) تفسيرا لموقف فرويد الرافض للتعامل مع السينما بوجود تنافس شديد بين
السينما والتحليل النفسي من حيث قدرتهما على التعبير والتمثل, أو من حيث قدرتهما
على إخراج اللاوعي.
ومرد هذا التنافس إلى أن التحليل النفسي يستطيع الوصول إلى عالم
اللاوعي ورموزه وخباياه عن طريق الكلمة بالأساس, بينما تبلغه السينما أساسا عن طريق
الصورة, التحليل النفسي يقترح علينا لاوعيا كلاميا, أما السينما, فهي تقترح
بالمقابل لاوعيا صوريا (نسبة إلى الصورة), وطبعا هناك بون شاسع بين الكلمة والصورة
من حيث علاقة كل منهما بالواقع, تشكّل الكلمة دوما انزياحا عن الواقع, إنها تقول
باستمرار أكثر مما تود قوله, وعبر إفراطها في القول تتجاوز الواقع نحو اللاواقع, أي
نحو الخيال.
أما في الصورة, فإن الواقع حاضر بكامل ثقله, ومن هنا مقولة (الانطباع
الواقعي) في السينما, وهي مقولة تؤكد القدرة الكبيرة للسينما على استنساخ الواقع.
وقد استغلت الأديان هذا الاختلاف لتحريم الصورة وللتحذير من مخاطرها.
أفق آخر للتأويل يتجلى من خلال التمييز بين الفيلم والحلم. فعلى عكس
الرأي السائد الذي يشبه الفيلم بالحلم, من حيث إن كلا منهما يقدم عالما من الظلال
والأشباح الحاملة لمعان ودلالات, وهو الرأي الذي شكل قاعدة للقاء بين السيميولوجيا
والتحليل النفسي, تذهب الباحثة السينمائية كلود.ن.بيكمان إلى أن العودة إلى كتاب
فرويد (تأويل الأحلام) تبرز أن فرويد يؤكد على أن الحلم عبارة عن لغز رمزي ينبغي
عدم قراءة صوره بوصفها تتابعا خطابيا. ليس الغرض من الحلم أن يروي حكاية, إنه عبارة
عن تحقيق للرغبة, تحقيق لما لا يمكن التعبير عنه قولا, ولأن فرويد, حسب بيكمان
دائما, يعتبر الحلم من سجل الهفوات والأفعال المنسية نفسها, أي أنه البروز أو
التحقق المباشر للاوعي, فهو بالتالي يندرج ضمن مستوى ما يصطلح عليه في التحليل
النفسي ب(العمليات الأولية), وهي العمليات السيكولوجية أو الرمزية المرتبطة بحياتنا
الطفلية. (هكذا لا يمكن أن يكون الحلم, طبقا لبنية اللاوعي, لا يمكن أن يكون إلا
مسألة لغة, لا مسألة خطاب). كما أن عمله, أي عمل الحلم, لا يمكن أن يتبع قوانين
الدال التي تنظم العمليات اللاواعية الأولية.
وتخلص الباحثة إلى أن كتابة الحلم تتميز بكيفية جذرية عن كل إنتاج آخر
من إنتاجات التعبير الرمزي, ومن ضمنه طبعا التعبير السينمائي. إن الصورة في السينما
تحظى بكل قيمتها الدلالية, إنها تلج المعنى العام للفيلم من خلال ما تمثله من أشياء
وموضوعات, أو من خلال المنطق الذي ينتظمها, وهذا أمر يصدق أيضا على الأفلام
الطليعية أو التجريبية التي رغم كونها تعمل على تكسير السرد وتكسير التمثل, رغم ذلك
تحافظ على معنى ودلالة الصورة.
وضمن هذا التوجه المنكر لأي علاقة بين السينما والتحليل النفسي, يندرج
موقف المفكر والطبيب النفسي فليكس غواتاري بشكل بالغ التطرف والجذرية, فهو يقر أن
المحللين ظلوا دائما حذرين من السينما, بينما كانوا منجذبين إلى أشكال تعبيرية
أخرى.
غير أن العكس ليس صحيحا, فالدعوات الموجهة من السينما إلى التحليل
النفسي كانت بلاحصر بدءا بالدعوة الموجهة إلى فرويد من قبل غولدوين. هذا اللاتبادل
ليس مرده إلى عوامل ذات صلة بالاحترام بين المجالين المعنيين, بقدر ما هو مرتبط,
أساسًا, بمسألة أن التحليل النفسي ليس قادرا على استيعاب أي شيء يذكر بشأن العمليات
اللاواعية التي تُشغِلها السينما.
الأهواء السرية
ولكن لأن التاريخ ليس ملكا لأفراد, ولا تصنعه إرادات ذاتية محضة, فإن
الأمور ما لبثت أن سارت في الاتجاه المعاكس لمشيئة فرويد. هكذا تشاء الأقدار أن
يقوم أحد أكبر السينمائيين العالميين هو (جون هوستون) بإنجاز شريط سينمائي عن فرويد
والتحليل النفسي سنة (1962) اختار له عنوان (فرويد, الأهواء السرية), ومن سخرية
التاريخ أن الذي تقمّص شخصية فرويد هو الممثل (مونتغمري كليفت), وهو شخص عصابي.
يستعيد هوستون اعتراض فرويد القاضي بعجز التمثلات الفنية عن استيعاب التجريدات
التحليلية. (كيف يكون بالإمكان إبراز أوالية الكبت على الشاشة, ان فهم هذه الأوالية
شيء, لكن تقديمها للجمهور بشكل ناجع شيء آخر). إن ما يصعب نقله إلى الشاشة هو
الاشتغال التأويلي التحليلي للمحلل, أما الأعراض والاستيهامات فإنها لا تطرح
المشاكل نفسها التي تطرحها أواليات الكبت والتحويل. وقد غدت مسألة قدرة السينما على
التعبير عن عالم الأحلام من المسائل المألوفة اليوم, خاصة بعد الصراع الذي خاضه بعض
السينمائيين لفرض هذا التوجه, فهذا السينمائي الإسباني الشهير (لويس بونويل) يقول:
(إن السينما أفضل أداة للتعبير عن عالم الأحلام, والانفعالات والغرائز (.....), إن
الفيلم يبدو بمنزلة محاكاة لاواعية للحلم).
* * *
ختامًا نشير إلى أن مسألة الإخراج السينمائي لسيكولوجيا الأعماق, أي
لخبايا النفس الإنسانية وأعماقها الدفينة, هي بحاجة إلى وقفة متأنية عند شروط
وقواعد التقنية السينمائية, ذلك أن من بين الأدوات التقنية الموظفة لتوليد تأثيرات
حلمية, أي محمّلة بالأجواء الغرائبية الخاصة بالحلم, تشير هنا بصفة خاصة إلى تقنية
(التأثير المضاعف) مع ما يرتبط بها من حلول صورة محل أخرى مما قد يترتب عليه من
سيولة تضفي على المشهد السينمائي حلة جمالية راقية. وليس غريبًا أن يكون مبتكر هذه
التقنية هو السينمائي الفرنسي الساحر (جورج ملييس) الذي حققت معه السينما نقلة
نوعية نحو عوالم الخيال والحلم والسحر, أما اليوم, ومع ظهور الصورة التركيبية, فإن
آفاقا جديدة تتفتح أمام البشرية لا يدري أحد أين تمضي بنا.
ولا يفوتنا أن نشير أيضا إلى السحر الغريب الذي يستشعره العديد من
السينمائيين تجاه التحليل النفسي, مما يجعلهم مصرّين على نقله عبر إبداعاتهم إلى
الشاشة, ولنكتف هنا باستحضار تجربة المخرج الإيطالي (بيير باولو بازوليني) الذي كتب
يقول إنه اطلع على كل مؤلفات فرويد قبل أن يبلغ السنوات العشرين من عمره. كان
بازوليني شغوفا بفرويد, شغفا دفعه إلى ممارسة نوع من (التحليل الذاتي) على غرار ما
كان يقوم به مؤسس التحليل النفسي. ومن ثمار هذه العلاقة أن أنجز بازوليني شريطا
سينمائيا بعنوان (أوديب ملكا) يحيل على الأسطورة اليونانية الشهيرة - أي أسطورة
أوديب - التي ألهمت فرويد ودفعته إلى استخلاص العقدة المعروفة باسم (عقدة أوديب)
التي تعتبر حجر الزاوية في البناء الفرويدي. فيلم (أوديب ملكا) عبارة عن سيرة ذاتية
يغوص فيها المخرج في أعماق طفولته مع الارتقاء نحو سماء الأسطورة. عن هذا الفيلم
يقول المنظّر السينمائي (دومنيك نوجيز): (من لم يشاهد هذا الفيلم عشر مرات لم
يشاهده, ومن لم يشاهده لم يشاهد أي شيء)?
هكذا يتبين أن استلهام السينما للتحليل النفسي قدم روائع سينمائية
ستظل محافظة على شموخها على مر الزمن, وهكذا يبدو أن الأمر أشبه ما يكون بمتاهة
حقيقية قد يقوم ذات يوم روائي أو سينمائي ماهر بحبك خيوطها الملأى بتناقضات ليس من
اليسير استيعابها في إطارات جامدة ضيقة ومحدودة.