جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

نازك الملائكة: عاشقة القمر التي أحبّت الكويت

هي شاعرة العرب - في القرن العشرين - دون منازع.

تلتمع إلى جوار اسمها وعلى ضفافه أسماء شاعرات عربيات, في أقطار عريبة عدة, لكنها تظل طليعة ورائدة, تنفرد من بينهنّ بحجم إبداعها الشعري وتميّزه, وعمق وعيها بالشعر ونفاذ بصيرتها فيه, والدور الذي قامت به مجدّدة ومُجرّبة وطليعة حركة شعرية جديدة, وباحثة وناقدة تؤصّل لهذا الوعي الشعري الجديد, وتختبر منجزاته, وتُقيّم مسيرته وتداعياته, وترصد صنع الأجيال الشعرية المتتالية فيه.

من هنا, أصبح للشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة, التي اختارت أن تكون الكويت, والعمل في جامعة الكويت, محطة رئيسية طويلة الأمد - تمتد لسنوات طويلة - في حياتها الإنسانية والشعرية, تُنضج على حرارة نيرانها الهادئة قصيدتها المتوهجة بالوعي والرؤيا, وتضفر من خيوط شاعريتها مزيدا من نسيج عالمها الشعري المتميز, ورؤاه المحلّقة.

ونازك الملائكة - التي ظلّت منذ بداية وعيها بالحياة والشعر حتى اليوم, تفرض على نفسها عزلتها الحميمة, المتصلة بعالمها وهموم إنسانها ومجتمعها - لم تغادر هذا السياق ولم تبتعد عن غيبوبة الشعر وتجلياته, حتى وهي في موقع الأستاذية من طالباتها وطلاّبها في المجتمع, تنعزل وتشارك,وتقتحم وتبتعد, لكنها - في كل حالاتها - تصغي لأصداء العالم في داخلها, ووقع الأحداث والصور والمواقف في وجدانها, مصغيةً ورائية, محتفظة لنفسها بكل السر, إلا عندما تقرر البوح, ذائبة في كلمات قصيدتها الجديدة.

وهي - بهذا المعنى - استطاعت أن تخلص كل الإخلاص لفنها وموقفها الأثير: فنّ مراقبة الذات, والاندياح في لفائفها وتموّجاتها ودهاليز عالمها الباطني المتعدد الطبقات والأعماق والمستويات. تبوح وهي لا تكاد تبوح, وتُعرّي وتكشف والمستور لايزال أكبر وأعرض, وتشغلنا - في شعرها - بنفسها وعن نفسها في آن واحد. تقول نازك: (ذلك لأن النفس البشرية عمومًا, ليست واضحة, وإنما هي مغلفة بألف ستر. وقد يحدث كثيرًا أن تعبر الذات عن نفسها بأساليب ملتوية, تثيرها آلاف الذكريات المنطمسة الراكدة في أعماق العقل الباطن منذ سنوات وسنوات, ومئات الصور العابرة التي تمرّ فيحدق فيها العقل الواعي ببرود وينساها نسيانا كليا, فيتلقفها العقل الباطن ويكنزها مع ملايين الصور التافهة, ويغلق عليها الباب, حتى إذا آنس غفلة من العقل الواعي, أطلقها صورًا غامضة لا لون لها ولا شكل.

وليست مثل هذه الأحاسيس الغريبة وقفا على إنسان دون إنسان, سوى أن التعبير عنها يختلف, فالإنسان العادي يراها في أحلامه. أما الفنان فيعبر عنها بفنه وأحلامه معا. وما دمنا لا نستغرب حين نستيقظ أحيانا في أعماق الليل وقد حلمنا أننا نركض حفاة, في قبو قديم, كان جزءا من دار خربة, كنا نسكنها منذ ثماني عشرة سنة كاملة, لم نعد إليها خلالها مطلقا, ومع ذلك لاحظنا في الحلم أدقّ الأشياء المنطمسة التافهة التي شاهدناها في السنين الغابرة: ذلك المسمار القديم المعوجّ على الجدار, وقد تدلى منه الحبل الباهت القديم نفسه. ثم هناك, على ارتفاع أمتار, أنبوب المياه الذي كنا في طفولتنا نتسلقه أحيانا. أقول: مادمنا لا نستغرب ذلك في حلم فلماذا لا نتقبله حين يصفه شاعر في قصيدة? إن الشاعر الذاتي الذي يراقب نفسه - كما لو كان يراقب بحرا زاخرا لا شطآن له ولا قرار - لا يستطيع أن يتهرب من مثل هذه الصور الباهتة الممحوّة. فهي تلاحقه أبدًا, ولا بدّ له من وصفها في شعره. والإبهام جزء أساسي من حياة النفس البشرية, لا مفرّ لنا من مواجهته إن نحن أردنا فنا يصف النفس, ويلمس حياتها لمسا دقيقًا).

في قصيدتها القصصية البديعة (شجرة القمر) التي سمّت باسمها إحدى مجموعاتها الشعرية تقول نازك:

ـ 1 ـ

على قمة من جبال الشمال كساها الصنوبر
وغلّفها أفق مخمليّ وجوٌّ مُعنبر

* * *

وترسو الفراشات عند ذراها لتقضي المساء
وعند ينابيعها تستحمُ نجوم السماء

* * *

هنالك كان يعيش غلام بعيد الخيال
إذا جاع يأكل ضوء النجوم ولون الجبال

* * *

ويشرب عطر الصنوبر والياسمين الخضِلْ
ويملأ أفكاره من شذى الزنبق المنفعلْ

* * *

وكان غلاما غريب الرؤى غامض الذكرياتْ
وكان يطارد عطر الربى وصدى الأغنياتْ

* * *

وكانت خلاصة أحلامه أن يصيد القمرْ
ويودعه قفصا من ندى وشذًى وزهرْ

* * *

وكان يقضي المساء يحوك الشباك ويحلم
يُوسّده عُشب (بارد) عند نبع مُغمغم

* * *

ويسهر يرمقُ وادي المساء ووجه القمرْ
وقد عكسته مياه غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ

* * *

وما كان يغفو إذا لم يمرّ الضياءُ اللذيذ
على شفتيهْ ويسقيه إغماءَ كأسِ نبيذْ

* * *

وما كان يشرب من منبع الماء إلا إذا
أراق الهلال عليه غلائل سكرى الشذى

ـ 2 ـ

وفي ذات صيف تسلّل هذا الغلامُ مساء
خفيف الخطى, عاريَ القدمينْ, مشوق الدماءْ

* * *

وسار وئيدا وئيدا إلى قمة شاهقة
وخبّأ هيكله في حمى دوْحة باسقة

* * *

وراح يعدّ الثواني بقلب يدق يدقْ
وينتظر القمر العذْبَ والليل نشوانُ طلْق

* * *

وفي لحظة رفع الشرقُ أستاره المُعْتمة
ولاح الجبين اللجينيُّ والفتنة المُلْهمة

* * *

وكان قريبا, ولم يَرَ صيادنا الباسما
على التلّ, فانساب يذْرع أفْق الدجى حالما

* * *

وطوّقه العاشق الجبليُّ ومسَّ جبينه
وقبّل أهدابه الذائباتِ شذى وليونة

* * *

وعاد به, ببحار الضياءِ, بكأس النعومة
بتلك الشفاه التي شغلت كلّ رؤيا قديمة

* * *

وأخفاهُ في كوخه, لا يملّ إليه النظرْ
أذلك حلم, وكيف وقد صادَ.. صادَ القمرْ?

* * *

وأرقده في سهادٍ عبيرية الرونق
وكلّله بالأغاني, بعينيْه, بالزنبق

ـ 3 ـ

وفي القرية الجبلية, في حلقات السّمْر
وفي كلّ حقلٍ تنادى المنادون: أين القمر?

* * *

وأين أشعتُه المخملية في مرْجنا?
وأين غلائلُه الشجيّة في حقلنا?

* * *

ونادت صبايا الجبال جميعا: نريد القمر!
فردّدت القُننُ السامقاتُ: (نريدُ القمر)!

* * *

مُسامرُنا الذهبيُّ, وساقي صدى زهرنا
وساكبُ عطر السنابل والورد في شَعْرنا

* * *

مُقبّلُ كلّ الجراحِ وساقي شفاه الورودْ
وناقلُ شوق الفراشِ لينبوع ماءٍ بَرُودْ

* * *

يضيءُ الطريق إلى كلّ حلم بعيد القرارْ
ويُنمي جدائلنا, ويُريق عليها النُّضارُ

* * *

ومن أين تبردُ أهدابُنا إن فقدْنا القمرْ?
ومن ذا يُرقّق أحلامنا, ومن يُغذّي السّمرْ?

* * *

ولحن الرعاة تردّد في وحشةٍ مُضْنية
فضجّت برجْع النشيد العرائشْ والأودية

* * *

وثاروا وساروا إلى حيث يسكنُ ذاك الغلام
ودقّوا على الباب في ثورةٍ ولظى واضطرام

* * *

وجُنّوا جنونا, ولم يبْق فوق المراقي حَجرْ
ولا صخرة لم يُعيدا الصراخَ: نريد القمرْ!

* * *

وطاف الصدى بجناحيْه حول الجبال وطارْ
إلى عربات النجوم وحيث ينام النهارْ

* * *

وأشرب من نارهِ كلّ كأسٍ لزهرة فلِّ
وأيقظ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقطرةِ طلّ

* * *

وجمع من سكرات الطبيعة صوت احتجاجْ
تردّد عند عريش الغلام وراء السّياج

* * *

وهزّ السكونَ وصاح: لماذا سرقْتَ القَمرْ?
فجُنّ المساءُ ونادى: وأين خَبأْتَ القمرْ?

ـ 4 ـ

وفي الكوخ, كان الغلام يضمُّ الأسيرَ الضحوكْ
ويُمطره بالدموع ويصرخُ: لن يأخذوكْ!

* * *

وكان هتاف الرعاة يشقُّ إليه السكون
فيسقُطُ من روحه في هُويً من أسيً وجنون

* * *

وراح يُغنّي لملهمهِ في جوًى وانفعالْ
ويخلط بالدمعِ والملحِ ترنيمه للجمالْ

* * *

ولكن صوت الجماهير زاد جنونًا وثورةً
وعاد يُقلّب حُلْم الغلامِ على حدّ شفرة

* * *

ويهبط في سمعه كالرصاصِ ثقيل المرورْ
ويهدم ما شيّدتْهُ خيالاتهُ من قُصورْ

* * *

وأين سيهرب? أين يخبئ هذا الجبين?
ويحميه من سورة الشوق في أعين الصائدين?

* * *

وفي أيّ شيءٍ يلفْ أشعته يا سماءْ?
وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ?

* * *

ومرّت دقائقُ منفعلاتْ وقلبُ الغلامْ
تُمزّقه مُدْية الشكّ في حيرةٍ وظلامْ

* * *

وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثرى في ضجرْ
ليدفن هذا الأسير الجميلَ, وأين المفرْ?

* * *

وراح يُودّعه في اختناقٍ, ويغسلٌ لونه
بأدمعهِ ويصبّ على حظّه ألف لعنهْ

وعندما نصل إلى المقطع السابع في هذه القصيدة القصصية البديعة, ذات اللوحات الشعرية المتتابعة, في سياقٍ من اللغة الشعرية الشفيفة, وقدرة نازك الملائكة الفذّة على إبداع الصورة الشعرية في مستوياتها المختلفة بسيطة ومركّبة, واحدة اللون ومتعددة الألوان, عندما نصل إلى هذا المقطع وتهدأ أنفاسنا المتسارعة نرى القمر الجميل الذي سرقه الغلام ودفنه قد نمت في مكانه شجرة سدْر جدائلها مكسوّة باللون الأخضر, غذّت شفاه القمر شذاها وأرضعها ضوؤه المختفي في التراب المعطّر, وانسكب على أغصانها رحيق شذاه, وصبّ عليها لون الفضة التي عُصرت من سناه, ومن كل غصن في هذه الشجرة راح يتدلّى قمر, فهي شجرة أثمرت أقمارًا بعدد ما فيها من غصون!

هكذا تختتم نازك الملائكة قصيدتها بهذا المقطع الذي يضع نهاية لقصتها الشعرية الجميلة الملتحمة بنزعتها الرمزية وعشقها الدفين للسرّ المُستبْطِن في الأشياء:

ومرّت عصور, وما عاد أهل القرى يذكرون
حياة الغلام الغريب الرؤى العبقريّ الجنونْ

* * *

وحتى الجبال طوتْ سرّه وتناست خطاهْ
وأقماره وأناشيده واندفاع مناهْ

* * *

وكيف أعاد لأهلِ القرى الوالهين القمرْ
وأطلقه في السماء - كما كان - دون مقرْ

* * *

يجوب الفضاء وينثرُ فيه الندى والبرودة
وشبْه ضبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدة

* * *

وهمْسًا كأصداءِ نبْعٍ تحدّر في عُمْق كهفِ
يؤكد أن الغلام وقصّته حلْمُ صيْفِ!

لقد مضى على إبداع نازك لهذه القصيدة أكثر من نصف قرن - فهي تحمل تاريخ كتابتها عام 1952 - ولاتزال شاعريتها التي بسطت ظلها على النصف الثاني من القرن العشرين, شاهدا على التحوّل والمغامرة, ووعي التغيير وضرورة التجديد. وتبقى - كما قلت عنها في مقال سابق يضمّه كتاب العربي (جمال العربية) - مساءلةً دائمةً تطرحها الشاعرة على ذاتها, ديوانًا بعد ديوان, وأفقا بعد أفق, ودرسًا للأجيال الشعرية الراهنة في معنى الشعرية الأصيلة ومعنى تجاوزها المستمر لذاتها: اكتشافًا وقلقًا ومساءلة.

 

فاروق شوشة