قصة × صفحة (جبان) مهدي زلزلي

قصة × صفحة (جبان)

كانت الطائرة تحلق في الفضاء, وكانت الذكريات تستولي على أفكاري لدرجة شعرت معها بأن كل من على متن هذه الطائرة كانوا يعرفون بقصتي المخزية, هذا يضحك باستهزاء, ذاك ينظر إلي باحتقار وآخر يهز رأسه أسفًا على عبلة التي أتخيلها وهي تستصرخهم ليحكموا عليّ بما أستحق جزاء ما فعلت. لست أغالي كي أستدرّ عطفًا أو أستعيد شيئًا من الاحترام.

ولكن هذا ما كان يدور في رأسي فعلاً, فإذا كانت القاعدة تقول إن كل شيء يبدأ صغيرًا ثم يكبر إلا الحزن, فلا بد أن لكل قاعدة شواذ كما في حالتي الآن, لقد انحسر حزني فعلاً مع مرور الزمن ولكن بنسبة ضئيلة دون أن يعرف النسيان طريقه إلي. ثم عاد هذا الحزن وانفجر في هذه اللحظات التي أعود فيها إلى وطني وأستحضر فيها بقوة خيال عبلة, تذكرت اللحظة التي التقينا فيها للمرة الأولى, وكان حبا... لا, سأعترف بأنني لم أحبها, فلو أحببتها لما فعلت معها كل ما فعلت, ربما أعجبتني فقط وراقني أنها رقم يضاف إلى كثيرات سبقنها, فقد كانت الجرأة - على أي حال - تلازمني في هذه المواقف دون غيرها, يومها أنشدتها شعرًا لم تسمع مثله من قبل, أذكر الآن المناكفات التي كانت تدور حول أي موضوع نتكلم فيه فكان الخلاف بين أفكار متحمسة وأخرى انهزامية حسب رأيها, بينما كنت أراه خلافًا بين آراءٍ عقلانية وأخرى متهورة وطائشة إلى أن كان نقاشنا الأخير, حين بدأت الأنباء ترد عن احتمال دخول قوات العدو إلى أرضنا فأخذت قراري بالهجرة بعدما كنت مترددًا, بل إنني كنت رافضًا بشدة للهجرة - قالت لي - وهي كانت معروضة عليك من أحد معارفك المهاجرين منذ فترة طويلة, كما علمت.

فتململت وأجبتها بأن التطورات الحاصلة أجبرتني على تغيير موقفي.

- هل تخاف من الحرب?

- لا, ولكن الانتحار محرم في ديننا, والبقاء في البلد في هذه الأوضاع يشبه الانتحار.

- ولكنني باقية, وسأكون ضمن دائرة الخطر. ألست خائفا علي?

- تعلمين أنني أحبكِ وأخاف عليكِ, ولكن فليقرر كل واحد منا مصيره بنفسه فلا أضغط عليكِ, ولا تضغطين عليّ, ثم إنكِ لن تفرحي إذا رأيتني ملقى على الأرض, وعيناي مفتوحتان باتجاه السماء.

- حسنًا, لن أقبل يديك حتى تبقى على كل حال, فأنت حر, وأرجو أن يكون قرارك صائبًا, أما أنا فسأبقى هنا, وأعتبر صمودي أقل ما يمكن أن أفعله إلى أن يتسنى لي فعل المزيد, إلى اللقاء.

ومشت حزينة, غير آبهة بنداءاتي, والصحيح أيضًا أنني لم أكن مستميتًا لإرضائها, فالحياة غالية, ومرحلة جديدة في حياتي كان يجب أن تبدأ.

بعد فترة وجيزة, كان الموضوع قد انتهى بالنسبة إليّ, صرت خارج الوطن إلا أن الأنباء كانت تصلني وتصف ما كان متوقعًا. وعلمت بانخراط عبلة في صفوف الثوار, إلى أن سمعت بنبأ استشهادها أثناء مشاركتها في هجوم بطولي على نقطة للعدو, ويومها انقلب كياني وشعرت بفداحة ما ارتكبت إذ تركتها ترحل وفي قلبها غصة على من تركها وترك وطنه وهما في أمس الحاجة إليه, لا أظن أنها ماتت حاقدة عليّ, ولكنها بالتأكيد كانت حزينة وآسفة, شعرت في تلك اللحظة بأنني أحترمها وأحبّها, حبًا حقيقيًا هذه المرة, رغم أن بقائي لم يكن ليحميها ويبقيها بين الأحياء.

على الأقل كانت ستموت راضية, ولهذا يتعاظم شعوري بالذنب والجبن يومًا بعد يوم وخاصة بعد أن خرج المحتلون من قريتنا بعد تلقيهم ضربات موجعة من الثوار.

وصلت إلى قريتي واتجهت نحو قبر عبلة, فوضعت عليه باقة الورد وذرفت الكثير من الدموع, وأنا عائد شعرت بأن هذا أكثر تصرفاتي سخفًا بل وكأنني سمعتها تضحك وتقول: باقة ورد?! أهذا كل ما استطعت فعله?!... جبان!

 

مهدي زلزلي