جمال العربية

جمال العربية

نازك الملائكة.. رسالة إلى شاعر ناشئ

لم تعد الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة بحاجة إلى مَن يكتب عنها باعتبارها شاعرة العرب الأولى في القرن العشرين. بل إن تاريخ الشعر العربي المتطاول عبر العصور والأزمان, بخل علينا بشاعرة في حجم الخنساء وتأثيرها وتألق شاعريتها - وهي الشاعرة المخضرمة أي التي أدركت الجاهلية والإسلام معا - واستمرت صفحاته المطوية عصرا بعد عصر, تكاد تخلو من صوت المرأة العربية الشاعرة إلا من استثناءات قليلة اتسعت في القديم لليلى الأخيلية ورابعة العدوية وليلى العامرية (صاحبة مجنون بني عامر) وصولا إلى العصر الأندلسي الذي التمعت فيه أسماء حمدونة الأندلسية وحفصة الركونية وولادة بنت المستكفي, لكنهن جميعا لا يمتلكن قوام الخنساء الشعري, ولا يرتفعن إلى مستوى أفقها الشعري بالرغم من اقتصاره على بكائياتها في أخويها صخر ومعاوية - وقد اختصت صخراً بالنصيب الأوفى - ولم تقل شيئا في أبنائها الأربعة الذين استشهدوا في معركة القادسية, حتى جاءت نازك الملائكة فاعتدل الميزان, وأصبح للمرأة العربية صوتها الشعري المخترق للحجب والأستار, المفضي إلى ساحة البوح والإفضاء والمشاركة. وعزز من دور نازك الشعري وحجم تأثيره, ازدحام الساحة الشعرية بشاعرات عربيات كبيرات في حجم الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان, والشاعرة الفلسطينية - التي سكتت عن الشعر وتحوّلت إلى الدراسة الأدبية والترجمة: الدكتورة سلمى الخضراء, وأخريات في مصر, وبعض البلاد العربية الأخرى.

نازك الشاعرة معروفة للجميع, من خلال دواوينها الشهيرة الواسعة الانتشار: شظايا ورماد, وقرارة الموجة, وعاشقة الليل وشجرة القمر, ويغير ألوانه البحر, وغيرها, أما نازك الكاتبة, باحثة ومبدعة, صاحبة الأسلوب الأدبي الجميل الذي لا يقلّ عن لغتها في شعرها إرهافا ورقّة وبلاغة تعبير, نازك هذه لا يعرفها كثيرون. وليس كل الشعراء - أو الشاعرات - بقادرين على أن يكون لهم في الكتابة النثرية لغة ترقى إلى مستوى لغتهم في الإبداع الشعري, مثل هؤلاء قليلون, لعل في طليعتهم نزار قباني وسعيد عقل وصلاح عبدالصبور في المعاصرين, ومصطفى صادق الرافعي وإبراهيم عبدالقادر المازني في المحدثين!

من هنا, فإن هذا النص الأدبي الجميل - الذي أبدعته الكاتبة نازك الملائكة في صورة رسالة بعثت بها إلى شاعر عربي ناشئ أو يافع, سألها كلمة توجيه ونصح تعينه على درب القوافي - يصبح شديد الأهمية في الكشف عن الوجه الآخر لنازك, وجه الكاتبة التي يترقرق في كتاباتها النثرية ماء شاعريتها, وهما معا - شعرها ونثرها - ينتميان إلى أرومة واحدة, وتكوين ثقافي واحد, أفادت في تكوينه من تراث عربي قتلته نازك تأملا وهضما وتمثلا, وثقافة عصرية - عربية وأجنبية - اتسعت لألوان شتى من المعارف والخبرات والتجارب, وجعلت منها شاعرة القرن, فضلا عن نشأتها في بيت أدب وشعر ولغة, جميع مَن فيه يقولون الشعر ويروونه ويتمثلون به, ويجعلونه من أطايب جلساتهم وأحاديثهم ومسامراتهم, فالخال شاعر وأستاذ لغة, والأم - أم نزار الملائكة كما كانت تُسمى - شاعرة, والأخت شاعرة ومتذوقة كبيرة للشعر, والأسرة كلها حملت اسم (الملائكة) لتميّز أفرادها بالهدوء والرقة والوداعة والملائكية, فأطلق الناس عليها هذه التسمية التي أبطلت الاسم الأصلي وحجبته تماما.

ونازك - الشاعرة الكبيرة والمثقفة الواعية والأستاذة المقتدرة - لا تبخل على من سألها بكل ما تمتلكه من خبرة ومعرفة. فهي تستوقفه لتطلعه على معنى الجمال في اللغة وصولا إلى الجمال في الشعر, ومعنى أن يكون شاعرا, فالشاعر طائر الجمال في هذا الوجود, والوظيفة الخيّرة التي لابد أن يؤديها الشعر إلى الحياة والكون, والفرق بين رسالة كل من الشاعر والواعظ, فالشاعر - كما تقول نازك - لا يعظ بل يغني, ولا يدعو إلى شيء وإنما ينفعل ويحيا ويتدفق, وهي تطلع الشاعر الناشئ أيضا على حقيقة أن الشعر معاناة روحية موصولة يصحب فيها الشاعر ذاته ويعيش متفتح النفس بحيث ينبض قلبه مع الطبيعة والحياة بكل ما فيها من عمق ومعنى. ثم لابد أن تكون نظرة الشاعر إلى نفسه طبقا لمقياس شعري عال كل العلو يقتضيه الوصول إليه دأبا وسهرا قد يستمر العمر كله. هذا المقياس العالي سيحميه من الغرور, ويمنعه من الاندفاع إلى الرد على كل ناقد يقول كلمة حق في شعره يشير فيها إلى ضعف أو تصحيح خطأ. كما أن هذا المقياس الشعري العالي يجعله زاهدا في نشر شعره الأول حتى تنصرم السنوات وتنضج شاعريته. ولا يفوت نازك الملائكة أن تنبّه الشاعر الناشئ الذي يسألها النصح والتوجيه إلى ضرورة أن يدرس العروض الشعري, وأن يعلم أن الشعر الحرّ ليس إلا أسلوباً مستحدثاً يرتكز إلى التفعيلات العربية وإلى الشطر وقواعد التدوير والزحاف والعلل والضروب. وأن هذا الشعر الحر لا يهدف إلى القضاء على أسلوب الشطرين - أي الأسلوب الذي جاء عليه الشعر العربي - وإنما هو أسلوب مكمّل له فيه استرسال وانطلاق يجعله ملائما لموضوعات عصرنا. ومن ثم فإن الاقتصار عليه ونبذ نظام الشطرين - هو في رأي نازك - يحدّ من آفاق الشاعر المعاصر, فلا يخدمه كما يرجو وإنما يسيء إليه. ولا تبخل على من يسألها بتحذير قاطع: (الشعر الحر ميدان الشاعر الناضج, فحذار أن تبدأ به حياتك الشعرية. إن المزالق تنتظرك في دروبه, فاحرص على أن تمتلك ناصية أسلوب الشطرين امتلاكا تاما قبل أن تجازف بنظم قصيدة حرة واحدة).

* * *

والآن إلى هذه السطور من رسالة نازك الملائكة, نقرؤها - ونحن ندعو لها بالشفاء من غيبوبة المرض العضال التي تعيشها في سنواتها الأخيرة.

تقول نازك:

(أيها الشاعر اليافع:

أنت يا شاعر طائر الجمال في هذا الوجود, تبحث عنه في الطبيعة بما تصوّره في شعرك من مظاهرها ودلالاتها وأسرارها, وتبحث عنه في النفوس بما يأسرك من صفائها وعمقها وجدّها وحالاتها النفسية وتناقضاتها وأهوائها. وتبحث عنه في المواقف, في صدر البطولة والفداء والتضحية, في حنان الأمومة وسخاء البذل العاطفي, في نبل التعاون وكرامة الصدق وعظمة الصمود وروعة الصبر وجمال العدل. إن الجمال يأسر روحك حيثما وجدته فتتغنى به, وتحتشد له في شعرك الصور المنغومة والأجواء الموحية. ومن حق هذا الجمال عليك أن تخلص له. فإذا فعلت تفتحت أمام بصيرتك قوى مذهلة تزيد شاعريتك قوة واقتدارا. وسرعان ما سيتكشف لك القانون الأعظم في حياتك وحياة الإنسانية وهو أن الأخلاق أعلى صور الجمال في الخليقة. وإنما الفرق بين الاثنين ظاهري وحسب. أما الجمال فهو شيء محسوس يدركه البصر, وأما الأخلاق فهي الجمال المعنوي الذي لا يرى, وإنما تتحسسه النفس المرهفة ويدركه العقل. ولذلك كان إدراك الجمال المحسوس أيسر على الأغلبية من إدراك الجمال الأخلاقي. وأما أنت يا شاعر فقد وهبك الله قدرة الرؤية, فأنت تلمح الخافي والمبهم والبعيد. ومن ثمّ وقعت عليك رسالة البيان والتعبير والكشف, تلين بها النفوس الغليظة وتكشف الحجب عن العيون التي تنظر ولا ترى, وتبذر في القلوب والعقول بذور الخير والمحبة والعمل والقوة.

ولابد لك, عند هذا المفرق, أن تلاحظ أن رسالتك لا تشبه رسالة الواعظ إطلاقا, لأن هذا يدعو إلى الأخلاق دعوة صريحة بالترغيب والترهيب والبرهان والمثل. وأما أنت فشاعر لا تعظ بل تغني, ولا تدعو إلى شيء وإنما تنفعل وتحيا وتتدفق. إن وسيلتك هي الصور الأخاذة والرموز الموحية واللغة الشفافة التي تكشف بالظلال والألوان أكثر مما تكشف بالكلمات, ومواعظك الموسيقية الملوّنة لا تؤدي مغزاها صريحا وإنما تمنحه للقارئ المرهف الذي يلتقطها من إيحاء القصائد وجوّها, وبسبب هذا ينبغي لك أن تتعلم كيف ترقى إلى مستوى التعبير عمّا تنبض به ذاتك الصامتة العميقة في ساعات الكشف والمعاناة دون أي التفات إلى السامع أو القارئ أو المجتمع. إن الشاعر القومي الأعظم هو الذي يعبّر عن نفسه فيجيء شعره معبرا عن قومه جميعا, وعن الإنسانية نفسها. ففي أعماق النفس المتخلّقة الصادقة تمحى الحدود بين الفرد والمجتمع ويصبح الواحد كُلاّ, والكلّ واحدا.

واعلم أيها الشاعر الناشئ, أن الشعر معاناة روحية موصولة يصحب فيها الشاعر ذاته, ويعيش متفتح النفس بحيث ينبض قلبه مع الطبيعة والحياة بكل ما فيهما من عمق ومعنى. ومثل هذه المعاناة الخصبة لا تستطيع أن تعيش في الضجيج, وإنما لابد لها من الصمت والعزلة والفراغ, لكي تنبثق ورودها وينضج عطرها. ولذلك تحتاج إلى أن تتيح لنفسك شيئا من انفراد تستسلم فيه إلى التأمل وحياة الفكر, واحتشاد الشعور).

(ننتقل إلى الحديث عن نظرتك إلى شاعريتك, وهي النظرة التي تساعدك في حياتك الشعرية. والقاعدة الذهبية التي ينبغي أن تتمسك بها هي أن تضع لنفسك مقياسا شعريا عاليا كل العلو بحيث يقتضيك الوصول إليه دأبا وسهرا قد يستمر العمر كله. فكلما ارتفع مستوى شاعريتك أحسستها مازالت دون ذلك المقياس, واندفعت تلتمس الوسائل للارتفاع. وبذلك تستمر في الصعود إلى أعلى خطوة خطوة. فإذا التزمت هذه القاعدة كانت لك نتائج ثلاث خطيرة ذات تأثير كبير في نموّ شاعريتك وسمعتك, وأنا أدرج هذه النتائج ليتاح لك تأملها.

أولا: هذا المقياس العالي سيحميك من الغرور الذي هو الصفة الشائعة في أوساط الشعراء الضعفاء. فكلما أعجبتك قصيدة لك تذكرت مدى بعدك عن مقياس الجودة فارتددت إلى التواضع والتقويم السليم لنقص شعرك. وبذلك تتهيأ للارتفاع خطوة في قصيدتك التالية.

ثانيا: سيمنعك مقياسك العالي من أن تندفع إلى الرد على كل ناقد يقول كلمة حق في شعرك, يشير فيها إلى ضعف أو يصحح خطأ, فإن هذه خصلة شاعت اليوم في صفوف زملائك الناشئين, فتجد الواحد منهم يترّبص بالصحف, فما يكاد ناقد يكتب توجيها له, حتى يدبّج مقالا فضفاضا يبرز فيه معايبه بالحق والباطل. وقد يهاجم الناقد ويشكك في نزاهته, ومثل هذا المسلك من الناشئ يدل على الغرور والطغيان معا.

ثالثا: والنتيجة الثالثة لعلوّ مقياسك هي أنك ستجد نفسك زاهدا في نشر شعرك الأول وبخاصة في مجموعة شعرية مستقلة. لأنك تخشى أن تنصرم السنوات وتنضج شاعريتك, فتقدم على مجموعتك الأولى وتراها مزرية بك).

ثم تنتقل نازك الملائكة - في رسالتها الأدبية الجميلة - إلى موضوع الشعر الحر فتقول: (ولا أظنك أيها الشاعر الناشئ إلا سائلا عن الشعر الحر وما تتخذه من موقف إزاءه. فاعلم أن هذا الشعر الجيد ليس إلا أسلوبا استحدثناه في وصف أجزاء عشرة من أوزاننا العربية. فهو يرتكز إلى التفعيلات العربية وإلى الشطر وقواعد التدوير والزحاف والعلل والضروب, وسواها مما تجد في عروضنا. ومن زعم لك أن هذا الشعر ليس موزونا فهو لا يخلو أن يكون أحد ثلاثة: إما مكابرا ينكر وجود الوزن وهو يدري أنه موجود, وإما جاهلا بالعروض العربي, وإما واهما لا يميز بين الشعر الحر الموزون والنثر المسمى خطأ بقصيدة النثر. وفي كل الحالات تستطيع أن تفحم هذا الزعم بمجرد أن تتناول قلما وورقة وتقطع الشعر الحر إلى التفاعيل العربية الدارجة على طريقتنا المعروفة.

ماذا يكون - إذن - موقفك من الشعر الحر وأنت تقف على أولى درجات الشعر متحمسا مخلصا راغبا في أن تجمع بين التجديد المعاصر وروح الوزن العربي? عليك أن تتذكر أولا أن الشعر الحر - في صورته المثلى - لا يهدف إلى القضاء على أسلوب الشطرين وإنما هو أسلوب مكمل له, فيه استرسال وانطلاق يجعله ملائما لموضوعات عصرنا, ومن ثم فإن الاقتصار عليه ونبذ الشطرين قد يحدّ من آفاق الشاعر المعاصر فلا يخدمه كما يرجو وإنما يسيء إليه.

إن الشعر الحر سيساعدك على التعبير عن موضوعات العصر ويمنحك الروح المعاصرة, ذلك لأن اختلاف أطوال الأشطر بين مسترسل ومتوسط وقصير يساعد على تلوين العبارات ومنحها الحياة. وليس يخفى عليك أن العبارة في شعر الشطرين لابد أن تنتهي في آخر البيت, فهي على ذلك محددة الطول, في حين أن الشعر الحر قد حطم استقلال البيت تحطيما تاما وجعل الشطر يفضي إلى ما بعده, وبذلك يمكن أن تمتد العبارة بمقدار ما يرغب الشاعر, ولسوف يساعدك هذا على الاسترسال حين تشاء).

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات