أمير الشعراء.. ذكريات ابن بار جابر عصفور

أمير الشعراء.. ذكريات ابن بار

أدب السيرة الذاتية هو مرآة التأمل. وهو الفعل الذي يقوم به العقل عندما يسترجع تاريخه. كما لو كان ينظر إلى نفسه في مرآة تربة, تكشف له عن العلاقات التي لم يفطن إليها قبلاً.

أحمل إعجابًا خاصًا لكتب السيرة, وكتب الذكريات, وهو إعجاب يتصل بنوع من الشغف الذي لاأزال أنطوي عليه في تتبع حياة العظماء والروّاد في كل مجال, وفي كل ثقافة متاحة. وقد دفعني هذا الشغف إلى الاهتمام بكتب السيرة الذاتية التي يكتبها أصحابها لكي يسترجعوا فيها حياتهم, وما حدث لهم في هذه الحياة من أحداث جسام, أو ما عانوه من مشكلات وصعاب, استطاعوا أن يتغلبوا عليها, وأن يقهروها بإرادتهم القوية وإصرارهم على تحقيق هدفهم من الحياة. ولقد أصاب المرحوم زكي نجيب محمود عندما وصف كتابة السيرة الذاتية - من هذا المنظور - بأنها تغريدة البجعة, وذلك لأن البجعة عندما تشعر بدنوّ أجلها تنطلق في غناء شجي حزين, هو نوع من التغريد لما فات من أيام, أو نوع من الإرهاص بالنهاية الوشيكة.

وأتصور أن فتنتي بكتابة السيرة الذاتية, ترجع إلى ما تتضمنه - في أحوال نجاحها - من صفات الصدق والشجاعة والإصرار. وإذا كان الصدق يرتبط بالأمانة في ذكر ما حدث دون خجل ودون زخرفة أو تزيين, فإن الشجاعة هي القدرة على الاعتراف الذاتي بكل اللحظات التي تتباين في انحدارها وارتفاعها. وتختلف ما بين سلبها وإيجابها. وهي لحظات تحمل إصرارالشخصية (التي تكتب تاريخ حياتها) على مواجهة المصاعب والتحديات. كما تتحول هذه السير الذاتية إلى مرايا لأصحابها, يرون فيها تاريخ وعيهم الذاتي في مواجهة التحديات التي عانوها, والصعاب التي انتصروا عليها.

وليست عملية قراءة كتب السير أو التراجم التي يتولى فيها باحث الكتابة عن حياة هؤلاء الأعلام ببعيدة عن الأثر نفسه, فقراءة تاريخ العظماء هي إيحاء بإمكان استعادة فعل العظمة, ودرس تربوي في الكبرياء الذي لابدّ أن تنطوي عليه الشخصية في فعل تمردها الخلاق على شروط الضرورة. ومن المؤكد أن كتابة السيرة بهذا المعنى تتصل بالفن, خصوصا فيما ينطوي عليه سردها من تشويق مصدره الرغبة في استباق الأحداث, والوصول إلى نتائجها, وفيما يتضمنه هذا السرد من عناصر درامية تتصل بصياغة الشخصيات المضادة, أو الموازية, أو صياغة الأحداث المؤثرة التي تنقلب بمسار الشخصية من اتجاه إلى اتجاه, فإذا بالإرادة العفية للحضور تنفجر بما يقترن بقدرات المقاومة التي لا تتوقف إلا بعد تحقيق الغاية المرجوّة.

وكتب الذكريات وثيقة الصلة بذلك كله, فهي تضعنا في حضرة العظماء الذين أحببناهم, وأعجبنا بإنجازهم, وتقدم لنا من تفاصيل حياتهم ما يجعلنا أقرب إليهم إنسانيا, وأكثر فهما للمنحنيات التي تجسّدت فيها وبها إبداعاتهم, وأذكر أنني تعلمت - إنسانيا - من الكتاب الذي كتبه سكرتير أحمد شوقي عن شاعرنا الكبير أكثر مما تعلمته من الكتب التي تحدثت عن أمير الشعراء بواسطة تحليلاتها الموضوعية. ويرجع ذلك إلى أن كتاب أحمد عبدالوهاب - سكرتير أحمد شوقي: (اثنا عشر عاما في صحبة أمير الشعراء) - يضم من التفاصيل اليومية والحياتية الدقيقة ما جعلني في حضرة هذا الشاعر الاستثنائي, وأراه في كل أحواله, وفي لحظات إبداعه على نحو خاص, والأمر نفسه هو ما شعرت به عندما قرأت كتاب حسين شوقي (أبي شوقي). وهو كتاب صدر بعد سنوات عدة من كتاب السكرتير الوفي, وبعد أن هدأت انفعالات الفقد في الابن, وتحولت إلى مشاعر مستعادة في هدوء عن الأب الذي ارتبط به الابن, وتعلق به بوصفه المثل الأعلى في الحياة, ومصدر الفخر والإعزاز.

الأب والعم الحنون

وقد حصلت على كتاب (أبي شوقي) للأستاذ حسين شوقي منذ سنوات بعيدة, ولاأزال أمتلك - في مكتبتي الخاصة - الطبعة التي أصدرتها مكتبة النهضة المصرية سنة 1947, وقدّم لها خليل مطران شاعر القطرين الذي ربطته بشوقي صداقة وثيقة, وظل من الابن - حسين شوقي - بمنزلة العم الحنون. ولا أعرف على وجه اليقين هل هذه الطبعة هي الأولى أم لا? فكتاب السكرتير (اثنا عشر عاما في صحبة أمير الشعراء), صدر بعد أشهر معدودة من وفاة شوقي. ومن غير المنطقي - نوعا ما - أن يظل الابن منتظرا من سنة 1932 إلى سنة 1947 ليصدر كتابه عن أبيه, فالأقرب إلى القبول أن يصدر ذكرياته عن أبيه بعد وقت قصير من وفاته, ولكن يبدو أن الأمر غير ذلك, وأن الكتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1947 بالفعل, أولا لأنه لا يوجد في الكتاب ما يشير إلى طبعة سابقة, وذلك في الوقت الذي توجد بعض الإشارات التي تؤكد تاريخ الطبعة الأولى. وأهم هذه الإشارات - في تقديري - الإشارة إلى وفاة الخديو عباس حلمي الذي تولّى حكم مصر ما بين 1892-1914, وأنزله الإنجليز عن العرش مع قيام الحرب العالمية الأولى, مستغلّين ابتعاده في الأستانة, وقد نال أحمد شوقي - شاعر الأمير الأثير وصديقه الحميم - حظه من الاضطهاد بسبب علاقته بالخديو المخلوع, فنفي إلى إسبانيا, في الوقت الذي ظل الخديو عباس في استانبول إلى أن انتقل منها إلى النمسا التي لجأ إليها لما كانت تربطه بإمبراطورها من صلات وثيقة. وقد ولد الخديو عباس حلمي (الثاني) سنة 1874 وتوفي سنة 1944, الأمر الذي يرجّح أن حسين شوقي أصدر كتابه عن أبيه سنة 1947 بسبب الإشارة إلى وفاة الخديو عباس حلمي الثاني في ثنايا الكتاب.

ويبدو أن الابن الذي لا أعرف - مع الأسف - تاريخ مولده, قد آثر الانتظار سنوات بعد وفاة أبيه. ربما لأنه لم يستطع الكتابة بسبب وطأة الحزن الثقيلة التي انتابته بسبب وفاة والده المحبوب سنة 1932 عن اثنين وستين عاما فقط, وهي سن مبكرة, لكن اختلال أعصاب الشاعر الكبير وحساسيته المرهفة, أسهمت في انطفاء شمعة حياته المتوهجة على نحو مبكر بالقياس إلى أقرانه الأقل منه موهبة. ولعل الابن لم يكن قد استكمل أدوات الكتابة في ذلك العهد, مع أنه كان يقرض الشعر في السنوات الأخيرة من حياة أبيه, ويذكر في كتابه حوارًا دار بينه وبين حافظ إبراهيم, وكيف أن حافظ طالب صديقه أحمد شوقي برعاية ابنه الشاعر, ولكن شوقي أكّد لصديقه أنه يعرف موهبة ابنه, وأنها لن تخرج منه شاعرًا كبيراً مثلهما. ولذلك فمن الأفضل له أن يظل في مجال النثر لا الشعر. ويبدو أن الابن قد استجاب لنصح أبيه, ولم يعالج الشعر بعد ذلك, فيما أظن, وأنه حاول النثر, وظل منتظرا إلى أن هدأت انفعالات فقد أبيه, وأصدر كتابه بعد أكثر من عشر سنوات على هذا الفقد.

وأحسب أن شاعر القطرين خليل مطران قد شجع الابن حسين شوقي على الكتابة عن أبيه, وتولى تقديم الكتاب بكلمات رقيقة يتحدث فيها عن صديقه الذي أحب بنيه والذي أحبه بنوه وبرّوه حيا وميتا. ولذلك أخذوا يتعقبون آثاره بعد وفاته, ويوالون طبع دواوينه ومؤلفاته النثرية, ولا يغفلون طرفة من طرف أدبه حتى في أيام صباه الأول. ومن ألطف آيات هذا البر كتاب حسين شوقي عن أبيه.

الشاعر واللص

والمؤكد أن تباعد الزمن ما بين وفاة الأب وكتابة الابن كتابه عن أبيه قد أضفت على الكتابة نفسها طابعا موضوعيا, أتاح للابن أن يتحدث - في محبة لافتة - عن بعض ما رآه بمنزلة عيوب في شخصية أبيه. من ذلك ما يؤكده من أن أباه كان بوهيمي النزعة إلى حد كبير. ودليل ذلك أنه كان يعاونه على الهروب من المدرسة في المطرية. وكذلك الحادث الطريف الذي يقصّه عندما ركب ووالده (الأتوبيس) في برشلونة ذات يوم, فصعد رجل عملاق بادي الترف والثراء, يعلق سلسلة ذهبية بصدره, وفي فمه سيجار ضخم, ثم ما لبث أن استسلم للنوم في ركن من العربة, وراح يغطّ غطيطا يرهق الأعصاب. وصعد نشال في مقتبل العمر جميل الصورة, وهمّ بأن يخطف السلسلة, ولكنه أدرك أن شوقي يلمحه, فأشار إليه إشارة برأسه مؤداها: هل آخذها? فأجابه شوقي برأسه: خذها, فنشلها الشاب ونزل, بعدما حيا شوقي برفع قبعته له. ولم يكد ينزل حتى التفت الابن إلى أبيه قائلا: هل يصح أن تترك النشال يأخذ سلسلة الرجل وهو نائم? فأجاب شوقي: شيء عجيب يا بني: لو كنت مقسّما الحظوظ, فلمن كنت تعطي السلسلة الذهبية? أكنت تعطيها عملاقا دميما أم شابا جميلا? فقال الابن: كنت أعطيها الشاب الجميل, فأجاب شوقي ببساطة: هاهو أخذها.

وتقترن البوهيمية التي يذكرها حسين شوقي صفة في أبيه بنوع من التدلل والترفّع الأرستقراطيين. ومن ذلك احتياج شوقي إلى طبيب أسنان لحشو بعض الأضراس في مدينة برشلونة الإسبانية التي قضى فيها أغلب سنوات منفاه. ولكنه بدل أن يذهب إلى الطبيب في عيادته كما يفعل سائر الناس, كان يكلف الطبيب المسكين بالحضور إلى منزله وهو متأبّط آلة العمل. ولولا أن هذا الطبيب كان قويا لما تيسر له حملها, وكانت حجة شوقي في ذلك أن أعصابه لا تتحمل الانتظار في العيادة. والمدهش أن الطبيب كان يستجيب لمثل هذا الطلب العجيب.

ولا تنفصل عن هذه البوهيمية ما كان يراه الابن في أبيه من أنه كان سريع التقلّب كالمحيط, فطعام لم يهيأ كما رغب يعكّر مزاجه., ولكن إذا كان مزاجه معتدلا فهو لطيف غاية اللطف, يدلل الجميع ويلاطفهم, بل يرهق من حوله من أطفاله بالقبلات. ويضيف الابن إلى ذلك: أن أهم عيوب أبيه أنانيته الشديدة. ويسأل: ترى هل هي من لوازم الشعراء? إذ إن (شيلر) عندما يتحدث عن طبع صديقه (جوته) يقول: إنه في الواقع أناني إلى أقصى حدود الأنانية. فمن أنانية شوقي مثلا - فيما يرى الابن - أن أسرته ما كانت تستطيع أن تتناول غداءها في ساعة معينة, بل كان لزاما عليها أن تنتظر إلى أن تأتي شهيته, وكثيرا ما كان يطول هذا الانتظار لأنه كان يصحو من نومه متأخرا, فيفطر بطبيعته متأخرا أيضا. وسبب هذا التأخير في النوم أنه يراجع بعد ما يعود من سهرته ما نظم من شعر طوال نهاره. ومن طرائف ما يذكره الابن في هذا المجال, أنهم عندما كانوا يذهبون إلى أوربا, ويذهبون إلى أحد المطاعم, كان شوقي يغضب من ولديه - علي وحسين - حين يختاران الأصناف المألوفة, ذلك لأنه كان يتعين عليهما, حسب رأي شوقي, أن يختارا أصنافا جديدة مجهولة الأسماء, كي يختار هو منها في المرة القادمة, إذا راقته, فكانت اقتراحاته هذه تفسد على الابنين الأكلة, لأن تلك الأصناف المجهولة كانت (مقالب) في معظم المرات. وكان حظ حسين منها مرة ضفدعا. وطبعا لم يأكله, بل صدّ نفسه عن تناول أي طعام آخر مع أنه يقال إن طعم الضفدع كالحمام السمين?!

بين الإسراف والتشاؤم

ويضيف الابن إلى صفة الأنانية صفة الإسراف التي كانت تدفع شوقي إلى شراء التحف بلا ضابط, وتكديسها في مبنى مستقل جوار المنزل, وذلك لغرامه الشديد بالتحف. وهي صفة تقترن باختلاط الخيال والشعر بالشئون المالية, الأمر الذي تسبب في خسائر مالية, أودت بكثير من المال في رأي الابن, ويضيف الابن إلى هذه الصفة خصلة التشاؤم التي كانت تسم شخصية أبيه, فكان إذا تراءى له من بعيد أحد معارفه الذين اشتهروا بنحوس الطالع, ركب سيارته من فوره وأمر سائقه بالانطلاق. كذلك كان يتشاءم من صوت البوم, وقد أشار إلى ذلك في رثائه للمرحوم علي بك بهجت, وكان لايزال يقيم في ضاحية المطرية, وقد خصّ البوم بقطعة مستقلة من شعره بعنوان (البلابل التي ربّاها البوم) يقول فيها:

أنبئت أن سليمان الزمان ومن أصبى الطيور فناجته وناجاها
أعطى بلابله بوما, يؤدبها لحرمة عنده للبوم يرعاها
واشتاق يوما من الأيام رؤيتها فأقبلت وهي أعصى الطير أفواها
أصابها العيّ حتى لا اقتدار لها بأن تبثّ نبي الله شكواها
فنال سيدها من دائها غضبا وود لو أنه بالذبح داواها
فجاءه الهدهد المعهود معتذرا عنها يقول لمولاه ومولاها:
بلابل الله لم تخرس ولا ولدت خرسا, ولكن بوم الشؤم رباها


ولا يستطرد الابن كثيرا في ذكر ما رآه بمنزلة عيوب في أبيه, وذلك من منطلق برّ الابن الذي لا يستطيع أن يمضي في نقد أبيه الذي يحبه إلى النهاية, والذي تظل صورة أبيه تفرض نفسها على وعيه بحنانها وبرّها. وهو يذكر من صور هذا الحنان الكثير, ومن رهافة المحبة الأمثلة التي تدل على رقّة الأب الذي ما كان يحتمل أن يرى أحدا من أبنائه يتألم من مرض. فكان يترك المنزل ويفرّ بعيدا. ويذكر حسين من صور هذا الحنان أن أباه ما كان يرفض له طلبا, وذلك إلى الدرجة التي جعلته يحضر تمساحا صغيرا, يضعه في حوض بني له خصيصا في الحديقة, تحقيقا لرغبة ابنه الذي ألحّ عليه في طلب التمساح. ويضيف حسين إلى ذلك حادثة تدل على مدى حب الأب لابنه, وكيف كان يتوخّى رضاه ويساير أهواءه. وتتلخص الحادثة في أن حسين الصغير كان يرغم أباه على الجلوس في الحنطور في المقعد الصغير الأمامي, على حين يجلس هو في المقعد الكبير. وقد رآه مرة سمو الخديو عباس على هذه الحال, وكانا يسيران إذ ذاك في ضاحية المطرية, وكان سموّه قادما من قصر القبة في طريقه إلى (مسطرد) فاستدعى الخديو شاعره ولامه, سائلا إياه: لم تفعل هذا? فأجابه شوقي: سله هو يا أفندينا لم يفعل هذا بي. ويضيف الابن إلى ذلك: أنه عندما تقرر ذهابه إلى المدرسة, حاول الأب أن يبطل هذا القرار أو يرجئه, حتى لا يحرم لبعض الوقت من ابنه, لكنه أخفق أمام تشبث المربية التركية التي كانت تحكم البيت كله بيد من حديد. ولولا هذه المربية الشديدة المراس لما ذهب الابن إلى المدرسة. وقد حاول التمارض الذي كان الأب يساعده عليه, لكن حيل الابن والأب لم تفلح مع المربية الصارمة.

قطة من أنقرة

ولا ينسى الابن في صفات الحنان أمه الرقيقة التي كان أحمد شوقي يشبهها بقطة من أنقرة بسبب هذه الرقة, وإشارة إلى أنها من أصل تركي. وقد اشتهر هذا النوع من القطط بالرقة والترفّع. ويقول حسين شوقي - في ذلك - إن أباه إن كان قد وفق في حياته الأدبية, فأكبر الفضل راجع إليها بسبب خلقها هذا, وبسبب طيبتها التي لا حدّ لها. فهي لم توجّه إليه لوما في حياته مرة, مع أنه كان خليقا باللوم أحيانا, فهو كثيرا ما كان يستصحب وقت الظهر أصدقاء حين عودته إلى المنزل, فيتغدّى معهم, على حين تتغدى هي وحدها. أما العشاء فكان يتناوله معظم الأحايين في الخارج.

وبالطبع, لا ينسى حسين شوقي علاقة أبيه بالخديو عباس حلمي الثاني, وهي العلاقة التي جعلت شوقي يختار حي (المطرية) مكانا لسكناه ليكون قريبا من الخديو الذي ارتبط به أعمق الارتباط, وظل قريبا منه كل القرب, شاعرا, ورفيقا, ونديما, وموظفا كبيرا في القصر, ومدللا من الخديو الذي غفر له بعض فلتاته البوهيمية, ومن ذلك تخلي أحمد شوقي عن الخديو وفراره منه, حين اعتزم الخديو السفر إلى الحجاز ليؤدي فريضة الحج, فاصطحب معه شاعر بلاطه الذي كان يحبه ويعطف عليه كل العطف. وتظاهر الشاعر أمام ولي أمره بأنه ذاهب معه إلى الحج, لكن لما بلغ ركب الخديو بنها, اختفى شوقي, وجعل الخديو يبحث عنه, ولكن دون جدوى, إذ اختبأ شوقي في منزل أحد أصدقائه, ولما عاد الخديو من الحجاز, وأخذ يلوم شوقي على فعلته, اعتذر الشاعر لسيده قائلا: كل شيء إلا ركوب ظهور الجمال يا أفندينا, ولكي يعوّض سموه عن هذا التقصير, نظم له قصيدة ترحيب وتهنئة بالحج طويلة, وهي التي مطلعها:

إلى عرفات الله يا ابن محمد عليك سلام الله في عرفات


عيون في المنفى

ويمضي كتاب حسين شوقي على هذا النحو الذي يتنقل فيه ما بين ذكريات والده العظيم, بادئا من سنوات الطفولة التي قضاها في حي المطرية, حيث بيت الأسرة الأولى (كرمة ابن هانئ) الذي أطلق عليه أحمد شوقي هذا الاسم تعبيرا عن إعجابه بالشاعر العباسي أبي نواس الذي رأى فيه واحدا من أعظم شعراء العربية وأرقّهم وأكثرهم حبا للحياة والجمال. وينتقل حسين بالذكريات من المطرية إلى إسبانيا التي كان على الأسرة أن ترتحل إليها مع الحرب العالمية الأولى, نتيجة صلة شوقي بالخديو الذي عزله الإنجليز. ويتذكر التفاصيل الحميمة لحياة المنفى التي جمعت ما بين الأحزان والمسرات, ولكنها لم تخل قط من حنين الأب إلى وطنه الذي يقول فيه:

وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي


ونرى إسبانيا بعيني الأسرة المنفية, عبر مفارقات طويلة, وسمت عالم الأطفال بالبهجة التي تمتعوا بها, وشعروا بالحزن على فقدها عندما سمح الإنجليز للشاعر الكبير بالعودة إلى مصر في سنة 1919, وذلك بعد أن تأكد انتصارهم, وفي أعقاب ثورة 1919 التي قلبت الموازين, وأتاحت للشاعر المنفي العودة إلى وطنه بعد يأس, فكأنه عاد إلى شبابه فيما يقول. ولا ينسى الابن أن يصف قلق أبيه بسبب ضيق الموارد المالية في المنفى بسبب تعنّت الإنجليز, كما لا ينسى أن يصف لنا الأندلس التي زارتها الأسرة بعد أن تحسنت الأحوال المادية, وتعود الأسرة إلى القاهرة, ويتنقل بنا الابن إلى الاحتفاء بأبيه في القاهرة, وإلى أنواع التكريم التي ظل ينالها, خصوصا بعد أن انتقل بولائه من القصر إلى الشعب, وبعد أن أخذ يتوجه بشعره إلى الأمة التي أخذت تحطم سلاسل القيد وتثور على الإنجليز. وتمضي الذكريات في التداعي الآسر, كاشفة عن مشاعر ابن بار حفيّ بأبيه, عارف بقيمته, حاملة من المعلومات الكثير الذي يكشف عن السياقات التي قيلت فيها قصائد كثيرة لشوقي, لا يمكن فهمها كاملة بعيدا عن هذه السياقات. ويمكن لمن يريد معرفة هذه المعلومات أن يعود إلى كتاب حسين شوقي ليستمتع بقراءته كما استمتعت شخصيا بقراءته مرات ومرات. وأكتفي بواقعة واحدة حدثت في باريس, حين تقابل أحمد شوقي مع الملك فيصل, وقدم إليه ولديه: علي وحسين. ودعاه جلالة الملك إلى زيارته في بغداد, فوعد بتلبية الدعوة, ولكنه لم يذهب لصعوبة المواصلات في ذلك الوقت في البر, أما الجو, فلم يكن شوقي يرتاح إلى ركوب الطائرة, وقديما قال فيها:

أركب الليث ولا أركبها وأرى ليث الثرى أوفى ذماما


وقد كرر الملك الفيصل الدعوة بعد ذلك بسنوات, تحديدا سنة 1921, فلم يسع شوقي إلا أن يرسل له تحية شعرية مع محمد عبدالوهاب الذي نزل ضيفا على بغداد, وقد غنى عبدالوهاب هذه التحية بين يدي جلالة الملك فيصل, وهي:

يا شراعا وراء دجلة يجري في دموعي تجنّبتك العوادي
سِرْ على الماء كالمسيح رويدا واجر في اليم كالشعاع الهادي


ذكريات باريسية

ولا يمكن أن أنهي حديث هذه الذكريات دون أن أصل إلى ذكريات شوقي في باريس التي أرسله إليها الخديو توفيق لطلب العلم, فنهل شوقي قليلا من هذا العلم, ذلك لأنه انصرف بكليته إلى الفنون والآداب, ووجد مراحه في شعر لافونتين (1621-1695) ولامارتين (1790-1869) وفيكتور هوجو (1802-1855) وغيرهم من الشعراء الذين وافقوا تركيبته الثقافية, ومزاجه الشعري, فتأثر بالشعر الأقرب إلى الكلاسيكية منه إلى الرومانتيكية, كما تأثر بالمسرح الكلاسيكي عند راسين (1639-1699) وكورني (1606-1684) اللذين سعى إلى أن يصنع على مثال تراجيدياتهما تراجيديات من تاريخه الذي بدأه من عهد قمبيز.

ويحتشد الكتاب ببعض المشاهد الدالة من باريس, منها أن شوقي أقبل على باريس مع ذهاب ولديه لدراسة الحقوق, وظل يقضي فيها جزءا كبيرا من الصيف, مستعيدا ذكريات شبابه فيها. ولذلك كان يتريض كل يوم تقريبا في غاب بولون.

وقد عاصر أحمد شوقي (1868-1932) فرلين (1844-1896) الشاعر الرمزي الشهير, وجذبه إليه شكله الغريب وهيئته التي صدمت ارستقراطية أحمد شوقي التي لم تفارقه فيما يبدو خلال سنوات إقامته في باريس, ابتداء من سنة 1887 إلى عودته منها وعمله بالقصر الخديو سنة 1891. ومن المؤكد أن ذوق شوقي وتكوينه الإحيائي العقلاني جذبه إلى الشعراء الذين رسخت مكانتهم في الأدب الفرنسي, وأصبحوا أقرب إلى كلاسيكياته, مثل لافونتين ولامارتين وهوجو الذين كانوا في ذمة التاريخ يوم وصل شوقي إلى باريس. أما فرلين فكان شاعر الطليعة الرمزية المتمرّدة على الخيال المتعقل للكلاسيكية, وعلى الخيال المجنح للرومانتيكية, ولم يكن مقبولا إلا في دوائر محدودة, ظل شوقي بعيدا عنها بتكوينه الذي جذبه إلى الباريسي المستقر, المضمون, وليس إلى الباريسي, العربيد أو الرجيم, ولذلك لن يحدّث شوقي ابنه عن فرلين إلا بوصفه (سكيرا) لا يكف عن الشرب, وتتساقط قطرات الشراب على ذقنه فلا يعنى بمسحها.

عشق المسرح

ومن الطبيعي - والأمر كذلك - أن يذكر حسين شوقي أن أباه كان يقضي معظم لياليه الباريسية في مسرح (الكوميدي فرانسيز) كي يزداد علما في الفن المسرحي, ذلك لأن المسرح المذكور هو أرقى المسارح الكلاسيكية العالمية, تمثل فيه أهم المسرحيات الشعرية التي ألّفها كبار الشعراء الفرنسيين, وكان شوقي يواظب على الذهاب إلى هناك, لأنه كان يفكر إذ ذاك في عمل مسرحيات شعرية, وذلك على الطريقة الكلاسيكية التي يتصارع فيها الواجب مع العاطفة, وتتقابل أضداد الحدّية في الثنائيات التي لا تعرف التوسط, والتي لا يفارق الصراع بينها المغزى الأخلاقي العقلاني في كل الأحوال.

وقد كان شوقي أخرج في شبابه سنة 1893 مسرحية شعرية, هي رواية علي بك الكبير التي أعاد نظمها سنة 1931, إذ كان قد كتبها قديما في سرعة, ويبدو أن هذه الذكرى - في كتاب الابن البار - مرتبطة بما اقترن بها من تركيز شوقي في عامي 1931و1932 على الاشتغال بإنجاز مسرحياته أكثر من أي وقت مضى, كأنه كان يحسّ بدنو أجله في الثالث عشر من أكتوبر 1932, ففي هاتين السنتين أتم (مجنون ليلى) ثم أعاد نظم (علي بك الكبير) كما ألف (قمبيز) و(الست هدى) و(البخيلة). وشرع في وضع رواية عن محمد علي الكبير, لكن هذا الاجتهاد كان مع الأسف على حساب جسمه الضئيل الذي ناء بالمرض.

ويقول حسين شوقي إنهم في ذاك الوقت كانوا يخفون عنه ما كان يظهر في بعض الصحف من نقد لرواية قمبيز حتى لا يضايقوه وهو في حال توتره وسرعة هياجه, وذلك لأنه كان حسّاسا جدا فيما يتصل بمؤلفاته.

ويرى حسين شوقي أن نقد مسرحية قمبيز لم يكن لوجه الله, وأن سببه هو ارتباط أسرة شوقي بصلة المصاهرة بدولة إسماعيل صدقي باشا الذي كان رئيسا للوزارة, ومعاديا للتيارات الوطنية, فكان هذا سببا في نظر بعض صحف المعارضة, إذ ذاك لمهاجمة شوقي في أدبه, هذا مع العلم - فيما يقول حسين - أن مسرحية (قمبيز) هي من أحسن مسرحيات أمير الشعراء, إذ روجعت فيها الوقائع التاريخية مراجعة دقيقة بمعرفة بعض أساتذة الآثار المصرية, ومما يدل على توخّي الدقة فيها أن أسماء أشخاص الرواية من مصريين وفارسيين هي أسماء كانت شائعة فعلا في ذلك العصر بمصر. وكان شوقي إذا أتم إحدى مسرحياته دعا إلى (كرمة ابن هانئ) الثانية (التي بناها في الجيزة على النيل بعد عودته من المنفى) بعض الأدباء والممثلين. وبخاصة عزيز عيد, ليقرأ عليهم المسرحية, فإذا رأوا تغيير أحد المناظر غيّره لهم في الحال, أي أنه كان ينظم عشرة أو عشرين بيتا آخر بقدر ما يتطلبه المنظر الجديد. ومن طرائف هذه الفترة ما يرويه حسين شوقي من أن عزيز عيد أراد أن يقوم هو بدور قيس في (مجنون ليلى) وصمم على ذلك وإلا أوقف تمثيلها, فلم يخطر حسين شوقي أباه بذلك خشية أن يغضب, لأن عزيز عيد لم تمنحه الطبيعة من الناحية الشكلية ما يكفل له النجاح في هذا الدور. ولما ألحّ عزيز عيد, اضطر الابن إلى إخبار أبيه الذي لم يغضب كما توهّم, بل ضحك كثيرا, وقال: ولم لا? سنشهد نسخة أخرى من مجنون ليلى ولكن فكاهية.

إنها ذكريات لا تتجانس والدافع المسيطر على مجرى تداعيات الذاكرة, وهو الاحتفاء بذكرى أب يرى فيه ابنه أعظم شعراء العربية في العصور الحديثة, وذلك على نحو تمتزج فيه عاطفة المحبة والبر بالأهل بما يمنع ظهور أو إبراز الذكريات السلبية الخاصة بنقد شعر الأب الحنون.

 

جابر عصفور 




تمثال أحمد شوقي, في روما





 





 





حسين أحمد شوقي, في مكتبته