المحلل السياسي.. هل هي مهنة من لا مهنة له? سامر جميل رضوان

المحلل السياسي.. هل هي مهنة من لا مهنة له?

من هو المحلل السياسي يا ترى? وهل هناك توصيف مهني في أي من البلدان العربية لهذه المهنة? أم أنها أصبحت مهنة من لا مهنة له? ومهنة المرشحين المحتملين لمناصب سياسية معينة, ومن ثم فإن إبرازهم على الأقنية الفضائية جزء من عملية التلميع ومحك للولاءات في إطار صناعة الشخص?!

مع انتشار الفضائيات العربية عبر مساحة واسعة واحتلال التقارير الإخبارية مساحة كبيرة في حيز عمل هذه الفضائيات, لاهثة وراء معرفة آخر الأحداث ومحاولة التنبؤ بها... إلخ, دخلت في قاموس حياة المواطن العربي مصطلحات جديدة, من بينها تسميات تطلق على أشخاص من مستويات ثقافية ومرجعيات أيديولوجية متنوعة, يظهرون على الشاشات الفضائية أو المحلية يدلون بآرائهم في قضية ما. وحتى هنا لا يعدو الأمر أن يكون جزءًا من محاولة تتبع الحدث وتغطيته وإنارة جوانبه وتقديمها على شكل وجبة سريعة للمواطن القابع في بيته, والذي لا يملك حولاً ولا قوة فيما يجري من حوله في حالة من السلبية القهرية التي حشر فيها منذ عقود تطول أو تقصر. وفي غالبية الأحيان يحلو لهؤلاء الأشخاص الذين يدلون بآرائهم أن يطلقوا على أنفسهم تسميات على نحو: محلل سياسي, محلل سياسي استراتيجي, عضو مركز الدراسات الاستراتيجية, خبير في المركز القومي للدراسات الاستراتيجية, مفكر استراتيجي سياسي... إلخ!!!

وحتى الآن لا نعترض على مثل هؤلاء, فالساحة واسعة ويمكن لأي شخص أن يدلي بدلوه بالشكل الذي يرغب, ويعتقد, والأحداث السياسية كبيرة ومتنوعة لدرجة تسمح بهذا التنوع وتقتضيه في كثير من الأحيان. ولكن أن تطلق على هؤلاء تسمية محلل سياسي أو مايشبه ذلك من التسميات فهذا ما يستدعي النقاش, لأن مثل هذه التسميات تستدعي إيحاءات نفسية معينة عند المتلقي, أقلها وهم الحقيقة وقطعية الرأي وحلول سيناريوهات متوهمة مكان الوقائع, والإحساس الخادع بالإسهام في صنع الحدث وامتلاك المعلومة.

أصناف المحللين

المتتبع للأحداث السياسية يمكنه أن يصنف من يطلق على نفسه تسمية محلل سياسي ضمن أصناف ثلاثة:

1 - الأول المحلل السياسي الذي يعبر عن رأي نظام ما من الأنظمة السياسية أو يمثل أيديولوجية معينة دون أن يكون في موقع ما (بعد) ضمن دائرة النظام.

2 - الثاني المحلل السياسي بحكم الموقع في مركز أو جهة قد تكون حكومية أو غير حكومية الطابع, وهؤلاء غالبيتهم في أوربا وأمريكا وقلة قليلة منهم في الوطن العربي.

3 - الثالث ينتمي لإطار علمي - ثقافي - ما امتهن مهنة التحليل السياسي مستمدًا منهجيته من الأطر التي ينتمي إليها, وقد تكون نتاجًا جانبيًا لعمله الأصلي, أي يمكن اعتبارها هواية وقت الفراغ.

ويمكن إضافة صنف رابع يجمع بين كل هؤلاء بدرجات مختلفة. يضع رجلاً داخل النظام والرجل الأخرى خارجه, ويعمل في مركز مستقل ظاهريًا, ومقولب بشدة داخليًا, وينتمي في الوقت نفسه لإطار ثقافي معين, فهو خليط من كل هؤلاء وربما يكون الأخطر من بين هذه الفئات الأربع.

فإذا عدنا للفئة الأولى فهؤلاء عندما يسألون عن رأيهم بقضية معينة يتبنون ويعبرون عن وجهة نظر جهة معينة ويكررون ما تقوله أجهزة النظام دون زيادة أو نقصان ناقلين بلاغًا رسميًا, ولكن بدلا من البدء بعبارة صرح مصدر مسئول, يبدأون بعبارات تشير إلى أن ما يذكرونه هو رأيهم الخاص. وخطورة هذه الفئة تكمن في أنها تدعي الاستقلالية, وأنها تعبر عن آرائها وأن (تحليلها) للموقف ينبع من اعتقادهم الشخصي وهم ليسوا ممثلين للنظام أو متحدثين باسمه, فيوهمون السامع أو المشاهد, أو حتى القارئ, بأمر ما في حين أن أهدافهم الشخصية أو غير الشخصية تسعى لإيصال أمر مختلف كلية لا علاقة له بالتحليل السياسي للموقف على الإطلاق. وهذه الفئة لا يمكن تسميتها بأي شكل من الأشكال بالمحللين السياسيين, ولا يمكن وصف تحليلاتهم بالتحليلات السياسية بالمعنى العلمي, وهم مجرد ناطق غير رسمي لبيان رسمي, معتقدين أن عوراتهم التي يخفونها تحت ورقة التوت مخفية من جميع الجهات. وهناك قسم آخر يتبنى أيديولوجية معينة ليست في دائرة النظام ويقوم بتسويقها في تحليلاته للوضع (القائم), وكأنها الحقيقة البديلة التي تمتلك الحل السحري (لو) أتيحت لها الفرصة لتكون فاعلة. ولا يخفى هنا كذلك التضليل الذي تتم ممارسته هنا تحت مثل هذا النوع من التحليلات, حيث تسهم أكثر في حيرة المتلقي بين وهم الأنظمة وسراب الأيديولوجيات.

ومما لا شك فيه فإن تحليلات هذا النوع من المحللين هي من نوع التحليلات وحيدة الاتجاه مثلما هي الحال في معلوماتهم ذات الاتجاه الواحد. والنظام أو الأيديولوجية هي الأهم هنا وليس الفكرة أو الحدث بحد ذاته. فهل هؤلاء محللون سياسيون أم ناطقون إعلاميون شبه رسميين?

أما النوع الثاني من المحللين السياسيين وهم القلة الذين يمارسون مهنتهم بحكم الموقع في مركز أو جهة قد تكون حكومية (لاستقراء واستنتاج الآخر) أو غير حكومية الطابع. فمن المفترض أن هؤلاء يمارسون عملهم كمهنة تقوم على الاستقراء والاستنتاج, محاولين في عملهم تجميع الكثير من المعلومات المبعثرة وربطها في سياق منطقي, مركزين على الحدث وعلى الأفكار والسياقات المولدة للأحداث. وربما تكون قد نشأت الحاجة إلى هذا النوع من المهنيين في سياقات عدة حكومية أو غير حكومية. فمن ناحية تحتاج الحكومات والأنظمة, في الميادين كافة, إلى خبراء متخصصين مؤهلين في تجميع الخيوط المختلفة لسياسة ما أو لحدث من الأحداث من أجل معرفة كيف يفكر الآخر وفهم ما يفكر فيه والتنبؤ به وتحديد البدائل الممكنة, مستندين في ذلك إلى كم من المعلومات التي يتم الحصول عليها بالطرق المشروعة وغير المشروعة. وعملها ليس للبيع, ولكنها يمكن أن تشتري المعلومات. أما الجهات غير حكومية الطابع فتمارس عملها لتحقيق أهداف كثيرة تشبه الأولى وتختلف عنها في الوقت نفسه وتحاول تسويق نفسها منهيًا للذي يدفع لها أكثر بغض النظر عن الجهة, وتعمل غالبيتها في وسائل الإعلام, وقد تكون مستقلة كلية بالفعل أو قد تكون مستقلة ظاهريًا.

مهنة سد الثغرات

إن رغبة الإنسان في الحصول على المعرفة ليست محدودة, والفضول الذي يدفعه لتقصي الأخبار والأحداث يمثل دافعًا من الدوافع الإنسانية, الذي تعرف وسائل الإعلام كيفية استغلاله بالشكل الأقصى. وتقود الثغرات في المعلومات أو نقص المعرفة عند الإنسان إلى رغبة ملحة في التقصي لسد ذلك التوتر الناجم عن عدم المعرفة. ولعل ذلك ينطبق بصورة خاصة على الأحداث العالمية, السياسية منها بشكل خاص, في عصر الانفجار النووي المعرفي الذي تكاد آثاره تطال كل أرجاء الأرض.

والمحللون السياسيون هم أولئك الأشخاص الذين امتهنوا مهنة سد الثغرات المعرفية في مجالات متنوعة, وتقديمها على صورة عصارة جاهزة لأولئك الراغبين بالحصول عليها, بغض النظر عن الدوافع الكامنة خلف ذلك, أو عن الكيفية التي سيتم فيها توظيف سد الثغرة هذه. وللسياسة سحرها الخاص, لما لها من تأثيرات تنعكس على حياة الأفراد بشكل مباشر وغير مباشر, ولما يكتنفها من غموض وحجب للأسرار, يجعل الإغراء باختراقها معرفيًا (أو معلوماتيا) لا يقاوم, ويعطي ذلك الذي ينجح باستقرائها إحساسًا واهمًا بمشاركته في صنع الحدث لمجرد معرفته به.

ويمكن بطريقة هشة تقسيم الناس إلى قسمين: الأول صانع السياسة (أو واضع السيناريو التنفيذي), وهؤلاء هم السياسيون وأصحاب القرار المخولون بطريقة ما لرسم سياسة معينة, والثاني يتمثل دوره في السماح للفئة الأولى سواء مكرهًا أو عن طريق الانتخاب باتخاذ القرارات ورسم السياسات نيابة عنه. والمحللون السياسيون أو الإعلاميون بصورة عامة ينتمون للجزء الثاني. إلا أنهم قد ينتمون للقسم الأول أحيانًا أو يمثلون الجسر بين القسمين.

وبسبب الغموض الذي يكتنف عمل الفئة الأولى فإن مهنة ورغبة الناس في معرفة ما يدور وراء الكواليس واستباق الحدث قبل حدوثه دفعت بعض الأشخاص إلى جعل التحليل السياسي مهنة يمكن استثمارها, وأصبحت مهنة التحليل السياسي يمكن التخصص بها وفق أسس وقواعد معينة, موضوعها الأحداث الماضية الغامضة التي مازال الغموض يكتنفها, والحاضر الذي هو أشد غموضا والتنبؤ بالأحداث المستقبلية. وتسعى هذه المهنة إلى الاستنتاج والاستقراء والتشخيص والتفسير والتنبؤ, إلا أنها ليست صانعة للحدث أو موجهة له ولا تتحمل مسئولية, سواء سار بهذا الاتجاه أو ذاك. والمحلل السياسي شخص يواجه لغزًا كبيرًا عليه أن يجد الحل له من مجموعة من الوقائع المتناثرة والغامضة والتي لا يتوافر حولها الكثير من المعلومات, ومن مجموعة من التصرفات الشبيهة في الماضي والحاضر. ويمكن تشبيه عمله بالشخص الذي عليه تركيب لوحة فسيفساء كبيرة, لا تتوافر عنها حوله إلا بعض الجوانب وعليه إكمال الجوانب الأخرى من تلقاء نفسه, بناء على ما توافر له من معلومات. فقد يركب بعض القطع في مكان ما لتبدو له أنها صحيحة وفي مكانها المناسب, فتؤلف جزءًا من المشهد العام يبدو منطقيًا للوهلة الأولى, إلا أنه لو تم النظر إلى اللوحة من الأعلى, من المنظور الكلي لتجلى لنا أن هذه التركيبة لا تتناسب مع المنظر العام, وهو اجتهاد لا يمكن عده صحيحًا أو خطأ بحد ذاته, إلا أنه قد يكون مشكلاً للوعي ومعدلاً له أو مشوهًا له في دائرة معقدة من التأثيرات المتبادلة ذات آثار بعيدة المدى على الأداء السياسي أو الوعي السياسي للأفراد في مجتمع من المجتمعات. ولنا في دائرة صناعة القرار في المجتمعات المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية مثال يمكّن من توضيح المقصود.

منجِّم سياسي

ويشبه عمل المحللين السياسيين, في الوطن العربي, عمل المنجمين في أوجه كثيرة, فالمنجم شخص يقوم بناء على وقائع قليلة متفرقة برسم قصة متوهمة ويربطها بهذا الواقع لتعطي الوهم بالمصداقية, ويقوم أساس الخداع عند المنجمين على القدرة على الإيحاء أي القدرة على التأثير في المتلقي, والعمومية في سرد الوقائع والأحداث, وغموض مصدر المعلومات التي تُستقى منه الوقائع, إلى جانب أمور أخرى. والمحلل السياسي هو منجم سياسي, لا يتحمل مسئولية تنجيماته, وتلعب قدرته على الإيحاء دورًا كبيرًا في الإقناع, ويقوم بتصوير خطوط عامة لسيناريوهات محتملة موهمًا أن السيناريو الذي يحدد ملامحه العامة يستند إلى وقائع ملموسة, ويقدم نصائح في بعض الأحيان, على أمل أن يتم الأخذ بها. والغالبية تبني تحليلها وكفى الله المؤمنين القتال.

أما فيما يتعلق بالنوع الثالث من المحللين السياسيين والذي ينتمي لإطار علمي - ثقافي ما وامتهن مهنة التحليل السياسي مستمدًا منهجيته من الأطر التي ينتمي إليها أو يمارس هذا العمل كنتاج جانبي لعمله الأصلي, أو ما يسمى بهواية وقت الفراغ. ففي كثير من الأحيان يتساءل الإنسان عن الدوافع التي تدفع شخصا ما عرف بأنه أديب أو شاعر ليطلق على نفسه تسمية أديب ومحلل سياسي, أو كاتب ومحلل سياسي, وكأن التحليل السياسي تخصص في إطار الأدب والشعر أو ما يشبه ذلك. ولعل هؤلاء يستغلون مهنتهم الأساسية أصلاً لإضفاء مصداقية الصفة الثانية, التي يحلو لهم أن يطلقوها على أنفسهم. وعندما نستمع إلى تحليلات من هذا النوع ونحللها, فإننا نصاب بخيبة الأمل, لأن بعضهم أدباء أو مفكرون نحترم كتاباتهم ونحترمهم, إلا أن تحليلاتهم تثير الشفقة. إنهم كنجوم السينما والتلفزيون الذين خبا نجمهم فتحولوا إلى مقدمين للبرامج التلفزيونية, يسوّقون أنفسهم استنادًا لماضيهم, إلا أن ماضيهم هذا لن يشفع لهم ويصنع منهم مقدمي برامج ناجحين (أو محللين سياسيين ناجحين إن صح القول). وحبذا لو اكتفى هؤلاء بمهنتهم الأصلية فهم محترمون كفاية في مهنتهم الأصلية, وليحتفظوا بتحليلاتهم لأنفسهم أو ليصنعوا منها قصة أو رواية فقد يستطيعون إقناعنا أكثر. مع الإشارة إلى أنه ليس كل أديب أو مثقف لن يكون موفقا بالضرورة في تحليلاته السياسية, بل العكس فهو دور مطلوب وعلى المثقف الإسهام في تشكيل الوعي, ولكن بعد أن يمتلك أدوات حرفته, لا أن تكون نتاجا جانبيا لعمله, وكأنها هواية وقت الفراغ, متعديا على أصحاب المهنة الحقيقيين.

الاستخفاف بعقل المواطن

ولو تتبعنا عشرات الآلاف من التحليلات السياسية المبثوثة والمطبوعة منذ حرب تحرير الكويت وصولاً إلى حرب الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان ثم العراق وانتهاء بالمجازر الصهيونية في فلسطين فكم من هذه التحليلات كانت تعكس حقيقة الواقع أو قريبة منه, لدرجة تسهم في تشكيل تصور عن حقيقة ما يجري بالفعل, وتسهم في تنوير المتلقي عن بعض الحقائق?! بل إن كثيرا منها يثير السخرية الحقيقية ويعبر عن مدى الاستخفاف بعقل المواطن العربي, لدرجة لا يمكن تصورها. فلو تناولنا حرب تحرير الكويت على سبيل المثال وما رافقها من تحليلات قبل وبعد الحرب, بل وحتى وقتنا الراهن, نستطيع استكشاف مدى سطحية وجهل الكثير من التحليلات السياسية لهؤلاء ومدى إسهامها بتشويه الوعي وإحلال واقع لا وجود له إلا في أذهان أصحابه محل الواقع الحقيقي, سواء المتعلقة بالأسباب, أم فيما يتعلق بالتضليلات التي تضمنتها حول وهم القوة المزعوم وخدعة التفوق, لدرجة أن انساقت عشرات الجماهير وراء هذا الوهم ليس تأييدًا حقيقيا للغزو الصدامي للكويت بل لتصورها أن العراق سيهزم الولايات المتحدة الأمريكية, الداعمة لإسرائيل وسيدمر إسرائيل بلمح البصر بأسلحة مزعومة وإرادة جيش مقهور يأكله الذل والجوع لا يقوى إلا على توجيه بنادقه نحو صدور أبناء أمته وشعبه, أكثر من توجيهها نحو العدو الحقيقي للأمة العربية عبر عقود مديدة. فهل كانت هذه التحليلات مشكلة للوعي أم مشوهة له? والأخطر من هذا أن بعض هذه التحليلات يأتي في إطار التبريرات التي هي أشد تضليلا وتشويها للوعي, الأمر الذي يقود إلى استمرار استنساخ الوعي المشوه ويقلل من أمل انبثاق وعي جديد.

وإذا انتقلنا إلى الحرب الأمريكية في أفغانستان, فعلى ما يبدو لم تقنع حرب تحرير الكويت هؤلاء المحللين السياسيين فعادوا في تحليلاتهم يستنتجون أن الحرب الأمريكية ستكون خاسرة, لأن أفغانستان وطبيعتها ليست العراق, بل إن البعض قد توهم أن الطالبان سيلقنون الأمريكيين درسا في حرب الجبال لن يقووا عليه. وبغض النظر عن العوالم والظروف المحيطة بالأحداث, فإن مطالعة جوهر كثير من التحليلات كان يثير الدهشة من خلال الأسلوب الذي يتبعه محلل سياسي ما في تحليله للأحداث وفي رسم سيناريوهاتها المستقبلية.

وفي الواقع فقد كان يوجد وهم لدى الأفغان وكثير غيرهم أنهم قد هزموا الاتحاد السوفييتي السابق, وجعلوا إمبراطورية الإلحاد تنهار. وبغض النظر عن مصداقية هذا الأمر أو عدمها, فقد كان الأفغان جزءًا من لعبة سياسية وأيديولوجية وعسكرية, شكلوا في مرحلة من المراحل أداة أسهمت في انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. لقد كانت الحرب ضد الاتحاد السوفييتي استثمارا أمريكيًا في أفغانستان, بتمويل عربي. ولولا ذلك ربما سارت الأمور بطريقة أخرى.

فكيف نفسر انتصار فصائل على الاتحاد السوفييتي السابق, قامت بعد ذلك بطحن بعضها البعض دون رحمة ودون أن تستطيع أن تتفق مع أبناء شعبها وتتصالح مع نفسها وشعبها وتغرق نفسها في فوضى دفعت ثمنها غاليا?! وقد استندت كثير من التحليلات السياسية - لكبار المحللين السياسيين العرب الاستراتيجيين - في فلك وهم الانتصار السابق, لتوحي أن أمريكا ستُلقَّن درسًا في أفغانستان, فإذا انتصر الأفغان على الإنجليز والروس فكيف لا ينتصرون على الأمريكيين? وكانت نتيجة هذا الوهم عشرات الآلاف من القتلى والتدمير الكامل تقريبًا, فهل هناك من حلّل هذا الأمر منطقيا قبل أن يحلله سياسيا? وليس المقصود هنا تحمل مسئولية ما حدث وكأن ما حدث بفعل هذه التحليلات, بل إن المسئولية تنحصر في إطار تشكيل بنية الوعي بطريقة مشوهة, بطريقة غير واقعية تستمد معطياتها من (هذيانات) تضليلية مقصودة, أم غير مقصودة, ليست موجودة إلا في أذهان أصحابها, كالفصامي الذي يعتقد أن قائمة الطعام الموجودة في مطعم هي الطعام نفسه فيلتهمها, بدلا من الطعام الحقيقي الذي عليه أن يطلبه بناء على ما هو موجود في قائمة الطعام. والخريطة كذلك ليست هي البلد بحد ذاته.

هذا الخلط باعتقادنا أخطر بكثير من الآثار المدمرة لأعتى الحروب.

البطولة الفلسطينية

فإذا انتقلنا إلى فلسطين فلا يسعنا إلا أن نقول إن المواطن العربي عامة, والفلسطيني خاصة, ليس بحاجة إلى التحليلات السياسية, فقد أتخم منها وأصبحت بالنسبة له مهاترات لا معنى لها وتحليلات لا قيمة لها أمام ما يحققه الشعب الفلسطيني من خطوات وأمام المجازر البشعة التي ترتكبها المؤسسة الصهيونية. ولا يسعنا هنا إلا أن نقول دعوا الشعب الفلسطيني يدير الأمور بطريقته الخاصة فما يقوم به واضح ليس بحاجة إلى تعليق وتحليل, كي لا يتشوه العمل البطولي ويتحول إلى مجرد تحليل. فلندعهم يضعون السيناريو التنفيذي وينفذونه دون أي تحليل. ومن المؤكد أن الخسائر فادحة ولا يمكن إنكار ذلك على الإطلاق, ويخطئ من يعتقد عكس ذلك, والشعب الفلسطيني يذبح ذبحًا ويقتل حصارًا, ولكن ما من شعب سار على هذا الطريق إلا وحقق غاياته وانتصر في النهاية. ولا تعليق بعد ذلك أبدا.. فلتصمت التحليلات, فهي ليست في مكانها الآن.

هل يمكننا القول في النهاية إنها مجرد تحليلات تنجيمية, كصفحة الأبراج اليومية?! كلنا يقرأها على الرغم من عدم اعتقادنا بها, وسرعان ما ننساها, ونعود لممارسة حياتنا اليومية بكل ما فيها من خيبات, بالرغم من أن البرج يقول إنه يوم مناسب للحب والحياة والمفاجآت السارة!!? وهل نستطيع القول (كذب المحللون السياسيون ولو صدقوا)??!!

 

سامر جميل رضوان