مساحة ود
الجهاز
تأخر صوته وهو يصغي, تذبذبت الكلمات ببطء بين شفتيه ثم انسابت بسرعة مصحوبة بلهجة اعتذار, آسف سيدتي.. الجنين أنثى ولكن يجب أن نحمد الله على سلامة الخلقة, هذا هو المهم.
أنثى... اعترضت هذه الكلمة مسيرها نحو زمن الأمل وردتها حاملة إياها إلى زمن اليأس, أنثى إذن ستنجب بنتا للمرة السادسة, سيغضب زوجها حتما, سيثور, سيعاود لعنة الساعة التي تزوج فيها امرأة تنجب بنات فقط, تستعرض بغتة حزنه الصاعد, تحس بلومه على وجهها, ينقبض قلبها, ستلقي نفسها ثانية عند طرف نظرة حماتها المشمئزة أو عند حافة اهتزازة ضحكتها الساخرة, أو عبارات الشقاء والرثاء, ستسعى نحو حمل آخر وأمل جديد ومزيد من النفقات المادية, لقد ضحت في سبيل هذا الحمل بكل شيء, لفت حبل الضائقة المالية حول عنق ميزانية منزلها الشهرية راجية من الله أن يهبها صبيا, عسى فرحة مولده تخفف وطأة اختناقهم المادي, لكن للمرة السادسة يحرمها القدر هذه السعادة, كم تمقت ابنتها تلك, ليتها تموت, ليتها, بل ستموت ستئد ابنتها, ستحول رحمها موئدا لها, لن تدعها تخرج للحياة, وفي جسدها روح حية, ساعة خروجها من عيادة ذاك الطبيب, شرعت في تنفيذ قرارها, سلكت كل الطرق المؤدية لغايتها, استخدمت كل الوسائل, سواء أدوية من عند ذاك العطار, حبوب وعقاقير منوعة من هنا وهناك, كل هذا وبطنها يزداد انتفاخاً وتكوّراً, يوما بعد يوم, وابنتها المقيتة داخله تتحرك بتحدٍ واستمرار تحطم سلطان أدويتها, وتفتت آمالها بالخلاص منها فاستسلمت للقدر ومضت تنتظر يوم الولادة, تذكر جيدا ذلك اليوم, يوم تثاءبت ابنتها بقوة وشرعت تقرع بعنف جدران رحمها طلبا للخروج منها إلى العالم الخارجي متجاهلة أصناف الحقد والكراهية المزروعة داخل القلوب تجاهها, في ذلك اليوم توالت الساعات والدقائق ببطء, مرّت خلالها مؤلمة, تألمت حتى الدمع, تخبطت محاولة إنهاء الولادة وفي لحظة الخلاص تلألأت في عينيها دمعة خجلى, منع انسكابها زغرودة مفاجئة انطلقت من فم حماتها صبي, صبي إنه صبي, مسح طبيبها جبينه المتعرق بظهر يده وصاح بدهشة حظك رائع سيدتي, فقد أخطأ الجهاز هذه المرة, إنه صبي سيدتي مبروك, السعادة لحظتها ولدت داخل قلبها, رذاذ الغبطة طاش حولها وهام ناعماً فوقها.
الزغاريد تعالت في كل مكان, والفرح ألقى ظلاله على الجباه, مضت الأيام الأولى مبهورة بوميض الفرح, ثم أخذ ضياؤه يخبو تدريجياً كل صباح, السعادة المولودة داخل قلبها بدأ حجمها يتضاءل مع كل زيادة في حجم صبيها فسلطان تلك الأدوية لم يتحطم كليا كما اعتقدت بل تشبثت بقاياه بجسد طفلها وفرضت سيطرتها على دماغه ثم جرفته إلى سلسلة نوب غير منتهية من المظاهر المؤلمة لاسيما تلك النظرات المشوهة الحادة التي تتوغل في روحها وتنقلب في أعماقها لتذيب آخر ذرة سعادة ساكنة فيها وتثير فيها شعور اللوم والندم تتهمها وتطلب القصاص منها.
لكن الذنب ليس ذنبي, أجل ليس ذنبي, صرخت بقوة المدافع ضربت الأرض بيديها المتشنجتين.
أمي, ماذا بك! صوت بناتها يرتق أشلاء الزمن الممزق حولها, يجذب نظراتها تجاههن, يعاودون سؤالها بلهفة, أمي هل أصابك مكروه.. ماذا بك? أخي ماذا سنفعل لأجله? أجيبي? نظراتها تبتعد عنهن دون جواب, تقترب منه, عيناها تلاقي عينيه, صدقني الذنب ليس ذنبي! بل ذنب هذا الجهاز, لولاه لما حدث أي شيء, ليتهم يحطمونه, تنهض فجأة تدنو منه, تمد يدها تود احتضانه لكن جسده ينفر منها, يشتد اهتزازه نظراته تزداد حدة ونقمة, صرخة عالية مرعبة تتحرر من فمه تزحف إليها, تردها إلى الوراء, تتابع زحفها, تحاصر والده, جدته, تخترق الجدران, تحلق في الشوارع, فوق رءوس بشرها, تلج أدمغتهم, تسير بين تلافيفها, تبحث عن ذاك العكر المترسب داخل أثلامها, تحاول نزعه وإزالته بشدّة, فهم جميعا بفعل هذا العكر مذنبون أمامه.