من الخنساء إلى الخنساوات

من الخنساء إلى الخنساوات

اطلعت في العدد (531) فبراير 2003 على منتدى الحوار تحت عنوان (لماذا لم تبك الخنساء أولادها?) بقلم الدكتورة رجاء بنت محمد عودة. شدني مقالها, ووجدت من واجبي أن أقدم بعض التعليق عليه نظرا لما تحتويه قيمة الخنساء أدبيًا ودينيًا, وثانيًا عودة شخصيتها في الكثير من الأمهات في الأراضي المحتلة.

وقبل الدخول في الحديث أقدم موجزا صغيرا عن حياة هذه الشاعرة الجليلة, وهي كما ذكرت أكثر المصادر أنها تماضر بنت عمر بن الشريد السُلمية, تزوجت برواحة بن عبدالعزى السلُمي فولدت له عبدالله المعروف بأبي شجرة واقترنت ثانية بمرداس بن أبي عامر السُلمي فولدت منه زيدا ومعاوية وعمر.

كان لها أخوان معاوية الشقيق وصخر من أبيها وكان الأحب إلى قلبها والأقرب إلى عقلها, وقد كان شريف بني سُليم خرج غازيا فقاتل قتالا كبيرا فأصيب بجرح بالغ من جراء هذا الغزو فمات به وكذلك شقيقها معاوية, فبكتهما الخنساء بكاء مرا, خاصة صخر الذي اشتهر بكرم اليد والعطف حتى سيطر على عاطفتها وأصبح محور همها وحزنها وكل شيء يذكرها به حتى بدت الشمس هي كأنها صخر كقولها في شعرها:

يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل غروب شمس


وقد بلغ هول حزنها عليه يوم مقتله أنه لولا كثرة الباكين على إخوانهم لقتلت نفسها:

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي


لقد كانت لديها عاطفة قوية تجاه أخيها لا توصف, سيطرت عليها فبات كل شيء فيه خيرا أو كرما أو رجولة أو فروسية يتمثل في صخر كقولها:

وإن صخرا لمقدام, إذا ركبوا وإن صخرا إذا جاعوا لعقارُ
وإن صخرا لتأتمُ الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نارُ
جلد جميل المحيا, كاملٌ, ورعٌ وللحروب غداة الروع مسعارُ
حمال ألوية هباطُ أودية شهادُ أندية للجيش جرارُ


تلك كانت قمة في المبالغة صعب أن تجدها عند أي شاعر, حتى أولئك الذين اشتهروا بالمديح فكلهم كانت لهم غاية سلطة أو مال أو خوف إلا هي غايتها التذكر والتحسر على رجل كما صخر لن يعود لها وهذه العاطفة وقوتها وسلاسة الوصف فيها والحزن العميق المرافق لها, لم تفعله حين علمت باستشهاد أولادها الأربعة في معركة القادسية بالرغم من أنها دخلت الإسلام في أواخر عمرها, لكن حسُن إسلامها وصقل شخصيتها القوية وزادها قوة وبصيرة, فصارت تبكي أخويها لأنهما في النار لا الجنة, وخرجا لغزو لا لإعلاء كلمة الله بينما حين وصلها نبأ أبنائها الأربعة قالت: (الحمدلله الذي شرفني باستشهادهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).

وإني لأندهش حين تذكر بعض المصادر أنها قالت الحمد لله الذي شرفني بقتلهم هل هذا صحيح? هل هم كانوا في مجموعة قطاع طرق أم في جيش إسلامي في ذروة الفتح الإسلامي في عهد الخليفة الفاروق? هل الخنساء التي وسع أدبها ووجه الإسلام شخصها لا تستطيع أن تميز بين القتل والشهادة والهوة التي بينهما بالمعنى والتفسير بما تحتويه كلمة الشهادة من معان كبيرة وعميقة.

وقد ذكرت د.رجاء أنه حين استشهاد أولادها كانت قد أنهكتها الشيخوخة وأضحت في أمس الحاجة إلى من يرعاها وهي تدب العصا, وأظن أنه لولا وعيها الإسلامي وقوة دينها لوقفت مانعة في إرسال أولادها الأربعة ونصحتهم بالابتعاد عن تلك المعركة وهي بنت الحرب وتعلم علم اليقين أن الذي يخرج للحرب يعود أو لا يعود. أما تفسير بنت الشاطئ لإرسال أولادها فقد جاء لامتثالها لأوامر الإسلام ونواهيه.

وأنا موقنة لو أن الله أمد في عمر شاعرتنا - وشاهدت ماذا فعلت نساء الجنوب اللبناني, وكيف أنهن قدمن الأخ والزوج والابن مقابل الحفاظ على الدين والأرض, ولو تأملت أكثر ماذا يحدث في فلسطين هذه الأيام وإنجابها لخنساوات العصر الحديث وكيف أنهن يودعن أولادهن وكأنهم في حفل زفاف يتقبلن بهم التهاني ويعايرن من ليست بأم شهيد - لكانت غيرت شاعرتنا الكثير من رأيها. والغريب أن تلك الأرض التي تنجب الخنساوات هي ذاتها الأرض التي فتحها وزارها عمر, وكأنه رمى بذور الشهادة فيها. لكن هناك فرق واحد, وكبير, بينهما وهو أن الخنساء كانت في زمن الفتوحات الإسلامية, وهن الآن (نساء فلسطين) في زمن آخر.

ندى أحمد الخطاب
قابس - تونس