تلك المسافة.. المتبقية حسن حميد

تلك المسافة.. المتبقية

يا إلهي, لكأنني تعبت, أو لكأن قدميّ ملتا المسير, أو لكأن ما حولي شلّ حركتي, ولم يتبقّ عليّ إلا مسافة أمتار وأصل إلى القرية التي أنشدها. فها هي ذي بيوتها تومئ إليّ بلونها الفضي الكابي, وها هو ذا دربها المترب الناحل يلتفّ حول الأشجار, والنباتات, والأزهار, ويتوارى كطفل يخادع والديه فيتجلى حيناً ويختفي حيناً آخر.

أجلس قرب طاحونة الماء التي يتعالى هديرها ويتداخل مع هدير معصرة الزيت القريبة كموسيقى لهذا المكان. أرى شلال الماء المنحدر من طرف الوادي العالي نحو دولاب الطاحونة الخشبي الكبير فيشدني منظره الخرافي لكأن ساحرات من عالم آخر يقذفن الماء من دلاء شديدة الاتساع واللمعان, إنني أسمع صوت الدلاء الضاجة ترشق شجيرات التوت البري ونباتات الحلفا الطويلة برذاذ الماء الندي الرطب. وأرى نهر الزيت الأخضر المتدافع في المجرى الصخري نحو جورة الزيت الواسعة, والجرار الصغيرة والكبيرة, الرمادية والبنية, يسند بعضها بعضاً كنساء هدهن التعب والنعاس فنمن متداخلات مثل الغيوم.

وفي الطرف البعيد ثمة خيول, وخراف, وأبقار, ورعيان يرسلون من ناياتهم أحزانهم كطيور طال عليها وقت الشتاء. وأدنو من مسيل الماء, أغسل يديّ ووجهي وقدميّ. والشمس تدير ظهرها للوادي, والطاحونة, ودغلة الأشجار الكثيفة مثل امرأة تودّع حبيبها على مهل وريث شديدين. وأرى الطيور تحلّق في الهواء الرهو مثل عناقيد الخرز, تحوّم هنا وهناك.. لكنها تظل مشدودة إلى بعضها البعض وكأنها تطير داخل قفص من الهواء. وأجول ببصري فأرى نساء طويلات, ناحلات, شامرات لأثوابهن الشفيفة يتوافدن على جورة الزيت, وقد حملن الجرار, ينحنين مثل شجر الصفصاف على الجورة, يغترفن الزيت اللامع بطاسات النحاس. يهمهمن بكلام متداخل ويتضاحكن, ويمضين في غدو ورواح ما بين الجورة والعربة الخشبية الكبيرة. يرتّبن الجرار بهدوء شديد. بعضهن يقف فوق العربة وقد بان بياض أجسادهن ندّاها كالضوء, وبعضهن أمام العربة يتمايلن كالراقصات, نساء ناشطات في المناولة, والهمهمة, والصخب العميم. أحسُّ بأن الهواء يأتي من عندهن, فتنشدُّ روحي إلى المرأى الجميل. فجأة, يقبل رجل يشير إليهن, ويهمهم, فيعتكر المشهد ويقلّ الهواء حين تتوارى النساء جميعاً لكأن الرجل أمرهن بالاختفاء.

أراه يركب في مقدمة العربة, ينهر الحصانين, ويفرقع بسوطه, ويصرخ مجلجلاً, فتفرُّ العربة خلف الحصانين كطائرة من ورق, ويُقبل نحوي, يقوده إليّ الدرب النحيل الملتوي, فرحتُ أرمقه بحنق لأنه غيّب مشهد النساء الرائعات, وراح يقترب نحوي أكثر, وصوت عجلات العربة يتداخل مع هدير الطاحونة, والمعصرة, وحفيف الأشجار.. فنهضت لكي أرميه بغضبي, ولكي أعتب عليه. ومن عجب أنه حين وصل إليّ, أوقف العربة, وقفز من مقدمتها برشاقة بادية, وتقدم نحوي مبتسماً, وقد شرّع ذراعيه في الهواء. لحظتئذٍ, لم أدر ما أفعله. بتُّ كمن دارت به الأرض بغتة, فانطوى غضبي وعتبي عليه. تقدمت نحوه, وأخذته إلى صدري, عفواً, تقدم هو نحوي, وأخذني إلى صدره, ومن عجب أن الرجل.. كان امرأة! شدّتني وهزّتني, وهي تقول لي:

لقد تأخرت!!

وأخذتني من يدي. سحبتني نحو العربة, وأضافت:

- انتظرناك طويلاً.. تعال!

قلت: إلى أين?!

قالت: إلى البستان!

قلت: البستان?!

قالت: البستان!

واستجبت للمرأة التي دعتني للركوب, فركبت إلى جوارها في مقدمة العربة, ودونما إبطاء نهرت الحصانين, فقفزا, وانطلقت العربة بنا. نظرت إلى المرأة فتأكدت من وجودها حقيقة. امرأة لها وجه كالقمر. والتفتُّ إلى الوراء حيث هي الجرار في صندوق العربة, فرأيتها لمحاً وهي في حالة عناق حميم وسط مفارش من القطن الشفيف الناعم. إنها الجرار ذاتها التي رأيتها من بعد, والعربة ذاتها.. أيضاً! ألتهم وجهي براحة يدي لأتأكد من أن ما يحدث لي يحدث في الواقع لا في الحلم. كانت الشمس هامة بالمغيب, والعربة تقرقع, والمرأة تغني بعذوبة ساحرة! تمنيت لو أنها تتوقف عن الغناء قليلاً لأقول لها: إنني لم أواعد أحداً. أنا لا أعرفها فكيف عرفتني?! لعلها أخطأت فخمّنتني الشخص الذي واعدته, لكنها تمضي في غنائها الشجي, ثم تتوقف للحظة واحدة, تميل نحوي, وتقول:

- هي ذي عادتنا, نستقبل ضيوفنا بالغناء.

هممت أن أشكرها, لكنها لا تنتظر شكري لها, فتعاود الغناء ثانية. فكّرت أن أقول لها:

- إنني جئت إلى هنا قاصداً (القرية) من أجل أن أخبر عمي بأن أبي مات! وأن أمي أرسلتني إليه لأسأله إن كان يريدها زوجة لتعلن ذلك أمام الجميع, وإلا فإنها ستتزوج, لأول مرة في حياتها, الرجل الذي يدق له قلبها منذ أربعين سنة. صحيح أنه في السبعين من عمره, لكنها ستتزوجه. تقول: يكفي أن أراه قبالتي, أن أشمّ رائحته, وأن أغسل جسده وثيابه, وأراه في يقظته الأولى, وفي وقت المنام. يكفي أن أصنع له لقمته, وأطوي ثيابه بيديّ, وأن أمشي وإياه مشوارنا الذي حلمنا به طويلاً عند الغروب بين أشجار الرمان وأجمات القصب, أن نجلس فوق مفارش العشب وحيدين في فضاء لا شيء فيه سوى تحويمات الطيور, وأجراس قطعان الماشية التي تعلن ببطء.. دنو المساء.

وددتُ أن أقول لها: إن أمي أوصتني أن أعود إليها الليلة, وأخبرها بجواب عمي! وأنني قلت لها: إن تأخرت, واستبقاني عمي عنده, فاعلمي أنه لا يريدك, ولك حرية اختيار الرجل الذي تريدينه, وأنا لا أريد تبديد الوقت دون أن أعرف رأي عمي لأحوز رضا أمي. لكن المرأة تمضي في غنائها الساحر فلا أتجاسر على مقاطعتها. كما أن أشجار الدرب ذات الهيئات الخرافية, الأشجار الملأى بالطيور متعددة الألوان والحجوم, ومساقط المياه العلوية التي ترش الأشجار والنباتات بالرذاذ طوال الوقت.. جميعها تشدّني إليها, فأنسى نفسي.

كنت في حلم أو ما يشبه الحلم, فالعربة تصعد إلى الأعلى لكأنها تقصد الجبل لا البستان, والمرأة تغني, والغيوم تحيط بنا, وتهبط نحو السفح, غيوم بيض.. تهبط, تهبط, تهبط, ناعمة وخفيفة ذات نوافذ دائرية ساحرة. لكأنني لا أعرف المكان, ولم أمر بهذا الدرب قط. بدوت في عالم نصفه خيال, ونصفه دهشة. فجأة, تتوقف المرأة عن الغناء, وتتوقف العربة أمام كوخ من القصب. تقفز المرأة إلى الأسفل, وتطلب مني أن أقفز أيضاً, فأقفز من دون أن أسألها لماذا! أراها تدفع باب الكوخ وتدخل. وتدعوني إلى الدخول أيضاً, فأمشي وراءها كالمنوّم. أرى في صدر الكوخ امرأة عجوزاً بيضاء, وجهها حلو, وشعرها مضفور في جديلتين طويلتين. بدت على غاية من النظافة والترتيب, فالأواني, والأطباق, والنباتات, والأشكال, والمنحوتات الخشبية والفخارية المحيطة بها.. جميعها موضوعة في مكانها الأبدي. تأخذني المرأة من ذهولي حين أسمعها تقول للعجوز: هو ذا ضيفنا! فأنتبه للعجوز التي راحت تمعن النظر إليّ لكأنها تتفحصني لأمر ما. وأخطو نحوها, وقد مدّت نحوي كأساً فخارية. آخذها من يدها, وقد اقتربت منها كثيراً, فبان جمال وجهها الأخّاذ. قالت:

- هذا عصيرنا.

فرفعت الكأس وشربت. كان العصير لذيذاً وحلواً, فرغبتُ بالمزيد, لذلك, أدنيتُ الكأس من إبريقها الفخاري لتملأها لي مرة أخرى, لكنها تجاهلتني, ونهضتْ. مشت نحو العربة ومشينا, أنا والمرأة, وراءها, ثم صعدنا. فقرقعت العربة ومشت في درب صعب وعر, حاذته ساقية ماء سريعة الجريان, وأشجار عتيقة ضخمة وطويلة تلاقت ذؤاباتها في الفضاء العالي كعرائش العنب. ولم تمض العربة بنا طويلاً فهبطنا نحو مرج من العشب الأخضر اللامع, وقد توازعته نساء عديدات ناشطات في الأحاديث, والحركة, والغناء, والرقص, والجولان... واقتربنا أكثر. يا إلهي, من أين لهذا المكان كل هذه النساء, ومن أين لهن كل هذا الجمال الباذخ, ولماذا هن في هذا الحبور والسرور, والودّ الكثير?! ووددت أن أسأل العجوز كفاتحة للحديث معها.. عن كل هذا, لكنني أحجمت لأنني رأيتها مغمضة العينين, وشفتاها تتراجفان باضطراب, بينما المرأة التي اصطحبتني تغني, وأسرني المشهد حقاً, نساء بشعورهن الطويلة, وقاماتهن العالية, ونحولتهن الرقيقة. بدَون كما لو أنهن أعواد من الخيزران تموج في منفسح الهواء الخفيف. وأعود من المشهد الخرافي حين تقف العربة, أسمع المرأة التي قفزت إلى الأسفل برشاقة قطة, تقول لي:

- هيا, تعال وساعدني لنطلق الحصانين في الفضاء الرحب.

فأساعدها, وحين ترفع ظهرها, تقول لي:

- انظر, هذا هو البستان, انطلق وتعرّف, فالجميع هنا.. بانتظارك!!

وانصرفت عني كما انصرفت العجوز التي بدت لي أطول مما ينبغي وهي تستدير وتبتعد. ومن مكاني رأيت عدداً كبيراً من الفتيات يركضن فوق مفارش العشب في صخب طفولي عذب, فيه مناورة, وروغان, وصياح, ونداءات, ووقوف, ووقوع, وانحناء, وركض (يا لركض النساء... ما أجمله)!, وقبل أن أخطو نحوهن, التفت حولي مجموعة من الفتيات لكأنهن أعمدة من البللور الصافي أو الضوء الشفيف. كنّ صامتات مبتسمات, فأبتسم لهن, ورأيت واحدة منهن تمدّ يدها نحوي, فمددت يدي إليها, فأخذتني, والفتيات حافات بي. يا لهذا اللطف الذي لا يدانى. ومشينا معا. مررنا بجداول صغيرة, وأجمات من القصب, والورد, وأكواخ صغيرة واطئة مدهونة باللون الأبيض, ومرّت بنا طيور كثيرة لكأن الدروب تركض في دمنا, وأخيراً, جلسنا حول غدير ماء تحيط به أعواد الحلفا, والقصب, والسعد, والبربير كالسياج, وعلى حافته وقفت طيور من البط والأوز تتنافش وتصخب بين حين وآخر, وهالني أن أرى الفتيات الجميلات يقفزن واحدة واحدة إلى داخل الغدير بأثوابهن الشفيفة الملوّنة في طقس لم أعرفه من قبل, ورحت أنتظر خروجهن لأرى كيف شكّل الماء أجسادهن, لكن أيّا منهن لم تخرج, انتظرتُ أكثر, ولم يخرجن, لحظتئذ بدأت أصرخ وأنادي, فلم يهب لنجدتي أحد, بل إن طيور الأوز والبط لم تفزع, والسماء لم تعتكر وأعواد الحلفا لم تضج, وقد غرقن جميعاً, وتملكني الحزن وأنا أنتظر أن أرى أجسادهن وهي تطفو على صفحة الماء, لكن ما من جدوى, فشرعت أبكي لأبدد حيرتي وقلقي, ولأعيد الفتيات إليّ مرة أخرى, ولكن من دون فائدة. ولم أدر كيف انتشلتني من بكائي وعجزي مجموعة من الفتيات الرائعات. بدون أكثر جمالاً وحلاوة وطولاً من فتيات الغدير. رأيتهن يتقدمن نحوي وبأيديهن سلال صغيرة. أومأت لي إحداهن لكي أمشي فمشيت معهن وأنا أديم الالتفات نحو الغدير لعل فتياته يخرجن منه, لعل فرحتهن تنتهي, ولكن لم يحدث شيء من هذا! وانقدت للفتيات, وقد ملأ نفسي الأسى, والخوف, والقلق. ودونما تردد شرعت بمعاونتهن في قطف حبات الرمان, وأكواز التين, وعناقيد العنب. طوّفنا طويلاً بين الدوالي وأشجار التين والرمان, لكن السلال لا تمتلئ, والفتيات يتبادلن أدوار الغناء العذب. كان منظرهن بهيجاً وهن يصعدن أشجار التين حافيات, والواحدة منهن تقطر عسل أكواز التين في فم الأخرى, ولكأنني تعبت, فجلست, لحظتئذ أخذت كل واحدة منهن تأتي بسلتها إليّ. تضعها قربي وتمضي لكي تغسل يديها ووجهها وقدميها, وهكذا إلى أن أحاطت بي السلال كلها, وظللت أترقّب عودة الفتيات, لكن أيّاً منهن لم تعد, فبدوت كأنني حارس السلال في الكرم الوسيع, وخفت أن تغيب الشمس وأنا في هذا البستان العجيب, فنهضت تاركاً السلال خلفي, ولم يكن في ذهني سوى أن أقطع المسافة القليلة المتبقية عليّ للوصول إلى قرية عمي, فأخذت الدرب, ومشيت فيه خطوات قليلة فقط ثم توقفت فجأة حين طلعت علي العجوز الطويلة الناحلة ذات الوجه الجميل. وقفت قبالتي تماماً, وقالت:

- تعال, سأستضيفك يوماً آخر... عندي!

قلت بفزع: لي يوم هنا?!

قالت: وسأستضيفك يوماً آخر.

قلت: لكن أمي تنتظرني!!

قالت: اتبعني.

واستدارت, فاستدرت فراراً, وأنا أسمع صوتها يطردني (تعال, تعال), مضيت في طريق العودة إلى أمي, ولم أقطع تلك المسافة القليلة المتبقية عليّ لكي أخبر عمي بأن أبي مات, وأن أمي تسأله إن كان يريدها زوجة له, ورجوت الله ألا يكون عمي عرف بموت أبي, فتزوج أمي... في غيابي!!

 

حسن حميد