توفيق يوسف عواد وفن القصة في لبنان سهيل إدريس

توفيق يوسف عواد وفن القصة في لبنان

على الرغم من أن آثار توفيق يوسف عواد الذي ولد في بحر صاف عام 1911م - محدودة, إلا أنها تنطوي على جميع مزايا النتاج الفني المبتكر, وتكشف عن قيمة مزدوجة: تاريخية وإنسانية.

التنوع هو الطابع الرئيسي لمجموعات عواد: (الصبي الأعرج) (1936) و(قميص الصوف) (1937) و(العذارى) (1944) فالتحليل النفسي الغني يظهر في القصة الرئيسية, التي سميت المجموعة الأولى باسمها. إنها قصة صبي أعرج كان عمه يسومه ألوان العذاب بقسره على الاستجداء وضربه ضربًا شديدًا حين يقصِّر في جلب المال, ثم يحدث أن يصدر قانون بمنع الاستجداء, فينتقل الصبي إلى بيع الحلوى, ولكن بعض صبيان الأزقة كانوا يضربونه ويأكلون حلواه, حتى علّمه بائع الحلوى اللكم والضرب, بحيث كان ينتصر على الأولاد. وفيما هو عائد ذات يوم, وقد استقلّ الترام لأول مرة, اعترضه قاطع التذاكر لقذارته ودفع به أرضًا, فسقطت منه صُنْدوقَتُهُ, ومرّت عليها سيارة فحطّمتها, وحين عاد الصبي الأعرج إلى الكوخ, نال من عمه جزاء قاسيًا. ثار في الليل فنهض غاضبًا وأخذ يضرب بالعصا عمه ضربًا شديدًا, وفي تلك الأثناء, سال زيت المصباح, فشبت النار, وولى الصبي هاربًا, ولم ينس أن يغلق الباب. فاحترق الكوخ وعجز العم عن الخروج منه فقضى فيه.

فردّ فعل الصبي في هذه الأقصوصة رد فعل بشري محض, وسلوكه مبرّر بهذا الظلم الذي كان يتعرض له. وهكذا عمد إلى استعمال القوة التي علمها إياه عمه, لينتقم من عمه بالذات. ولولا أن المؤلف دفع بخاتمة القصة إلى ما وراء احتمال الوقوع, إذ أنهاها باحتراق الكوخ ولم يكن به حاجة إلى ذلك, ولولا أنه كان يتدخل أحيانًا ببعض تعليقات تزعزع السياق لخلت هذه الأقصوصة التي تصور عاقبة الظلم من أي مأخذ فني.

وأقصوصة (المقبرة المدنسة) في هذه المجموعة تحكي حكاية امرأة قروية كانت تمارس البغاء في المدينة. وقتلها ذات يوم عشيق لها, فحملت إلى مسقط رأسها في القرية حيث دفنت. وتنشغل القرية كلها بالقصة, وتحكي عن غنى المرأة, وتروي أن خاتمًا ثمينًا لايزال في إصبعها. وهنا يبرز مختار القرية غاضبا يريد أن يحرق الأكاليل والصليب الذي وضع على قبر الزانية التي لا تستحق هذا الشرف.

ويتسلل في الليل إلى المقبرة, فينبش القبر ويقطع إصبع الزانية الذي كان فيه الخاتم, ويعود جزعًا وهو يرتعد من الخوف, مما خيّل إليه من رؤية الأشباح. وفي اليوم التالي, رأى أحد الرعيان بالقرب من المقبرة إصبعًا مقطوعًا فيه خاتم, فخاف لهذا المنظر, وحسبه إصبع جنية, كما كانت جدته تروي له, فجاء بحفنة تراب, وطمره بها ثم مضى في سبيله.

وفي هذه القصة تصوير صادق للمشاعر التي تنتاب أهل القرية تجاه امرأة ضلت طريقها. وبطل القصة هو طبعًا المختار الذي يظهر فيما بعد أنه كانت له علاقة آثمة بالمرأة, وأنه كان السبب الأول في دفعها إلى البغاء. ولا ريب في أن تحليل عواطف المختار وهو في المقبرة يبلغ درجة طيبة من العمل والجمال, وكذلك الصفحة التي تصور أشباح القبور, بينما كان المختار يغادر المقبرة بعد أن قطع إصبع الميتة.

ولكن في القصة خطأ تكنيكيّا واضحًا, هو أن المؤلف كشف لنا في البداءة عن نية المختار في أن يسرق الخاتم. حين جعله يحدث نفسه قائلا: (أنا مجنون.. كان من الواجب ألا أخبر أحدًا بالخاتم, الذي لايزال في إصبعها, ثلاثمائة ليرة عثمانية) فإن هذه العبارة أفسدت على القارئ لذة المفاجأة, فراح يتابع القصة وهو على علم بأن المختار سيذهب إلى المقبرة ويفعل ما فعل. ولو أن المؤلف أهمل هذا التفصيل الدقيق لجاءت قصته أروع وأمتن.

بدلا من الضعف

ومن الأقاصيص التي تتميز في هذه المجموعة بالتحليل العميق والسرد الممتع اللذين ينمان على قدرة المؤلف القصصية في التشويق والاجتذاب (الأرملة) التي تستعيد بطلتُها, بعد موت زوجها, قصة حب سابق لها. فهي قد كانت تهوى شابّا لقوته ووقاحته, بينما لم تكن تحب زوجها لضعفه واستسلامه لرغائبها. ومثل هذا الموضوع مطروق في أقصوصة (الرسائل المحروقة), التي تصور بعذوبة خضوع الفتيات للقوة في الحب, وتفضيلهن إياها على الضعف والتمهل والهدوء. وموضوع الحنين إلى الأولاد الذي طرقه ميخائيل نعيمة في قصصه قد عرض له توفيق يوسف عواد في (أحد الشعانين), في إطار من استعراض أولاد القرية. ويعالج المؤلف موضوع الحب المراهق في (الشاعر) وهي قصة طالب يقع في حب امرأة إيطالية تنزل فندق أبيه. ثم تغادره إلى بلادها مخلفة في قلب الفتى الأسى واللوعة, أمّا حكاية الهجرة والعودة وما بينهما من أشواق ومآس ولوعات, فتحكيها قصة (جدي وحكايته) على أن في هذه المجموعة أقاصيص لا تخلو من تفاهة, وهي أشبه بالأخبار الصحفية أو بالصور السريعة التي تعني شيئا من مثل (الجرذان الشتوي و(سقاء القهوة) و(عمر أفندي).

وقد سجل المؤلف تقدما كبيرًا في مجموعته الثانية (قميص الصوف) التي صدرت بعد عام فقط.

وهذا ما يظهر لنا التحليل. فقصة (قميص الصوف) تروي حكاية حب رءوم عميق: أرملة ترفض الزواج حفاظًا منها على ذكرى زوجها ورغبة في تكريس نفسها لتربية ابنها. وقد توجه هذا الابن, في مطلع شبابه إلى المدينة فاختار له فيها فتاة مدنية وتزوجها على مضض من والدته. ولكن هذه كانت تحاذر مصارحته بحزنها حتى لا تشق عليه. وقد امتلأت سعادة يوم تلقت منه بعض الخيطان القطنية كهدية بمناسبة العام الجديد وبشرى بقرب زيارته لها. ولكن الابن اضطر إلى ترك القرية, بعد ليلة واحدة قضاها فيها, نزولاً عند رغبة زوجته. ووقفت الأم الحزينة تودعه بعين دامعة. وتقدم له قميصًا من الصوف الذي كان قد أرسله إليها. (وحين اختفت السيارة, شعرت الأم على فراش السرير, وعلى ثياب حدادها, وفي أعماق نفسها رطوبة اليأس وظلماته وثقله, كما لو أنها تعود من دفن زوجها.. كما لو أنها تصبح أرملة للمرة الثانية).

ولا شك في أن عمق حب هذه الأم, لا يمكن أن يتجلّى في مثل هذا الملخص. فهو إنما ينتفض بالحياة عبر هذه التفاصيل الصغيرة التي تجعل من تلك الأم كائنًا شديد الحساسية: في جميع حركاتها, في تلك العنايات التي تحيط بها ابنها, عندما تناديه إلى غرفتها لتعانقه بالخفية عن زوجته, وعندما تدلف على رءوس أصابعها إلى الغرفة التي ينام فيها, لتنحني فوقه وتقبل قدمه.. إن عواد يصور هنا (الأم) نموذجا لجميع الأمهات.

انتقام العميان

ولسيت قصة (الوسام) بأقل تأثيرًا. إنها تصور لونًا من الانتقام الغريب ولكنه الوحيد الممكن, يقوم به عدد من العميان يستغلهم ويعذبهم كاهن منافق. في أثناء حفلة كان المنتظر أن يأخذ فيها هذا المدير وسامًا تقديرًا لخدماته, ينفجر أعمى عهد إليه أن يخطب خطابًا ترحيبيًا بالشتائم والسباب يوجهها ضد الظلم والاستغلال اللذين كان هو ورفاقه ضحية لهما. وقد أصاب الكاهن يومذاك نصيبًا طيبًا من ضربات العميان وركلاتهم, واضطر إلى الاختفاء من الحفلة التي أقيمت على شرفه!

وتصور (توها) أحد تلك التقاليد السخيفة التي لاتزال منتشرة في الشرق: كره الآباء للبنات الوليدات. وفي هذه القصة يدفع الكره أبًا إلى أن يقتل ابنته, ولكنه لا يلبث طويلاً حتى يندم ندمًا شديدًا.

ونذكر من قصص عواد الرائعة قصتي (بهية) و(ميثاق الموت) اللتين تحتفظان بقيمة تحليلية خاصة.

أما الأولى فحكاية راقصة تستشعر سعادة عظيمة بأن تجد رجلا يكنّ لها الحب النبيل الشريف. وحين تستسلم له, تفعل ذلك وهي تبكي. وتروي القصة الثانية بأسلوب مؤثر قصة جندي يكره الحرب كرها شديدا بالرغم من أنه شجاع جدا, ولكنه يفكر دائمًا بالموت. وقد ذهب بالفعل إلى ساحة الحرب فأبلى فيها وعاد إلى بيته سليمًا معافى.. ولكنه مع ذلك سقط أمام باب بيته جثة هامدة, لأنه كان يفكر طوال وقته بأنه لا بد ميت قبل دخول الدار. وقد وفق المؤلف توفيقا عظيما في تصوير هذه (الفكرة الراسخة) أو هذا (الوهم), أو (الإيحاء الذاتي). ومن اليسر أن نلاحظ أن توفيق يوسف عواد يحاول في جميع هذه الأقاصيص أن يعبر عن قسم كبير من العواطف الإنسانية, ويعيشها في أجوائها النابضة الملونة المنوعة.

والحق أن فن الأقصوصة يبلغ لدى المؤلف درجة طيبة. وهو واع أشد الوعي لمقومات هذا الفن, إنه يدرك أن تفصيلاً واحدًا غير محتمل الوقوع أو لهجة غير صادقة جديران بهدم الأقصوصة كلها, وهذا ما يدفعه إلى أن يوفر لأقصوصته الطبعية والدقة في وقت واحد. فالتدفق والنظام يمتزجان فيها امتزاجًا تامّا فيسبغان عليها السحر كله, ولا تقتصر أقصوصة المؤلف على عرض حكاية أو حادث, ولكنها إذ تروي القصة تمنحها كثيرًا من الضوء والوضوح, فليست الحادثة هي المهمة. وإنما جمال القصة ناتج عن أنها لاتكاد تكون مؤلفة من شيء, أو أنها ليست مولفة إلاّ من لحظة أو حركة أو إشعاع تعزله وتكشفه وتملأه برصيد غني من الإحساس وطاقة كبيرة من التأثير. والحق أن المؤلف (يعرف كيف يجذب قارئه منذ اللحظة الأولى ويحبس عليه أنفاسه).

الخلاص من النير العثماني

على أن جميع مزايا توفيق يوسف عواد الروائية تجتمع في روايته الرائعة (الرغيف) (1939).

سامي عاصم وطني لبناني ينتمي إلى تلك الطبقة المفكرة الواعية التي كانت تلتمس في العمل القومي تبريرًا لحياتها ولوضعها المعنوي. والقصة تبدأ في قرية لبنانية صغيرة, ساقية المسك, في أثناء الحرب العالمية الأولي, عشية الثورة العربية الكبرى عام 1916. وكانت البلاد العربية تتجمع لتتحرر من النير العثماني, وكانت السلطات تلاحق سامي عاصم, فالتجأ إلى كوخ صغير في الجبل, كانت توافيه إليه حبيبته زينة فتحمل له طعامه وتدلي إليه بأخبار البلاد التي كانت تبلغها. وكان سامي قد علم أن عددًا من رفاقه قد أعدموا على أيدي الترك, ولكنه كان ينتظر, وهو في مخبئه, فرصة مناسبة تمكنه من العمل, غير أن هذا الجمود والتواني ما لبثا أن ثقلا على ضميره, فزيّنا له أن وضعه لا يخلو من جبن ونذالة. ولعله شاء أن يعزي نفسه من ذلك حين عمد إلى قتل جندي تركي فر من الجيش, وظل سامي بعدها ينتظر, حتى وشي به بعضهم, فألقى الترك القبض عليه وساقوه إلى سجن عاليه بانتظار محاكمته, وقد بذلت زينة جهودًا كثيرة وقاست صعوبات جمة ليتاح لها رؤيته في سجنه, حيث كان يسام العذاب الشديد لأنه كان يرفض الإدلاء بأي معلومات عن مخابئ رفاقه. وأذيع يومًا أن سامي وقائد حرس السجن قد لاذا بالفرار, وبعد بضعة أيام, كان الناس يقفون أمام جثتين مستورتين كان الأتراك يقولون إنهما جثتا الرجلين الفارين. وإذ رأتهما زينة, انهارت من اليأس, ولكننا نراها بعد حين قد استبدت بها عاطفة غريبة, فلم ترفض دعوة الحاكم التركي العام الذي كان يرغب فيها منذ زمن, فإذا هي تدلف إلى قصره وتظل ساعات إلى جانبه تتأمله وهو يشرب ويثمل: وحين أقبل عليها يود اغتصابها تناولت مسدسه وقتلته. وفي هذه الأثناء أعلنت الثورة العربية في الحجاز ضد الأتراك, وأصابت المجاعة البلاد العربية التي جعلت تسعى وراء خبزها مثل سعيها وراء استقلالها, وما لبثت زينة أن انضمت إلى فرقة من الثائرين الذين كانوا يقومون بأعمال التخريب في لبنان, كألوف الشبان في سائر البلاد العربية, وبلغها يومًا أن سامي لم يمت, وإنما التحق بعد فراره بالمركز الرئيسي لحركة الثورة التي أصبح الآن أحد قوادها. وقد ظل يقاتل ويقود الحملات ضد الترك حتى سقط في ميدان المعركة, ولكن النصر كان قد كتب للمجاهدين العرب, ولم تستطع زينة بعد أن بلغها النبأ أن تمسك دمعة حين رأت الثوار العرب يدخلون منتصرين إلى قريتها الصغيرة. إن سامي لم يكن إلاّ أحد هؤلاء الأبطال الذين اضطلعوا بمهمتهم وقاموا بنصيبهم في صراع العرب من أجل استقلالهم ورغيف خبزهم.

إن رواية (الرغيف من الروعة والحيوية وشدة التأثير بحيث تعصى على التلخيص, ونحن لا نخشى المبالغة, ولا نخاف أن نتهم بالغلو وإطلاق الكلام حين نقرر أن هذه الرواية بموضوعها هي من أروع الروايات العربية الحديثة وأبعدها مغزى, ذلك أن موضوع (الرغيف) هو أجمل موضوع في تلك الحقبة من التاريخ العربي التي تسجل يقظة الشعور الوطني في مختلف البلدان العربية, إنه بما يستشرفه من إمكانات وما يفتحه من آفاق موضوع غاية في الخطورة, ذلك أن (الرغيف لا يمجد فقط أعظم حدث في التاريخ العربي المعاصر, وإنما يمجد كذلك سلسلة من الأحداث لا تقل أهمية ولا تزال جارية حتى أيامنا هذه , وستمتد إلى المستقبل القريب أو البعيد. إن (الثورة العربية) لم تنته بعد, وأن الاستعمار لم يزل نهائيا. وأن الاستقلال لم يتم. وأن الصراع مازال قائما. إن العرب لايزالون في جميع بلدانهم يسعون وراء الرغيف. وإن رواية (الرغيف) تظل دائمًا أروع نداء وأجمل دعوة إلى الاستقلال والحرية.

وإذن, فإن موضوع هذه الرواية يتناول الانبعاث العربي, وهو يفوق دون ريب أجمل روايتين عربيتين كتبتا في الموضوع نفسه: نقصد رواية توفيق الحكيم (عودة الروح), وهو يتفوق عليها بأنه يصور حركة أوسع وأشمل وصراعًا دخلت فيه جميع الشعوب العربية لا شعب واحد فقط, ومن هنا دعوته إلى ما ينشده العرب جميعًا, الوحدة الكاملة. ثم إنه يتفوق على رواية شكيب الجابري (قوس قزح) بأنه يستمدّ مادته من الأحداث الواقعية الحقيقية.

القومية والدين

ومن جهة أخرى, يثير المؤلف, ضمن إطار متماسك, سلسلة من القضايا القومية والاجتماعية التي لاتزال قائمة, ومن هنا تصدر أهميتها. فهو يعالج قضية القومية والدين المعالجة التي يكاد يتبناها اليوم الجيل العربي الواعي الذي هو مناط الأمل في نهضتنا الجديدة, ويحمّل نظريته بطل الرواية سامي تلك النظرية التي ينبغي أن يعيها اللبنانيون على حقيقتها ليقضوا على آفة الطائفية التي تشل كل تقدم ينشدونه.

وتعالج الرواية إلى جانب ذلك عددًا من القضايا الاجتماعية في هذا الإطار الفني, منها قضية الإقطاعية الجشعة التي تعبر عنها زينة حين تقول لأخيها الفتى: (إبراهيم بك فاخر عدو لا يقل شره عن الأتراك, بل إن شره أعظم. رئيس العصابة البيضاء كان يقول لي: البك وأمثاله هم العدو الداخلي, والأتراك العدو الخارجي. الأتراك يسلبون الناس حريتهم, وإبراهيم بك فاخر وأمثاله من الأغنياء الجشعين يسلبونهم خبزهم, الخبز والحرية, هل يستطيع الإنسان أن يعيش بدونهما?).

ويبقى أخيرًا فنّ المؤلف في (الرغيف). وتأليف الرواية يدل على أن عواد صاحب نظرية واعية في الفن الروائي. فهناك بناء متماسك يسوق القارئ عبر الأحداث المختلفة بثقة واطمئنان. هنالك أولا الهيكل الذي عولجت فيه القصة بقسط كبير من التركيز: وحدة فنية تصور تطور الأحداث وفق تدرج عميق المغزى. فالرواية تبدأ بوصف (التربة) الخصبة التي ينبغي أن تقذف فيها بعد حين (بذور) المقاومة, ولا يلبث (المطر) طويلاً حتى يهطل عليها (غيثًا), فينبت (السنابل) المليئة بالوعود, ويكون (الحصاد) نتيجة هذه الثورة, وما كان أخصبه حصادًا!

وتوزيع الرواية بين مختلف أوساط الأبطال أنفسهم يجري وفق تأليف متقطع, حسب دفعات متميزة تتقدم كل شخصية خلالها خطوة, ثم يتركها المؤلف إلى سواها, ولكن يحدث أن يطغى قسم ذو أهمية خاصة على قسم آخر, فيتابع اندفاعه بقوة. غير أن تكنيك التدرج يظل شديد التماسك, وتبدو براعة المؤلف خاصة في أنه يجعل أبطاله الذين وزعهم في أول الرواية يسيرون سيرًا لا تصنع فيه بحيث يجتمعون في آخر الرواية وقد استكملوا أسباب تطورهم الطبيعي. ثم إن هذه الطريقة الروائية ترتفع بأسلوب المؤلف الإيحائي الذي يخلق الجو المناسب بلمسات بارعة ولغة بعيدة عن الزوائد والنوافل.

غير أن لنا مأخذين اثنين على الرواية: أولهما أن في القسم الأول تفاصيل كثيرة لا تستجيب كلها لمبدأ الضرورة الروائية وهي لهذا لا تخلو من إملال. وثانيهما أن المؤلف يتدخل, في مواقف قليلة جدّا, لشرح بعض الأحداث, فيكون هذا التمهيد والتفسير مفسدة لفنية القصة. إذ يتخذ لهجة التقرير ويحرم القارئ لذة المتابعة والمفاجأة. وأكتفي بمثل واحد. فحين يجتمع بطل القصة سامي بصديقه كامل أفندي, فيتبادلان بعض الإشارات ثم يتعانقان, يتدخل المؤلف فيقول: (تلك الإشارات والحروف هي علامة التعارف بين أعضاء الجمعية القحطانية, إحدى الجمعيات السرية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت في معظم الأقطار الناطقة بالضاد وبين ضباط الجيش وجنوده العرب خاصة, ويدبرون في الخفاء معدات الثورة ويهيئون يوم الانتفاض على الدولة). فإن المؤلف هنا يكشف بتدخله عن كل ما سيلي من الرواية.

على أن هذين المأخذين لا ينقصان شيئًا من روعة (الرغيف). فإن هذه الرواية تصور حقبة مهمة جدّا من التاريخ العربي المعاصر لم يفكر أحد سواه في تصويرها. وهو إذ يعكس أعظم الأماني القومية يسهم في خلق نموذج للبطل المفكر المكافح الذي يستطيع قبل أي إنسان آخر أن يعمل على تحقيق هذه الأماني. ثم إنها رواية عظيمة بما توفره من توازن عادل بين التحليل النفسي والحس الدراماتيكي.

إن (الرغيف) تتيح لتوفيق يوسف عواد أن يحتل مركزًا ممتازًا في سلم الروائيين العرب المحدثين الذين يمثلون الفن القصصي خير تمثيل, كتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وذي النون أيوب ونجيب محفوظ وشكيب الجابري(1)
------------------------------
(1) فصل من دراسة شاملة أعددتها لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون عام 1953 ولم يتح لي نشرها, وقد ألقيت فصول (القصة في لبنان), ومنها هذه الدراسة في منشورات (معهد الدراسات العربية العالية - جامعة الدول العربية) عام 1957 تحت عنوان (محاضرات عن القصة في لبنان).

 

سهيل إدريس