الفكر اليوناني والثقافة العربية ديمتري جوتاس ترجمة: د. نقولا زيادة / عرض: د. عادل زيتون

الفكر اليوناني والثقافة العربية

لا يختلف المتخصصون في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية على أهمية الدور الذي أسهمت به الحضارات الأخرى في بناء الحضارة العربية مثل الحضارة اليونانية (الإغريقية) والفارسية والهندية وغيرها من الحضارات التي اتصل بها العرب والمسلمون.

لم يقتصر إسهام تلك الحضارات على ميدان واحد من الميادين, وإنما امتد ليشمل معظم حقول العلم والمعرفة, خاصة: الفلسفة والطب والرياضيات والهندسة والفلك والجغرافيا وغيرها. ومع اعترافنا بأهمية ما أفادته الحضارة العربية الإسلامية من حضارتي فارس والهند, فإن تأثير الحضارة اليونانية في الفكر العربي الإسلامي كان أكثر تنوعًا وأعمق أثرًا. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي بين أيدينا (الفكر اليوناني والثقافة العربية) لمؤلفه ديمتري جوتاس, أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة ييل بالولايات المتحدة الأمريكية, والذي نقله إلى العربية الأستاذ الدكتور نقولا زيادة أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت.

وينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين فضلاً عن تمهيد ومقدمة استهل بهما المؤلف كتابه, هذا بالإضافة إلى مقدمة المعرِّب. ففي المقدمة طرح المؤلف أبعاد موضوعه, وبين أن حركة الترجمة التي بدأت مع اعتلاء العباسيين الخلافة لم تكن مرتبطة باهتمامات شخصية وإنما كانت سياسة للدولة, واحتضنها المجتمع العباسي بجميع فئاته, من خلفاء وأمراء ووزراء, وأنفقت عليها الدولة أموالاً طائلة. ويؤكد الباحث أمرًا بالغ الأهمية وهو أن انطلاق حركة الترجمة ورعايتها واستمرارها, كان استجابة لحاجات المجتمع العباسي, الاجتماعية والتاريخية. ولهذا يرى أن (عصر الترجمة) في العصر العباسي, يقف على قدم المساواة في الأهمية مع عصر أثينا أيام بركليس, ومع عصر النهضة الإيطالية, والثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.

أما القسم الأول من الكتاب, وهو بعنوان: (الترجمة والدولة) فقد توزع بدوره إلى أربعة فصول, الأول منها جاء تحت عنوان (خلفية حركة الترجمة: المصادر المادية والبشرية والثقافية), وتناول فيه الباحث الفتوحات العربية الإسلامية وما ترتب عليها من نتائج تاريخية وثقافية واقتصادية والتي شكَّلت بدورها خلفيَّة لحركة الترجمة. فقد فتح العرب المسلمون المنطقة الممتدة ما بين أواسط آسيا وشبه القارة الهندية شرقًا إلى إسبانيا وجبال البرانس غربًا, وقد جعلت هذه الفتوحات مراكز الحضارة القديمة, وهي فارس وبلاد الرافدين والشام ومصر, هي نفسها قلب الحضارة العربية الإسلامية, كما وحدت هذه الفتوحات مصر ومنطقة الهلال الخصيب مع فارس والهند سياسيًا وإداريًا واقتصاديًا, أي لم يعد دجلة والفرات حدًا يفصل الشرق عن الغرب وإنما انتقلت التجارة والصناعة والزراعة والتقنيات والآراء والأفكار بينهما بحرية كاملة.

من دمشق إلى بغداد

ويتساءل الباحث: ما موقف الجماعات المسيحية الناطقة باليونانية في الشام من العلوم اليونانية الكلاسيكية? ويجيب عن ذلك بقوله إن موقفها يعكس موقف الدولة البيزنطية وهو اللامبالاة بهذه العلوم (الوثنية) ولهذا فقد كان من المستحيل قيام حركة ترجمة للتراث العلماني اليوناني إلى العربية في الشام بين المسيحيين الناطقين بالعربية, ولا سيما أنه لم يكن هناك تشجيع من طرف الأمويين في الشام لمثل هذه الحركة. وبعبارة أخرى يؤكد المؤلف أنه لولا قيام الدولة العباسية وانتقال العاصمة من دمشق إلى بغداد لما قامت حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية في بغداد, ويبرهن على رأيه هذا بالقول إنه مع قيام الدولة العباسية في بغداد تبدلت التوجهات الثقافية التي كانت سائدة أيام الأمويين, لأن بغداد, بخلاف دمشق, كانت بعيدة عن التأثيرات الثقافية البيزنطية. كما كان المجتمع العباسي في بغداد مجتمعًا متعدد الثقافات نتيجة التنوع الديموجرافي فيها, حيث كان يعيش فيها مسيحيون ويهود وفرس وعرب. وقد أسهم هؤلاء جميعًا في إثراء الحضارة العربية الإسلامية. ويقول الباحث إن العباسيين كانوا مضطرين إلى الاعتماد على الفرس والعرب المسيحيين والآراميين المحليين في إدارة دولتهم, كما كان أسلافهم بنو أمية مضطرين إلى الاعتماد على البيزنطيين المحليين والعرب المسيحيين لإدارة مؤسساتهم. ولكن ثقافة الذين عملوا في خدمة العباسيين كانت ثقافة (هيلينية), دون أن يرافقها عداء للعلم اليوناني (الوثني), في حين كان العداء لهذا العلم اليوناني واضحًا أشد الوضوح في ثقافة المسيحيين الذين عملوا في خدمة بني أمية في دمشق. ويخلص الباحث إلى القول إن نقل العاصمة من منطقة ناطقة باليونانية إلى منطقة لا تستعمل اليونانية أسهم في الحفاظ على التراث اليوناني الكلاسيكي الذي كاد البيزنطيون يمحونه.

مشروعات الترجمة قبل الإسلام

ثم يناقش الباحث (فعاليات الترجمة في فترة ما قبل العباسيين) ويشير في هذا الصدد إلى الجهود التي بذلها سرجيوس الرأسعيني وخلفاؤه في الترجمة من اليونانية إلى السريانية, ولكنه يؤكد أن مشروعات الترجمة في الشام وبلاد الرافدين, قبل الإسلام, لم يكتب لها النجاح, لأنها لم تتلق دعمًا اجتماعيًا وسياسيًا وعلميًا واقتصاديًا من المجتمعات القائمة آنذاك. أما الترجمة من اليونانية إلى العربية التي تمت في العصر الأموي فيصفها الباحث بأنها كانت في مجملها فردية وعشوائية واقتصرت في معظمها على الوثائق الإدارية والسياسية والتجارية وبالتالي لم تكن لها نتائج تاريخية واجتماعية وثقافية عميقة الأثر.

كما تناول الباحث في هذا الفصل الترجمة التي تمت من التراث الهندي وبيَّن أن معظم العلوم الهندية قد وصلت إلى العربية عبر اللغة الفارسية (الفهلوية) وما تم ترجمته من السنسكريتية إلى العربية مباشرة قد اقتصر على بعض النصوص الفلكية إلا أنها كانت بالغة الأهمية في تطور علم الفلك أيام العباسيين. ثم يدرس الباحث حركة الترجمة من الفارسية إلى العربية ولكنه يمهِّد لها بالحديث عن ترجمة العلوم اليونانية إلى الفارسية قبل الإسلام, والتي بلغت ذروتها في أيام كسرى آنوشروان الذي استقبل الفلاسفة اليونان الفارين من بلاد الروم بعد أن أغلق جستنيان مدرسة أثينا الفلسفية عام 529م. ويؤكد أن العلوم اليونانية التي نُقلت إلى الفارسية كانت لها أهميتها بالنسبة إلى الثقافة الفارسية, في حين أن ما نُقل من التراث اليوناني إلى العربية عبر الفارسية لم يكن له كبير الأهمية بالنسبة إلى الثقافة العربية.

وعالج الباحث في الفصل الثاني وهو بعنوان (المنصور: الأيديولوجية الإمبراطورية العباسية المبكرة وحركة الترجمة), مسألة ارتباط حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية بأيديولوجية الدولة العباسية نفسها. ويقول الباحث إن الخليفة المنصور وابنه المهدي هما اللذان وضعا المنهج السليم للترجمة من اليونانية إلى العربية, وذلك لارتباطها في تلك الفترة المبكرة من العصر العباسي بأيديولوجية الدولة, فقد كان أبو جعفر المنصور يسعى إلى التسوية أو التوفيق بين المطامح المختلفة للفئات التي اشتركت في قيام الثورة العباسية, فإلى جانب التسوية السياسية بين هذه الفئات فقد كان ينبغي عليه إيجاد تسوية أيديولوجية, أي كان عليه أن يبحث عن شرعية حكم الأسرة العباسية في عيون الأحزاب المختلفة, ولم يجد سبيلا إلى ذلك سوى توسيع أيديولوجية الدولة من خلال طرح الرأي القائل إن الأسرة العباسية متحدرة من الأسرة النبوية, (وفي هذا إرضاء للسنة والشيعة), وهي في الوقت نفسه خليفة الأسر الإمبراطورية التي قامت في بلاد الرافدين وإيران, من البابليين إلى الساسانيين. وبذلك دمج العباسيون الثقافة السائدة إلى الشرق من العراق مع المجرى الرئيسي للثقافة العباسية.

وفي ضوء ذلك يرى الباحث أن المنصور كان أول من بدأ حركة الترجمة, حيث تُرجم له كتاب (كليلة ودمنة) و(السند هند) وكتب أرسطو وبطليموس وإقليدس الفلسفية. ويؤكد الباحث أن رعاية المنصور لحركة الترجمة في هذه المرحلة المبكرة لم تتم مصادفة أو بصورة عشوائية, وإنما ارتبطت ارتباطا وثيقا برغبة المنصور في تشجيع العلوم عامة, والتنجيم بصفة خاصة, وذلك لارتباط هذا العلم الأخير بالأهداف السياسية للدولة العباسية الناشئة.

الخليفة المهدي...وأرسطو

وتحت عنوان: (المهدي والحوار الاجتماعي والديني وحركة الترجمة), عالج المؤلف جملة من القضايا المهمة وأولها الأسباب التي دفعت الخليفة العباسي المهدي بن أبي جعفر المنصور إلى طلب ترجمة كتاب (المقولات) لأرسطو إلى اللغة العربية. ويرى أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى محتويات هذا الكتاب نفسه وصلتها الوثيقة بواقع المجتمع العربي الإسلامي آنذاك. ويقول الباحث إن الخليفة المهدي لم يكن معنيًا بالكتاب بسبب مكانة هذا الكتاب في الدراسات المنطقية اليونانية, وإنما لأنه يعلِّم فن الجدل والمناقشة على أسس منطقية ويزوِّد الفرد بقواعد المناقشة بين خصمين, السائل والمجيب له. ويتساءل الباحث إذا كانت هذه طبيعة كتاب (المقولات) فما حاجة الخليفة المهدي إلى مثل هذا الكتاب? ويجيب عن ذلك بقوله إن المهدي تعرَّض لمحاورين أقوياء, فقد انتشرت (الفرق المانوية) المختلفة وغيرها من أشكال الزندقة في أرجاء البلاد, وهي تمثل نوعًا من النزعات (الإحيائية الفارسية), وكان لها من يؤيدها في إدارات الدولة العباسية, كما كان المسيحيون واليهود خصومًا من الناحية الفكرية لاسيما أنهم كانوا يملكون خبرة في الحوار بين الأديان. وبالتالي فقد كانت الحاجة ماسة, في مثل هذا الجو, إلى (دليل) بالعربية لتعليم فن الحوار والمجادلة, ولهذا نُصح المهدي من قبل مستشاريه بترجمة كتاب (المقولات) لأرسطو. ويؤكد الباحث أن الخليفة المهدي قد قرأ الكتاب بعناية وأتيحت له فرص تطبيقه, وبالتالي كان أول مسلم يدافع عن الإسلام في حوار مع بطريرك النساطرة الذي يبدو أنه هو نفسه الذي عهد إليه المهدي بترجمة كتاب (المقولات). ولكن على الرغم من أهمية ميول الخلفاء الشخصية فإنها لم تكن ذات أهمية كبيرة في حركة الترجمة ككل, وإنما لها علاقة وثيقة بطبيعة المادة المترجمة.

ويتوقف الباحث مطولاً عند حركة الترجمة التي تمت في عهد الخليفة المأمون ويربطها ربطًا وثيقًا بالمشكلات العديدة التي واجهته منذ اعتلاء الخلافة في بغداد, لا سيما مشكلة (شرعية الأسرة) التي سبق للخليفة المنصور أن حلها على أساس سياسة الاحتواء والتكيف وقبول أيديولوجيات الفئات المختلفة للحصول على تأييدها, ولكنه يؤكد, في الوقت نفسه, أن الظروف أيام المنصور اختلفت عما آلت إليه أيام المأمون اختلافًا دراميًا.

ويكشف الباحث أن المأمون كان حريصًا أشد الحرص على أن يكون هو صاحب القرار الفصل لا في شئون السياسة فحسب وإنما في شئون العقيدة أيضا, لا سيما أن عددًا من العلماء الذين ظهروا في أيامه اعتبروا أنفسهم هم المفسرين للإسلام, وبالتالي حاولوا انتزاع النفوذ من السلطات المركزية. ولكن المأمون لم يكن مستعدًا لإخضاع سلطة الخلافة لأي كان انطلاقًا من المبدأ القائل (الدين والملك توأمان). ولهذا يرى الباحث أن (المحنة) كانت محاولة لاستعادة السلطة المركزية إلى الخلافة. ولكي يضمن المأمون نجاح جهوده هذه بل وحصرها في شخصه, قام بحملة دعائية ارتكزت على دعامتين, الأولى أنه هو بالذات حامي الإسلام, والأخرى أن يكون هو المرجع الأخير في التفسير الصحيح للإسلام. ومن أجل تحقيق الهدف الأول أعلن الحرب ضد البيزنطيين, ولتحقيق الهدف الثاني, انتزع من علماء الدين, تفسير النصوص الدينية وجعلها بين فئة متميزة يكون لها إلى جانبه الأمر في شئون الدين, أي إقامة أرستقراطية دينية إلى جانب الأرستقراطية السياسية.

المأمون يحارب جهل البيزنطيين

ويؤكد الباحث أن السياسة الداخلية التي انتهجها المأمون ارتبطت بالسياسة الخارجية. فالحرب التي أعلنها ضد البيزنطيين كانت تقوم على أيديولوجية مفادها أن البيزنطيين ليسوا (كفرة) فحسب, وإنما لأنهم (جهلة) ثقافيًا, لا بالنسبة إلى المسلمين فحسب, وإنما بالنسبة إلى أجدادهم اليونان القدماء أيضًا, وبالتالي فالمسلمون ليسوا أرفع مقامًا من البيزنطيين بسبب الإسلام فحسب, وإنما لأنهم ترجموا كتب الفلسفة والعلوم اليونانية القديمة إلى العربية. وفي الوقت الذي قلب فيه البيزنطيون ظهر المجن للعلوم القديمة بسبب المسيحية فقد تقبلها المسلمون بسبب الإسلام, لأن حركة الترجمة زوَّدت المسلمين بأدوات أيديولوجية لقتال البيزنطيين. ومن هنا كانت أيديولوجية المأمون الجديدة ضد بيزنطة, تقوم على أساس أن الدولة الإسلامية هي الوريثة الحقيقية لعلوم اليونان. أما بيزنطة فهي الخصم السياسي للدولة الإسلامية, فهي ميتة ثقافيًا وبالتالي لم يبق إلا أن تُزال سياسيًا أيضًا. ثم يناقش ارتباط (السياسة الداخلية بحركة الترجمة), ويقول إن التوجه الأيديولوجي الجديد الذي تبناه المأمون بعد عودته إلى بغداد اقتضى أن يتحكم هو في النقاش الديني في العاصمة ومن ثم في العالم الإسلامي من ناحية, وأن يتبنى نخبة من أهل الفكر يمكنها أن تدفع بهذا النقاش إلى مسارات مقبولة من ناحية أخرى. ثم يناقش الباحث مسألة (الحلم الأرسطي) أي رؤية المأمون للفيلسوف اليوناني أرسطو في الحلم, والحوار الذي دار بينهما, ويقول الباحث إن هذا الحلم كان من صنع الدوائر المحيطة بالمأمون لأنه يؤيد البرنامج السياسي والأيديولوجي للمأمون وأجوبة أرسطو تتفق مع موقف المأمون المؤيد للمعتزلة, كما لا يستبعد الباحث أن يكون مؤيدو حركة الترجمة قد أسهموا هم بدورهم في اختراع هذا الحلم.

الترجمة لخدمة (التربية المهنية)

جاء القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان (الترجمة والمجتمع), وفيه تناول الباحث دور الترجمة في خدمة المعرفة التطبيقية, حيث رصد الميادين العملية لحركة الترجمة, أي الحاجات العملية للمجتمع العباسي التي جاءت الترجمة لتلبيتها, ولاسيما أن التطورات في المجتمع العباسي السياسية والأيديولوجية اقتضت الإفادة من العلوم التطبيقية وبخاصة التنجيم وما يتصل به من معارف وعلوم مثل الفلك والرياضيات. ويقول إن الترجمة في ميدان التنجيم قد بدأت من الفارسية, ومن ثم من اليونانية إلى العربية, وكانت قد تمت تحت حماية الخليفة وشكَّلت جزءًا من سياسة الدولة. ثم يتحدث الباحث عن ضرورة الترجمة من أجل (التربية المهنية) أي أن الحاجة إلى إدارة الدولة اقتضت تدريب فئة من الكتاب الذين سيعهد إليهم إدارة الدولة التي ورثها العباسيون. وكان التدريب يتم على ميادين كثيرة منها: مسح الأراضي والمحاسبة والحساب والهندسة والفلك والمثلثات, ولهذا استقطبت هذه العلوم جميعًا نشاط المترجمين لوضع المادة العلمية اللازمة لهؤلاء المتدربين. ثم ينتقل الباحث للحديث عن الحاجة العلمية والمعرفية النظرية التي تطلبت الترجمة, ويقول إن الحاجة العلمية تكمل الحاجة الأيديولوجية للدولة, ويبين أن مشكلات علمية متعددة واجهت الباحثين العرب المسلمين وكان يقتضي حلها العودة إلى الترجمة, أي أصبحت حركة الترجمة جزءًا من مشروعات علمية عربية. ويبرهن الباحث على نظريته هذه بتقديم الأمثلة التاريخية من الميادين العلمية التي أبدع فيها العرب المسلمون مثل الطب, حيث يقول إن الترجمة من اليونانية إلى العربية في ميدان الطب كانت ضرورة لممارسة مهنة الطب من ناحية, وضرورة لتطوير البحث العلمي في ميدان الطب من ناحية أخرى. وكذلك الحال بالنسبة إلى الفلسفة, حيث تطلب تطور البحث الفلسفي العربي الإسلامي الاطلاع على التراث الفلسفي الإغريقي, فالفيلسوف العربي الكندي, مثلاً, كان يلجأ في كتاباته الفلسفية إلى استخدام البراهين المستمدة من كتب الإغريق الفلسفية مثل كتاب (الأصول) لإقليدس.

ثم يعرض الباحث لرعاة الترجمة والمترجمين ويوزعهم إلى أربع مجموعات, الأولى تضم الخلفاء العباسيين, أمثال أبي جعفر والرشيد والمأمون والمتوكل, والمجموعة الثانية تضم رجال البلاط أمثال الفتح بن خاقان, والثالثة تضم رجال الدولة والحرب أمثال البرامكة والوزير ابن الزيات, والرابعة تضم العلماء والباحثين أمثال أولاد موسى بن شاكر. ويؤكد الباحث أن دعم حركة الترجمة جاء من جميع الفئات الإثنية والدينية والطائفية من الناطقين بالعربية والسريانية والفارسية.

لماذا انطفأت الشعلة?

ثم يتناول الباحث مسألة (الترجمة والتاريخ) ويقول إن حركة الترجمة استمرت, بعد انطلاقها في عهد المنصور, قرابة قرنين من الزمن بنشاط كبير, ولكنها أخذت بعد ذلك بالتباطؤ, حتى انتهى الأمر بتوقفها في مستهل القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس للهجرة) بسبب ضعف الرغبة في العلوم المُترجمة من ناحية, ونقص عدد العلماء القادرين على الترجمة من اليونانية إلى العربية من ناحية أخرى. ويرى الباحث, في الوقت ذاته, أن ضعف حركة الترجمة يعود إلى أنه لم تعد هناك كتب يونانية صالحة للترجمة, أي لم تعد هناك كتب تناسب مطالب الرعاة والباحثين والعلماء العرب المسلمين, لأن النصوص الأساسية التي تشمل الموضوعات الرئيسة في معظم حقول العلم والمعرفة كانت قد تُرجمت إلى العربية منذ فترة طويلة, ووُضعت لها الشروح اللازمة, هذا فضلاً عن أن البحث الفلسفي والعلمي الذي خلق الحاجة إلى الترجمة منذ البداية قد استقل الآن ولم يعد بحاجة إلى الترجمة.

وفي الخاتمة, يعرض الباحث النتائج التي توصل إليها في دراسته, حيث أكد أن الترجمة في حقيقتها هي نشاط ثقافي إبداعي يقف على قدم المساواة مع عملية تأليف الكتب الأصيلة, أما القضايا المتعلقة بموضوعات الترجمة ومتى تترجم وكيف تترجم ومدى تقبل الشيء المترجم, فإن كل هذه القضايا تقررها الثقافة (المتلقية) للترجمة. كما بيّن الباحث أمرًا أساسيًا, وهو أنه لا يمكن استيعاب حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية بمعزل عن التاريخ الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي للدولة العباسية. ويختتم الباحث عرض النتائج بقوله إن الثقافة العربية التي تمت صياغتها في العصر العباسي الأول أسهمت في تحويل الفكر العلمي والفلسفي اليوناني إلى فكر عالمي أسهم إسهامًا مباشرًِا في النهضات البيزنطية في العصر الوسيط وفي النهضات الأوربية في العصرين الوسيط والحديث على السواء.

وتقتضي الأمانة العلمية أن أشير إلى بعض الملاحظات التي ربما تتعلق بالطباعة, ومنها العبارة التي وردت في ص44 (عمد سلفه جوستين الثاني...) والصحيح (عمد خليفته) وكذلك العبارة التي وردت في ص56 (بدءًا من القرن الثاني الهجري/التاسع الميلادي) والصحيح (الثامن الميلادي). وكذلك ورد في ص58 اسم (سرجيوس الرأشعيني), في حين أن الصحيح (سرجيوس الرأسعيني) وذلك لأن أصله من مدينة (رأس العين) الواقعة في الجزيرة السورية.

وصفوة القول: إن هذه الملاحظات لا تقلل بأي حال من الأحوال من القيمة العلمية الكبيرة للكتاب, ومن الترجمة الرائعة التي قام بها د.زيادة. ولاشك أن هذا الكتاب يعد متميزًا في موضوعه ومادته ومنهجه ونتائجه, وجاء في الوقت المناسب ليسد فراغًا ملموسًا في المكتبة العربية في مثل هذه الموضوعات والدراسات.

 

ديمتري جوتاس