أرقام

أرقام

المساواة: مدخل جديد

المساواة بين البشر قصة قديمة تمناها كثيرون, وأعلى شأنها الفلاسفة, وتبناها الساسة والمصلحون وناشطو حقوق الإنسان.

وقد أخذت فكرة المساواة معاني عدة تمتد من المساواة بين الأجناس, إلى المساواة بين الرجل والمرأة, والمساواة الاقتصادية والاجتماعية, وتبنت النظريات والأدبيات السياسية والدساتير والقوانين الكثير من ذلك, ولكن بقيت حقيقة تقول إنه مع كل تفاوت شاسع جديد تبرز الحاجة لإعادة النظر في معنى المساواة وحدودها وتطبيقاتها, وهذا هو الموقف الآن بين البشر, والذي تشير إليه أرقام دولية ربما تكون البداية في هذا الدرب الذي نتحدث عنه: معنى جديدا للمساواة.

يقول التاريخ

والقصة - كما قلت - قصة طويلة, وربما كانت حلقاتها الأولى هي ما مسَّ انقسام المجتمعات قديما إلى أحرار وعبيد, وكانت المساواة تعني تحرير العبيد ليكون الجميع أحراراً ومتساوين في الحقوق والواجبات, كما كانت تعني القضاء على ذلك الشكل البغيض من العلاقة بين البشر والتي سمحت بالبيع والشراء لسلعة آدمية, وأدخلت في نطاق الملكية ما يحويه أو يمتلكه ثري قادر من أنفس بشرية.

ورغم أن المعركة قديمة, وأن العبودية قد انحسرت فإن أشكالاً منها قد ظلت تعيش بيننا, أو هكذا تشير تقارير دولية عن بقية من رق, أو عن مستحدث من بيع وشراء لرقيق أبيض من النساء والأطفال.

بعدها, كانت أنواع شتى من المساواة, أو المطالبة بالمساواة, فها هي الثورة الفرنسية تتحدث عن المساواة السياسية, وها هي الكلمة والشعار يضمان كلمة المساواة إلى جوار كلمتي: (الحرية والإخاء), وهو ما تطور في التطبيق العملي ليكون الكل مشاركا في إدارة الأوطان, وليكون لكل إنسان صوت واحد ومتساو مع الآخرين في أي انتخابات أو مشاركة سياسية وهو ما يعنيه التعبير (رجل واحد.. صوت واحد) أي أنه لا ميزة للأعيان وكبار الملاك والإقطاعيين.

ثم عرف العالم نوعاً آخر من المساواة وهي المساواة بين البشر كما جاءت في مواثيق حقوق الإنسان ووجدت أفضل تعبير عنها بعد الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة (فلا تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو اللغة). بل إنه لا تفرقة أيضا بين الشعوب, فلكل شعب أن يتمتع بحقوق متساوية في السيادة والاستقلال.. إنها المساواة بين الأمم.

وقد سبق ذلك, كما تلاه في الوقت نفسه الصراع من أجل المساواة بين الرجل والمرأة, وهي المساواة التي لم تكتمل, حتى في الدول المتقدمة والتي يشهد فيها الرجل تفوقا في امتلاك الثروة, وشغل المناصب ومواقع اتخاذ القرار في المجتمع.

وربما حاولت المنظمات الدولية الانتقال من المساواة السياسية التي تجد ترجمة لها سواء في العلاقات الدولية أو في إدارة المجتمعات وشئون الأوطان من الداخل.. إلى المساواة الاقتصادية والاجتماعية.

وبينما كان مؤشر الدخل النقدي هو الفيصل في قياس نمو الأمم, وبالتالي بات تضييق الهوة وإزاحة الفقر ضمن أهداف العالم في الألفية الثالثة طبقا لما قررته قمة للأمم المتحدة.. بينما كان ذلك هو المؤشر فقد برزت مفاهيم جديدة كتلك التي طرحها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة حول التبعية البشرية ومفهوم الفقر وأنه لم يعد فقرا في الدَّخْل وإنما هو أيضا فقر في القدرات: صحة وتعليما, وجاءت أهداف الألفية الثالثة لتسير في الاتجاه نفسه وتقول إن على العالم وفي عام (2015): خفض معدلات الفقر والجوع إلى النصف في ذلك العام, وتوفير فرص التعليم الأساسي الشامل للفتيان والفتيات, وخفض معدلات وفيات الأطفال تحت سن الخامسة بنسبة الثلثين, وكذا معدل وفيات الأمهات بنسبة ثلاثة أرباع.

وهكذا تطورت فكرة إشباع الحاجات الأساسية والتي برزت في الأدبيات الدولية في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي, لتصبح أكثر شمولا من خلال فكرة التنمية البشرية التي استهدفت تقريب الفوارق وتوفير حياة إنسانية أفضل وتحقيق قدر من المساواة المادية بتحديد وتوفير ما يلزم الإنسان من سعرات حرارية ومواد غذائية وما يلزمه من تعليم أساسي وخدمة صحية ومرافق أساسية توفر المياه والصرف الصحي والمسكن اللائق.

إنها (مساواة الحد الأدنى), حاول المجتمع الدولي أن يحققها وأن يحيلها لبرامج وطنية في مختلف الأقطار.

وتقول الأرقام

نتحدث إذن عن المساواة السياسية والتي يعيبها الخلل لأسباب كثيرة, سواء كانت مساواة بين الأمم أو مساواة داخل الأمة الواحدة.

ونتحدث عن المساواة الاقتصادية, فلا نجد منها - إن نجحنا - غير (الحد الأدنى).

ونتحدث عن المساواة الاجتماعية, فنجد من التقاليد والأعراف والقيم السائدة ما يكبل الأيدي والأرجل والعقول معا.

لم يبق إذن - وكمتاح للقضية - غير الحديث عن المساواة في الفرص, وأولها: فرصة المعرفة التي تنقل الإنسان وتنقل المجتمعات من حال إلى حال.. وهي ذاتها التي تشهد الآن بوناً يزداد اتساعا, وفروقاً هائلة تنبئ عن قرن جديد مليء بالمظالم.

على رأس أدوات الاتصال, والتي توفر المعرفة: الصحيفة والكتاب قديما, والراديو والتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت والتلفون حديثا, فما هو الموقف العالمي من هذه الأدوات, وأي فرصة للحصول على هذه الخدمات باتت متاحة لشعوب الأرض?

في اليابان - وطبقاً لأرقام منظمة اليونسكو عن عام (2000) - يتمتع كل ألف من السكان بـ (578) نسخة من الصحف اليومية.. في مقابل (26) فقط في المغرب و(35) في مصر و(48) في الهند وفي مرتبة وسط تأتي الكويت التي تسجل (374) نسخة لكل ألف من السكان وبعدها تأتي دول أخرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا.

وطبقاً لأرقام البنك الدولي عن عام (2000) فإن نصيب الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية من أجهزة الراديو يفوق جهازين لكل فرد.. بينما تهبط النسبة إلى جهاز واحد لكل ثمانية أفراد في الهند.

أما التلفزيون, وهو الأكثر حداثة فلكل ألف من السكان بالولايات المتحدة (854) جهازا.. بينما يهبط الرقم في سوريا إلى (67) جهازا لكل ألف من السكان.

وتمضي المفارقات لما هو أكثر شمولاً, وهو الحاسب الآلي (الكمبيوتر) فتقف الولايات المتحدة على رأس مستخدميه حتى أن كل ألف من السكان يحوز (585) جهازا.. في مقابل (38) جهازاً فقط لكل ألف تركي وأربعة أجهزة ونصف الجهاز لكل ألف هندي.

البون شاسع, وهو ما ينعكس بالضرورة على مستخدمي (الإنترنت) في العالم والذين يسجل البنك الدولي (2002) عددهم فيقول إنهم يزيدون على خمسة وتسعين مليونا في الولايات المتحدة, ونصف ذلك في اليابان, وربعه في ألمانيا.. أما الهند والتي تضم - إلى جوار الصين - أكبر عدد من السكان في العالم فهي لا تضم أكثر من (5) ملايين مستخدم لهذه الشبكة الدولية للمعلومات.

وتمتد الأرقام لوسيلة أخرى من وسائل الاتصال وهي الهاتف (التقليدي والمحمول) فيخص كل ألف طفل من سكان الولايات المتحدة بسبعمائة هاتف و(398) محمولاً.. وتأتي في المرتبة الثانية بريطانيا وألمانيا واليابان وفرنسا وإن تفوقت الأولى (بريطانيا) فاحتلت المكان الأول في حيازة المحمول (727 هاتفاً لكل ألف شخص) وبما يجعل نسبة مستخدميه لعدد السكان تفوق النسبة التي تتمتع بها الولايات المتحدة.

وبطبيعة الحال فإن استخدام أدوات الاتصال مرهون في كثير من الأحيان بالحالة التعليمية وما يتلقاه الفرد من معرفة بالقراءة والكتابة, أو معرفة أكثر تقدما.

وطبقاً لبحث أجرته جامعة هارفارد على الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على الخامسة والعشرين كانت الولايات المتحدة على رأس الدول التي توفر سنوات تعليم لأفرادها (حوالي 12 عاما كمتوسط عام), تليها اليابان (عشر سنوات).. ولكن, وعلى الضفة الأخرى وبمعدل يقترب من ثلث السنوات التي توفرها الولايات المتحدة تأتي دول مثل: تونس, الجزائر, إيران, تركيا, الهند.

إنه نقص الفرص وعدم المساواة مرة أخرى.

فلسفة الفرصة المتساوية

هذه الفروق في فرص الحصول على المعرفة تجعلنا نعيد النظر في قضية المساواة انطلاقا من فرضين.. الأول, وكما قلت, فإنه كلما اتسعت الهوة في مجال ما طرحنا السؤال: هل من سبيل للمساواة أو تضييق الهوة سعيا لحقوق بشرية متساوية?

أما الفرض الثاني فهو أن المعرفة سبيل التقدم, وأدوات الاتصال بتنويعاتها هي الوسيلة لتحقيق معرفة أكثر وبما يحقق أنواعاً أخرى من المساواة مثل المساواة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.. وحتى مساواة الحد الأدنى التي تحدثنا عنها لا تجد سبيلها بغير معرفة أكثر, فما بالنا لو تحدثنا عن الديمقراطية (التي تحقق المساواة السياسية) أو تحدثنا عن العدالة الاجتماعية (وهي التي تحقق نوعاً من المساواة الاقتصادية والاجتماعية) أو تحدثنا عن تطور القيم والأعراف التي تحقق المساواة فيما بين الرجل والمرأة, وبين الأبيض والأسود.. بل بين سائر أنواع البشر والأمم.

الفرصة المتساوية في علم ومعرفة.. في اتصال بالعالم ومتابعة مجرياته والتفاعل مع هذه المجريات, ذلك ما ينبغي أن تسعى إليه البشرية.

وقد يؤثر في ذلك درجة النمو, وزيادة الدخل, والأوضاع الاقتصادية.. ولكن العكس أيضا صحيح فعندما يزيد الاتصال, وينتصر مجتمع المعلومات يجد الجميع طريقهم للمزيد من التقدم, إنه التأثير المتبادل بالضرورة.

السؤال: هل تتبنى البرامج الدولية والوطنية هذا المفهوم إلى جوار مفاهيم النمو, والتنمية البشرية, والحاجات الأساسية?

هل تصبح (المساواة في الفرص) هدفا رئيسياً? وهل يكون الاتصال وتكون المعرفة في مقدمة هذه الفرص?

الأرقام أعلاه تبرر ذلك, فالطريق للمساواة بكل أنواعها: مساواة في الفرص وليست مجرد مساواة في الدساتير والقوانين والوثائق المكتوبة

... ورقم

اليابان أولاً

انتشر الاعتقاد, وانتشرت الأدبيات السياسية التي تقول إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأولى في مختلف المجالات وأنها بما تحتكره من علم ومعرفة وقدرة على البحث والاختراع فإنها - أيضا - تملك المستقبل وتوزع خيراته على الآخرين, أو تحتكر هذه الخيرات.

ولكن, وطبقا لتقرير التنمية البشرية لعام (2002) الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فإن المقولة ليست صحيحة على إطلاقها.

طبقاً لهذا التقرير, وما أورده د.حسين كامل بهاء الدين وزير التربية والتعليم في مصر في كتابه الأخير (مفترق الطرق), طبقاً لهذه المصادر فإن اليابان هي الأولى في مجال براءات الاختراع وبما يزيد ثلاث مرات على المعدل الذي حققته الولايات المتحدة.

في عام 1998 كان عدد براءات الاختراع منسوبة للسكان في اليابان (994) لكل مليون من السكان.. وكان عددها (289) فقط لكل مليون من سكان الولايات المتحدة, بينما كانت النسبة (1) في المليون في كل من الهند والصين وإيران و(3) في المليون بالمملكة المغربية.

وبراءات الاختراع - مع تقدم العلوم الأساسية وتطبيقاتها التكنولوجية - تعني مساحة أكبر في مجال الإنتاج والتقدم الاقتصادي والسيطرة على الأسواق مستقبلا, فهل تحتكر اليابان هذا المستقبل?

الأرقام أيضا ترد على ذلك من خلال ما ترصده من حجم للإنفاق على الأبحاث التطبيقية والاختراعات, ففي مجال واحد هو تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ووفقاً لبيانات البنك الدولي خصصت الولايات المتحدة (812) مليار دولار عام (2001) لهذا المجال, وتلتها في الأهمية اليابان (414) مليارا.. أي نحو النصف, بينما سجل الإنفاق في ألمانيا حوالي (155) مليارا.. ولم تسجل الصين غير (6.6) مليار.

الصراع إذن دائر بين دول الشمال, وحول المقعد الأول يتصارع القطبان: اليابان والولايات المتحدة, وإن كانت الأولى - وربما بنفقات أقل - قد أحرزت سبقاً أكبر في مجال الاختراع, وبما يعطي مصداقية للمثل القائل: (الحاجة أم الاختراع), واليابان بحاجة إلى تتويج ما أنجزته بامتلاك مفاتيح التقدم.. الاختراعات وتقديم الجديد دائما.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات