مفهوم جديد للأمن الإنساني عادل أبو زهرة

مفهوم جديد للأمن الإنساني

هذا المقال هو آخر ما كتبه د.عادل أبو زهرة, قبيل وفاته إثر مرض عاصف ومعاناة مع الأحوال السائدة في مجال الطب بعالمنا العربي, معظمه, ولعله من واقع ذلك الألم الشخصي الكبير, انتبه إلى القصور الفادح في مفهوم (الأمن) الذي يختزله البعض في حدود سياسية ضيقة, بينما هو ألصق بإنسانية الإنسان الذي ينشد التحرر من الخوف ومن الحاجة, في حياته, وفي مستقبل أبنائه والآتين من بعده.

ظل مفهوم الأمن لفترة طويلة للغاية يفسر تفسيرًا ضيقًا بأنه أمن حدود الوطن من العدوان الخارجي, أو بأنه حماية المصالح القومية في السياسة الخارجية, أو بأنه الأمن العالمي من حدوث حرب نووية. وفي إطار هذا التفسير الضيق ضاعت الشواغل المشروعة للناس العاديين الذين كانوا يلتمسون الأمن في حياتهم اليومية, وبالنسبة لكثيرين منهم كان الأمن يرمز إلى الحماية من خطر المرض والجوع والبطالة والجريمة والصراع الاجتماعي والقمع السياسي والمخاطرالبيئية, وبانحسار الحرب الباردة يستطيع المرء أن يرى الآن أن هناك صراعات كثيرة موجودة داخل الأمم صارت أكثر بروزًا, فبالنسبة لمعظم الناس ينشأ الشعور بانعدام الأمن نتيجة للمشكلات المتعلقة بالحياة اليومية أكثر مما ينشأ نتيجة للخوف من حدوث مشكلات عالمية.

هل سيكون لديهم ولدى أسرهم ما يكفي لإطعامهم? هل سيفقدون أعمالهم? هل ستكون شوارعهم وأحياؤهم آمنة من الجريمة? هل سيعذبون على يد حكومة قمعية? هل سيكونون ضحية للعنف والاضطهاد بسبب جنسهم أو ديانتهم أو لونهم أو أصلهم العرقي?

إن الأمن البشري قضية ذات طبيعة عالمية وهو مهم للناس في كل مكان, الأغنياء والفقراء على السواء, حيث هناك تهديدات مشتركة بالنسبة لجميع الناس مثل البطالة والمخدرات والجريمة والتلوث وانتهاكات حقوق الإنسان, قد تختلف حدة هذه المشكلات من بلد إلى بلد, لكن جميع هذه التهديدات تظل ظاهرة متنامية.

بين التنمية والأمن البشريين

الأمن البشري محوره الناس, حيث يتعلق بالكيفية التي يحيا بها الناس في مجتمع من المجتمعات وبمدى حريتهم في ممارستهم خبراتهم الكثيرة وبمدى وصولهم إلى الفرص الاجتماعية والفرص الاقتصادية, وبما إذا كانوا يعيشون في صراع أم في سلام, ومن الممكن القول إن الأمن البشري له جانبان رئيسيان فهو يعني أولا السلامة من التهديدات المزمنة مثل الجوع والمرض والاضطهاد, وهو يعني ثانيًا الحماية من الاختلالات المفاجئة والمؤلمة في أنماط الحياة اليومية سواء في البيوت أو في الأعمال أو في المجتمعات المحلية, وفقدان الأمن البشري يمكن أن يكون عملية بطيئة أو يكون حالة فجائية, ويمكن أن يكون من صنع الإنسان نتيجة لاختيارات سياسية خاطئة أو يمكن أن ينبع من قوى الطبيعة أو قد يكون مزيجاً من هذين معًا, مثلما يحدث عادة عندما يؤدي تدني البيئة إلى كارثة طبيعية تعقبها مأساة بشرية, لكن من المهم عند تعريف الأمن عدم معادلة الأمن البشري بالتنمية البشرية, فالتنمية البشرية مفهوم أوسع نطاقًا حيث تعني عملية توسيع نطاق خيارات الناس, أما الأمن البشري فمعناه أن يكون باستطاعة الناس أن يمارسوا اختياراتهم في مأمن وبحرية, وأن يكون بوسعهم أن يثقوا نسبيًا في أن الفرص المتاحة لهم اليوم لن تضيع تماما في الغد, وهناك صلة بين الأمن البشري والتنمية البشرية, فالتقدم في مجال من هذين المجالين يعزز إحراز تقدم في المجال الآخر والفشل في أي مجال منهما يزيد أيضا من حدة خطر الفشل في المجال الآخر.

وفشل التنمية البشرية أو محدوديتها يؤدي إلى تراكمات من الحرمان البشري تأخذ شكل الفقر أو الجوع أو المرض أو تفاوتات مستمرة في الوصول إلى القوة وإلى الفرص الاقتصادية, وهذا بدوره يمكن أن يفضي إلى العنف, وعندما يتصور الناس أن أمنهم المباشر مهدد فإنهم يصبحون عادة أقل تسامحا مثلما يتضح من المشاعر المناهضة للأجانب والعنف الموجه ضدهم في أوربا, أو عندما يرى الناس تآكل مصدر رزقهم أو في حالة التعرض للقمع وللظلم التي قد تؤدي إلى الاحتجاج العنيف على الاستبداد, فالأمن البشري كما هو واضح ليس مفهوما دفاعيا كما هو الحال بالنسبة لأمن الحدود أو الأمن العسكري, بل إنه مفهوم تكاملي يعترف بشمولية مطالب الحياة.

لقد كان هناك دائما مكونان رئيسيان للأمن البشري: التحرر من الخوف والتحرر من الحاجة, ولكن المفهوم يميل الآن ناحية المكون الأول, لذا فقد آن الأوان للتحول من المفهوم الضيق للأمن القومي إلى المفهوم الأعم والأشمل للأمن البشري, فالناس في الأمم الغنية يلتمسون الأمن من خطر الجريمة ومن حرب المخدرات ومن انتشار مرض مثل نقص المناعة (الإيدز) ومن تدني التربة وارتفاع مستويات التلوث ومن الخوف من فقدان أعمالهم, ومن دواعي قلق كثيرة تظهر عندما يتفكك النسيج الاجتماعي, أما في الأمم الفقيرة فيحتاج الناس إلى التحرر من التهديد المستمر الذي يمثله الجوع والمرض والفقر وعدم وجود المأوى, تضاف إليها التهديدات نفسها التي تتعرض لها البلدان الصناعية.

إن الشعور بالأمن الاقتصادي يتطلب وجود دخل أساسي مضمون من عمل منتج ومجز أو من شبكة للضمان الاجتماعي تؤسسها الدولة, لكن طبقًا لهذا المفهوم لا يوجد غير ربع سكان العالم هم الآمنون اقتصاديا.

والمشاكل كبيرة وحادة بالطبع في البلدان النامية حيث معدل البطالة العلنية المسجلة يتجاوز 10% وحيث معدل البطالة الإجمالي ربما يكون أكثر من ذلك بكثير, أما بالنسبة للشباب في إفريقيا في الثمانينيات, فقد كان معدل البطالة المعلنة أعلى من 20% وهو أحد العوامل الرئيسية وراء التطرف الديني في عدة بلدان, أو وراء التوترات العرقية في بلدان مثل كينيا.

كما تتزايد أعداد الفقراء في الدول الغنية والدول الفقيرة, ففي كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي يعيش حوالي 15% من الناس تحت خط الفقر ويتفاوت الفقر أيضًا حسب الأصل العرقي, ففي ألمانيا بينما قدر متوسط نسبة الفقر على الصعيد الوطني بما يبلغ 11% تبلغ نسبة الفقر بين المقيمين في البلد المولودين في الخارج 24%, ولكن أشد المشاكل حدة موجودة في البلدان النامية حيث يعيش أكثر من ثلث الناس تحت خط الفقر, بينما يعيش أكثر من بليون إنسان من سكان العالم على دخل يومي يقل عن دولار واحد.

المأوى والطعام والدواء

الأمن الغذائي يعني أن تكون لدى جميع الناس في جميع الأوقات إمكانية الحصول ماديًا واقتصاديا على الغذاء الأساسي, وتوافر الأغذية عمومًا في العالم ليس مشكلة, فحتى في البلدان النامية زاد نصيب الفرد من إنتاج الأغذية بنسبة 18% في المتوسط خلال عقد الثمانينيات, ويوجد ما يكفي من الأغذية لتزويد كل شخص في العالم بحوالي 2500 سعر حراري يوميًا وهو قدر يتجاوز الحد الأدنى الضروري بمقدار 200 سعر حراري, لكن المشكلة تكمن في سوء توزيع الأغذية وفي نقص القدرة الشرائية, فهناك حوالي 800 مليون نسمة في العالم يعانون الجوع, وفي إفريقيا جنوب الصحراء يعاني حوالي 240 مليون شخص سوء التغذية, وفي جنوب آسيا يولد 30% من الأطفال وهم ناقصون في الوزن وهذه نسبة عالية جدًا ودليل محزن على عدم كفاية إمكانية الحصول على الغذاء لاسيما بالنسبة للمرأة التي كثيرًا ما تكون آخر فرد يأكل في الأسرة.

أما عند الحديث عن الأمن الصحي فلابد وأن نشير إلى أن الأسباب الرئيسية للوفاة في البلدان النامية هي الأمراض المعدية والطفيلية التي تقتل حوالي 17 مليون شخص سنويًا من بينهم 6.5 مليون يموتون نتيجة لالتهابات الجهاز التنفسي الحادة, 4.5 مليون يموتون نتيجة لأمراض الإسهال, 3.5 مليون يموتون نتيجة للسل, ومعظم هذه الوفيات مرتبطة بسوء التغذية وبالعيش في بيئات غير سليمة, وشرب مياه ملوثة تتسبب في حدوث حوالي بليون حالة إسهال كل عام.

أما في البلدان الصناعية المتقدمة فإن الأسباب الرئيسية للوفاة هي أمراض الدورة الدموية التي تسبب 5.5 مليون حالة وفاة سنويًا, والتي كثيرًا ما تكون مرتبطة بالغذاء وأسلوب الحياة, يلي ذلك السرطان الذي له في حالات كثيرة أسباب بيئية, وفي الولايات المتحدة يعتقد أن الأخطار البيئية المسببة للسرطان يتصدرها التلوث داخل المباني.

وفي البلدان النامية والبلدان الصناعية على حد سواء تكون التهديدات للأمن الصحي أكبر عادة بالنسبة لأشد الناس فقرًا, لاسيما الأطفال الذين يعيشون في المناطق الريفية, ففي البلدان النامية كانت المياه المأمونة متاحة في عام 1990 لنسبة 85% من سكان الحضر بينما كانت متاحة لنسبة 62% فقط من سكان الريف, وفي البلدان الصناعية تكون الأقليات الفقيرة والعنصرية أكثر تعرضًا للمرض, ففي الولايات المتحدة يعيش ثلث البيض في مناطق ملوثة بأول أكسيد الكربون بينما يبلغ الرقم للسود حوالي 50%, وفي عام 1991 كان متوسط العمر 72 عامًا بالنسبة لسكان كندا الأصليين, وذلك مقارنة بـ 77 عامًا بالنسبة لجميع الكنديين.

وفي البلدان الصناعية المتقدمة يوجد في المتوسط طبيب واحد لكل 400 شخص, بينما يوجد في البلدان النامية طبيب واحد لكل 7000 شخص, ويبلغ هذا الرقم في إفريقيا جنوب الصحراء طبيبًا لكل 36000 شخص, وهناك تفاوتات في الإنفاق على الصحة فيما بين البلدان النامية نفسها ففي جمهورية كوريا يتم إنفاق 377 دولارًا للفرد سنويًا على الرعاية الصحية بينما تنفق بنجلاديش 7 دولارات فقط.

وبينما يتوافر للفقراء بوجه عام أمن صحي أقل, فإن الحالة بالنسبة للمرأة تكون صعبة بوجه خاص, ومن أشد المخاطر التي تواجهها هي الولادة, إذ يموت أكثر من ثلاثة ملايين امرأة سنويًا نتيجة لأسباب مرتبطة بالولادة ومعظم هذه الوفيات يمكن الحيلولة دون حدوثها بكفالة الحصول على وسائل مأمونة وميسورة ماليًا وعن طريق الدعم الأساسي في المنزل أثناء الحمل والولادة, ولقد وجد أن وفيات الأمهات في الجنوب أكبر حوالي 18 مرة من معدلها في الشمال.

ضغوط على البيئة والناس

وعند الحديث عن الأمن البيئي لابد وأن نشير إلى تلك الفكرة الغريبة التي يعتنقها الناس حول أنهم مهما ألحقوا من أضرار بالكرة الأرضية فإنها ستستعيد سلامتها في نهاية المطاف, ومن الواضح أن هذا ليس صحيحًا, ذلك لأن التصنيع المكثف والنمو السكاني السريع قد أجهدا الكوكب إجهادًا لا يحتمل, ففي البلدان النامية يمارس الناس ضغوطًا على الأرض تفوق قدرة احتمال النظم البيئية, إذ يفقد كل عام حوالي من 8 إلى 10 ملايين فدان من أراضي الغابات, وهي مساحة تعادل مساحة النمسا, ويؤدي الرعي الجائر وسوء أساليب الحفاظ على الطبيعة إلى تصاعد التصحر, ففي إفريقيا جنوب الصحراء وحدها تحول 65 مليون هكتار من الأرض المنتجة إلى صحراء خلال الأعوام الخمسين الماضية, وحتى الأرض المروية تتعرض هي الأخرى لتهديد من مخلفات الأملاح, فأضرار التملح تصيب 25% من الأرض المروية في آسيا الوسطى, وتصيب 20% من الأرض المروية في باكستان.

أما في البلدان الصناعية المتقدمة فإن من أخطر التهديدات البيئية تلوث الهواء, فمدينة لوس أنجلوس ينبعث منها 3400 طن من الملوثات الغازية كل عام, ولندن ينبعث منها 1200 طن, وهذا التلوث الهوائي يتسبب في تدهور غابات أوربا نتيجة ما يسمى بظاهرة المطر الحمضي, ويتسبب تدهور غابات أوربا في خسائر اقتصادية تبلغ قيمتها 35 بليون دولار في العام, كما أن الخسائر السنوية المقدرة للإنتاج الزراعي نتيجة لتلوث الهواء تبلغ 1.5 بليون دولار في السويد, 1.8 بليون دولار في إيطاليا, 2.7 بليون دولار في بولندا, 4.7 بليون دولار في ألمانيا.

كما أن التهديدات البيئية في الشمال الغني والجنوب الفقير تأتي من مشكلات مثل تلوث المياه والمخلفات الصناعية الخطرة ومشكلات الصرف الصحي والصرف الزراعي والصرف الصناعي وفضلات الحياة اليومية في المدن, والتغيرات المحتملة في مناخ الأرض, وتكثيف استخدام مبيدات الآفات والمخصبات الكيماوية في الزراعة, وتدهور الشواطئ نتيجة النشاط السياحي الجائر.

أما أهم عناصر الأمن البشري, فهو ما نسميه بالأمن الشخصي, ففي الأمم الفقيرة والأمم الغنية على حد سواء تتعرض حياة الإنسان بدرجة متزايدة لتهديدات تأخذ أشكالاً عدة مثل:

  • تهديدات من الدولة (التعذيب البدني والملاحقة نتيجة اعتناق آراء مخالفة للرأي السائد).
  • تهديدات من جماعات أخرى من المواطنين (التوتر العرقي).
  • تهديدات من أفراد أو عصابات ضد أفراد آخرين أو ضد مجموعات أخرى (الجريمة والعنف في الشوارع).
  • تهديدات موجهة ضد المرأة (الاغتصاب والعنف المنزلي).
  • تهديدات موجهة إلى الأطفال (إساءة معاملة الأطفال).
  • تهديدات موجهة إلى النفس (الانتحار وإدمان المخدرات).

في كثير من المجتمعات أصبحت أرواح البشر أكثر تعرّضا للخطر مما كانت عليه في أي وقت مضى, ويتمثل أحد أهم مصادر القلق في الجريمة, لاسيما الجريمة التي تتسم بالعنف, ففي عام 1992 تم إبلاغ الشرطة في الولايات المتحدة عن 18 مليون جريمة, وهذه الجرائم تسفر عن خسائر اقتصادية كبيرة قدرت قيمتها بمبلغ 425 بليون دولار سنويًا, وقد ارتفع عدد الجرائم المبلّغ عنها في ألمانيا في العام نفسه بنسبة 10%, وفي النصف الثاني من الثمانينيات تضاعف معدل جرائم القتل في إيطاليا والبرتغال, وفي ألمانيا أصبح ثلاثة أمثال ما كان عليه.

والجريمة والعنف من حقائق الحياة أيضًا في البلدان النامية, إذ يقتل أربعة أطفال كل يوم في البرازيل, حيث زادت جرائم قتل القصر بنسبة 40% في العام الماضي, وفي كينيا أبلغ عن 3300 جريمة سرقة سيارات في عام 1993, وذلك بزيادة قدرها 200% بالقياس إلى عام 1991, وحتى في الصين نجد أن الجريمة المتسمة بالعنف والاغتصاب آخذة في التزايد.

وتمثل حوادث الصناعة وحوادث المرور مخاطر شديدة أيضًا, ففي البلدان الصناعية تعتبر حوادث المرور السبب الرئيسي لوفاة من تتراوح أعمارهم بين 15و30 عاما, مع جانب من أعلى معدلات الإصابة في بلجيكا وكندا والنمسا والولايات المتحدة, أما في البلدان النامية, فإن حوادث المرور هي السبب في 50% على الأقل من مجموع الوفيات الناجمة عن الحوادث.

وقد زاد أيضًا العنف في مكان العمل, ففي عام 1992 تعرض أكثر من مليوني عامل في الولايات المتحدة لاعتداء جسماني في أماكن عملهم, بينما تعرض حوالي 6.5 مليون آخرين للتهديد بالعنف, وتعرض 16 مليونًا للمضايقة بشكل ما, وقد بلغت قيمة تكلفة كل ذلك من حيث العمل الضائع والمصروفات القانونية أكثر من 4 ملايين دولار. وكان حوالي سُدس الوفيات التي حدثت أثناء العمل نتيجة للقتل, ومن أسوأ التهديدات الشخصية تلك التهديدات التي تتعرض لها المرأة, فالمرأة ليست آمنة, ولا تعامل معاملة مساوية للرجل في أي مجتمع من المجتمعات, فانعدام أمن المرأة الشخصي يتبعها من المهد إلى اللحد. فهي في الأسرة آخر مَن يأكل, وهي في المدرسة آخر مَن يتعلم, وهي في العمل آخر مَن يعين وأول من يفصل, وهي تتعرض لإساءة المعاملة بسبب جنسها من طفولتها وحتى بلوغها مرحلة النضج, صحيح أن المرأة تحصل الآن على تعليم أفضل وتدخل سوق العمل, وكثيرًا ما تكون الطرف الرئيسي في الأسرة الذي يكسب دخلاً, وملايين من النساء أصبحن الآن يعلن أسرهن, بحيث يمثلن الثلث في العالم ككل, وما يصل إلى النصف في بعض البلدان الإفريقية, حيث تنتج المرأة حوالي 90% من الأغذية, ولكن مازالت هناك مؤثرات كثيرة مذهلة لانعدام أمن المرأة, وللعنف البدني الذي يمارس ضدها, فقد قدر أخيرا أن ثلث الزوجات في البلدان النامية يتعرضن للضرب, وذكر أن امرأة من بين كل 2000 امرأة في العالم اغتُصبت.

ويتعرض الأطفال لإساءة المعاملة بأشكال كثيرة, ففي الولايات المتحدة ذكر أخيرًا أن حوالي ثلاثة ملايين طفل يتعرضون لإساءة المعاملة والإهمال, وفي عام 1992 لقى حوالي 7000 طفل في الولايات المتحدة (بمعدل 20 يوميًا) حتفهم نتيجة لإصابتهم بطلقات نارية.

وفي البلدان النامية يجبر الفقر أطفالاً كثيرين على تولي أعمال شاقة في سن صغيرة للغاية, وكثيرًا ما يكون ذلك على حساب صحتهم, وفي البرازيل يقضي أكثر من 200 ألف طفل حياتهم في الشوارع.

لا نهب الحاضر, ولا مصادرة المستقبل

يولد الناس جميعًا ولديهم قدرات وإمكانات كامنة, وما الغرض من عملية التنمية إلا تهيئة بيئة يستطيع الناس فيها أن يوسعوا من نطاق قدراتهم, ويمكن فيها زيادة حجم الفرص للأجيال الحاضرة والأجيال المقبلة على حد سواء.

إن نموذج التنمية المستدامة يقدر الحياة البشرية في حد ذاتها, فهو لا يقدر الحياة لمجرد أن الناس يمكنهم إنتاج سلع مادية مهما كان ذلك أمرًا مهمًا, ولا يقدر حياة شخص ما أكثر من تقديره لحياة شخص آخر, فلا ينبغي أن يكون مصير طفل حديث الولادة أن يحيا حياة قصيرة أو بائسة لمجرد أنه ولد في الطبقة الخطأ أو البلد الخطأ, أو قدر له أن ينتمي إلى الجنس الخطأ, فالتنمية يجب أن تمكن جميع الأفراد من توسيع نطاق قدراتهم إلى أقصى درجة, وتوظيف تلك القدرات أفضل توظيف ممكن في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

والحفاظ على البيئة هو أقوى حجة كي تكون التنمية مستدامة أو قابلة للاستمرار وحماية البيئة هي التي تضمن فرصا للأجيال المقبلة تماثل تلك التي نعمت بها الأجيال السابقة, وهذا الضمان هو أساس الاستدامة, لكن هذه الاستدامة لا يكون لها أي معنى إذا كانت تعني استدامة فرص الحياة البائسة والمعوزة, إذ لا يمكن أن يكون الهدف هو العمل على استدامة البؤس والحرمان, ولا ينبغي لنا أيضا أن نحرم مَن هم أقل حظًا اليوم من الاهتمام الذي نحن على استعداد لمنحه للأجيال المقبلة.

 

عادل أبو زهرة