نكون.. أو لا نكون منصور الرحباني

نكون.. أو لا نكون

كثيرًا ما أُسْأل عن تفسير لظاهرة (الأخوين رحباني), وعمّا إذا كانت هذه الظاهرة خلاصة عودة إلى التراث الشعبي الذي ساد لأجيال في الأرياف اللبنانية, أم كانت, بالإضافة إلى ذلك, خلاصة انفتاح على ثقافات وفنون أجنبية? أم أن الأمر يتعلق بكفاءة وموهبة?

وقد رددتُ دائمًا, وأردد الآن كلمة شكسبير الشهيرة: (نكون أو لا نكون), فقد خضعنا في الواقع لتربية جبلية صرفة, ربّتنا جدتي, أنا وأخي عاصي الذي يكبرني بسنة وأحد عشر شهرًا, على الأغاني الفولكلورية والعادات والتقاليد الشعبية. عرفنا الوحدة في الطبيعة ومعها. امتزجنا بالطبيعة. كان الوالد يعزلنا عن الناس خوفًا من الأفكار الشريرة, عشنا على فوّار أنطلياس, وعشنا بالمنيبيع قرب مار الياس شويا, راقبنا الشمس, راقبنا تحوّل الظلال, راقبنا النمل في مملكته وسعيه الذي لا ينتهي, قطعنا كروم العنب. عركنا العنب, صنعنا الدبس, رعينا الماعز, كثيرًا ما كنا نجلس أنا وعاصي ونحكي, حفظنا الكثير من الأغاني القديمة والأشعار العربية, لم يكن هناك تقليد شعبي إلا ومارسناه, ومع الوقت شعرنا بأن جذورنا راسخة في تراثنا وفي أرضنا.

ثم درسنا لاحقًا الموسيقى الشرقية على يد الأب بولس الأشقر, وضع بتصرفنا كل المراجع الموسيقية النادرة, وبدأ ينبهنا إلى أهمية الأوبرا.

وكنت أنا وعاصي ولوعين بالشعر, حفظت الشعر الجاهلي ولي من العمر 12 سنة, وحتى الآن أحفظ المعلقات الجاهلية كلها. وقرأت دستويفسكي وتولستوي وأنا أنتظر دوري على نبع الماء لكي أملي جراري.

وانفتحنا لاحقًا على ثقافات مختلفة, درسنا الموسيقى الغربية تسع سنوات, ودرسنا الموسيقى البيزنطية والأرمنية والتركية واليونانية. وكانت نوافذنا مفتوحة على كل جديد وأصيل.

أما المأثورات الشعبية, ويا رايحين عا حلب, وعشرات مثلها, فكنا نعرفها منذ الصغر, ولما جئنا لنكتب كتبنا أنفسنا ولم نكتب سوانا. نكون أو لانكون, كان هذا هو التحدي, تأثرنا بمحمد عبدالوهاب. أحببنا الشيخ سيد درويش, انفتحنا على بتهوفن وموزار, ولكن عندما كتبنا بدت شخصيتنا واضحة, وجاء عطاؤنا غريبا, ولا ننسى أن موقعنا الجغرافي كلبنانيين, مهم ولافت: نحن عرب المتوسط, وعلى ضفاف هذا البحر تجد كل التيارات الحضارية.

وكتبنا لبناننا بالذات, وكتبنا أشواقنا, وإذا بنا نكتشف أن ما كتبناه يعبّر عن مشاعر كل الناس, لأننا كنا صادقين, واكتشفنا أن المحلية هي أول الطريق إلى اختراق كل أفق, وإلى الإنسانية جميعها.

ومع أن الموسيقى أخذت كثيرًا من وقتنا, ومن اهتمامنا, إلا أننا أولينا الشعر بالذات عنايتنا الخاصة. كتبت الكثير, في الماضي من الشعر الشعبي والفصيح. وأكتب الشعر في الوقت الراهن بغزارة أكثر, وأجده أجمل من الشعر الذي كتبته في الماضي, وأجد كتابة الشعر على طريقة الخليل بن أحمد أسهل من كتابته على طريقة التفعيلة. في هذه الأخيرة لابد من (العكازات) وهذا ما أرفضه. حرصت في الشعر دائما على التقطير والتكثيف, على الفكرة / الومضة التي تنير.

أُرسلت لأشهد للضعفاء لملوك المأساة النبلاء
لأقيم الصلح مع الأوجاع وأُنهي الغربة في الغرباء
أغنيةٌ جئتُ وفي سفري أمنح أسمائي للأشياء
مُختَزنٌ سرُّك فيّ كما في الرملة تُختزن الصحراء


 

منصور الرحباني