30 عاما على حرب العاشر من رمضان: ماذا حدث في مسرح العمليات?
30 عاما على حرب العاشر من رمضان: ماذا حدث في مسرح العمليات?
سيتحدث التاريخ في صفحاته عن أنه ما من أمة كافحت وناضلت في سبيل الحفاظ على حقها التاريخي في الأرض المقدسة مثل العرب, إذ شاركت البلاد العربية - كل بما لديه من وسائل متاحة - في محاولات رد العدوان وتطويقه ذودا عن الخرائط التي ورثناها عن الأجداد. حرب أكتوبر أو حرب رمضان كانت إحدى حلقات هذا الكفاح الدامي الذي مازال مستمراً في قلب الأراضي المقدسة في فلسطين والذي يهدد بالانفجار في الجولان وجنوب لبنان. ماذا حدث في مسارح العمليات في تلك الحرب? لقد كتب عن ذلك الكثير, فهناك مَن كتب عن انتصارات مؤكدة, وهناك من تحدث عن هزائم مؤكدة, ولا أظن أنه من المفيد أن نستمر في هذا الجدل الذي لا نفع من ورائه, ولذلك فضّلت أن أتحدثّ عن لماذا جرى ما جرى? فاستعراض الدروس, وتوضيح المناطق الرمادية في الحديث التاريخي شيء مهم بالنسبة للأجيال الشابّة التي تتأهب لتسلم العلم لأن الطريق طويل, طويل في صراع بين الحق والباطل, الحق الذي لا يجوز أن نتنازل عنه والباطل الذي تسانده قوى الطغيان. هذا يضعنا أمام أمل نطمع أن يتحقق وهو صدور مراجع رسمية ممن يمهمهم الأمر عن الحروب الكثيرة التي خضناها, النقاط الإيجابية والنقاط السلبية, فلا ضير من ذلك, الإيجابي نعززه ونطوّره, والسلبي نعالجه حتى لا يتكرر فلا يصح على الإطلاق أن تكون مراجع الباحثين العرب مراجع ووثائق أجنبية لأن ما يحدث على أرضنا هو ملك لنا نحن الذين شاركنا في صنعه ونحن الذين نعرف دقائقه ويصبح من العجب بعد ذلك أن نلجأ إلى المصادر الأجنبية لنعتمد عليها في كتابة جزء من تاريخنا. أسباب التقصير إسرائيل - على سبيل المثال - بادرت في أواخر نوفمبر 1973 بتشكيل لجنة تقصّي حقائق برئاسة القاضي شمعون أجرانات رئيس المحكمة الإسرائيلية العليا لمعرفة أسباب التقصير في الأيام الأولى لحرب أكتوبر حتى يمكن تلافيها فورا, وسأنقل بعضا مما وصلت إليه اللجنة عن معركة الهجوم المضاد يوم 8/10/1973 في الجبهة الجنوبية بعد نجاح القوات المصرية في عبور قناة السويس وتمركزها في البر الشرقي بعد استيلائها على خط بارليف, القضية باختصار هي أنه في يوم 7/10/1973 أمر رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي الجنرال دافيد أليعازر قائد الجبهة الجنوبية الجنرال شموئيل جونين بالقيام بهجوم مضاد لطرد القوات المصرية مرة أخرى إلى الشاطئ الغربي للقناة وفشل الهجوم وحصرت اللجنة مسئولية الفشل في الجنرال جونين لأسباب ذكرتها دون أي حرج وقدمتها لمن يهمهم الأمر لتلافي هذه الأسباب مستقبلا. بل كتب بعض الجنرالات كتبا صدرت للاطلاع عليها, الجنرال إبراهام آدن الذي شارك بقواته في الهجوم المضاد الفاشل أصدر كتابا (على ضفاف قناة السويس) اعترف فيه بأخطائه (فأنا لا أتنصل من المسئولية عن الفشل, فقد كان الأسلوب القتالي للفرقة متخلفا وكانت سيطرتي على قواتي غير كافية وكانت سيطرة اللواءات على وحداتها أقل من المستوى, ولكننا خرجنا بدرس مهم (يقول الجنرال آدن) لا يجوز القيام بهجوم مضاد متسرّع وكان من الأفضل التأني), وكتب الجنرال إيلي زعيرا رئيس الاستخبارات العسكرية أيام الحرب كتابه (حرب يوم الغفران - أكذوبة في مواجهة واقع) يدافع فيه عن نفسه ضد الاتهام الذي وجهته له لجنة القاضي أجرانات وكان يتلخص في الآتي (فوجئ جيش الدفاع الاسرائيلي بالحرب الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6/10/1973 إذ لم تكن القيادة السياسية أو العسكرية على علم بأن حربا شاملة على وشك أن تبدأ والمسئول عن ذلك هو رئيس الاستخبارات العسكرية ومساعده رئيس قسم البحوث العميد أريبه شاليف...) ودافع الجنرال المتهم عن نفسه دفاعا فيه الكثير من الدروس والعبر. وكتب آخرون, حققوا ودرسوا وخرجوا بدروس خطيرة غالية لأنها كتبت بالدم, حتى يتلافوا السلبيات التي حدثت وهم يجتازون بحور الدم التي كتب عليهم أن يخوضوها أمام المقاومة العربية العنيدة التي تنبأوا عن حق أنها واقفة لهم بالمرصاد. غياب هذه الدراسات في كل البلاد العربية في هذا المجال الحسّاس جعل كاتبة هي ريزا بروكس تكتب كراسة دراسية رقم 324 عن معهد الدراسات الاستراتيجية بلندن عنوانها (العلاقات السياسية العسكرية واستقرار الأنظمة العربية) انتهت فيها (لعوامل كثيرة لم تختبر القدرة القتالية العربية الحقيقية بعد في مسارح العمليات) وهو مرجع مهم فيه تشخيص لبعض الأمراض وفيه أيضا الدواء وعادة ما يكون الدواء مرّا كالعلقم. نوعية الحرب ما نوع الحرب التي نتحدث عنها بعد 30 سنة من وقوعها? الحروب أنواع منها الحروب النووية والحروب الشاملة وحروب العصابات والحروب المحدودة, وكلها حروب سياسية والذي يصدر الأمر ببدايتها القيادة السياسية والذي يشرف عليها ويوجهها القيادة السياسية والذي يعلن نهايتها ويتابع خطواتها بعد ذلك هي القيادة السياسية لأن أي قتال لا يمكن أن يستمر الى الابد, إذ لابد أن ينتهي إلى مائدة المفاوضات حيث تصاغ المواقف العسكرية والقدرات الحربية في اتفاقيات تعبر عن موازين قوى الموقعين عليها لا عن توازن مصالحهم. وحرب أكتوبر 1973 كانت حربا محدودة, ماذا يعني ذلك? وأترك للاستراتيجيين الكبار الحديث وهو لا يحتاج إلى إضافة. في الفصل الخامس من كتابه الثامن (في الحرب) يحدّثنا كارل فون كلوزوبتر عن الحرب المحدودة فيقول (الغرض من الحرب هو القضاء على العدو وإذا حالت الظروف - مثل تفوّقه المادي والمعنوي - دون تحقيق ذلك لا يوجد أمامنا إلا خياران: إما الهجوم لاحتلال جزء من أرضه, وإما الدفاع عن أرضنا في انتظار الظروف الأفضل, وإذا كان الانتظار سوف يحقق للعدو بعض المزايا فإن من المحتم اتباع الحل الأول دون النظر إلى وضع وحال القوات, ومادامت الحرب محدودة فإن الغرض الذي نسعى إليه يكون محدودا بالضرورة, ويساعد على ذلك متاخمة الأرض التي نحتلها وقربها لحدودنا وقواتنا الرئيسية, هي حرب دفاعية استراتيجيا وهجومية تكتيكيا, وهنا يصبح الغرض إحداث أكبر خسائر ممكنة في العدو الذي سينقلب الى الهجوم بضربات متلاحقة لابد أن تنجح إحداها ولكن بعد أن يكون الإجهاد قد حل به وحينئذ يمكن أن يفتح الباب للسلام). هذا ما كتبه الاستراتيجي البروسي العظيم, فماذا قال السير بازل ليدنهارت الاستراتجيي البريطاني العظيم في كتابه (استراتيجي) بعد قرن من الزمان وأكثر? (قد ترى الحكومة أن لدى العدو التفوق وفي هذه الحال عليها أن تتبع استراتيجية محدودة مادام يتعذّر عليها القضاء على العدو, وعلى الحكومة أن تفاضل بين الانتظار للحصول على التعادل في ميزان القوى أو خوض حرب محدودة للاستيلاء على مساحة من الأرض كوسيلة مساومة عند المفاوضات, وإذا استقر رأي الحكومة على اتباع هذه الاستراتيجية فعلى القائد العسكري الالتزام بها وإلا أساء إلى السياسة العليا). كلام واضح يبين الإطار العام الذي سارت فيه العمليات. وقد حتّمت علاقات القوى في ذلك الوقت أن تكون الحروب الاقليمية حروبا بالوكالة في جانب منها, وأن تكون محدودة في جانبها الآخر, لأن الدول المركزية أو العظمى تتحكم في نقل السلاح والتكنولوجيا إذ بيدها المنح والمنع, وبذلك أصبح تحقيق الأغراض الكبرى مستحيلا, وأصبح البديل هو تحقيق الأغراض الناقصة في ظل الأمن المتبادل تبعا للأوضاع التي تنتهي إليها العمليات, لأن السياسة أولاً وآخراً هي فن الممكن الذي يتحرك في إطار علاقات القوى العالمية والإقليمية, ولا تقوم الدول بالحروب حبّا فيها, ولكنها تأمل من خوضها إلى الانتقال إلى حال سلمية أفضل, ولذلك يجب النظر من خلال أزيز الطائرات ودوي المدافع ودخان المعركة إلى شكل السلام الذي يلي القتال, ولذلك فمن الواجب فتح قنوات الاتصال, ربما مع طرف ثالث قادر على التحكم في الأمور, وربما مع العدو نفسه, أما الامتناع عن ذلك فعدم فهم لإدارة مثل هذا النوع من الحروب, ولذلك فإن أدق تعبير أطلق على حرب رمضان هو (الشرارة) الذي أطلقه الرئيس السادات بمعنى اشتعال خطوط إيقاف النار لحث العدو والدول الكبرى المعنية على التحرك لأن خطوط إيقاف النيران الباردة لا تثير اهتمام أحد. كما ترى فكانت حرب رمضان سياسية في الجزء الأكبر منها لا تهدف إلى الانتصار بمعنى هزيمة العدو وسحقه, بل كان الواجب أن تنتهي بسرعة, وقد نال الإجهاد من الطرفين, لتحقيق أغراض سياسية بإيجاد صلة بين القوة المستخدمة والأغراض السياسية المستهدفة التي لابد وأن تتصف بالاعتدال لتترجم إلى اتفاقات تعبّر عن حال القوى الفعلية في مسارح العمليات, ولذلك فقرار الحرب - خاصة في ظل الظروف التي كانت سائدة - كان قرارا خطيرا وحتمياً وشجاعا, فأي قرار لا يمكن تقويمه إلا في ظل الظروف التي اتخذ فيها وخاصة تضارب الآراء الذي يحدث للوصول إلى القرار الحاسم. وأضرب مثلا لذلك ما ساد اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية في 24/10/1972 إذ تبلور الموقف في اتجاهات ثلاثة: الاتجاه الأول كان يخشى وقوع الحرب فعلا ولا يريد تحمّل مسئوليتها خوفا من هزيمة أخرى, وقد تستّر أصحاب هذا الرأي بطلبات تعجيزية مثل رفض الحرب المحدودة, ضعف السلاح السوفييتي, الافتقار إلى الرادع الذي يصل إلى عمق إسرائيل, والاتجاه الثاني كان لا يعارض الحرب المحدودة ولكن بعد توفير بعض الاحتياجات, والاتجاه الثالث كان ينطلق من الأمر الواقع بضرورة القيام بالحرب بالمعدات المتاحة, وبالرغم من ذلك أصدر القائد السياسي أنور السادات قرار الحرب وشاركه في ذلك الرئيس حافظ الأسد. مفاوضات ومفاوضات ومن الطبيعي وترتيبا على ذلك أن مثل هذه الحروب لا تحل أو تحسم كل المشاكل القائمة, فمثلا في الجبهة الجنوبية تم الاتفاق بعد مراحل ثلاث: القتال في ميدان القتال شرق وغرب قناة السويس, والتفاوض في النقاط الست واتفاقيتي فك الاشتباك ثم معاهدة كامب دافيد, والمرحلة الأخيرة كانت التحكيم من أجل طابا. أما في الجبهة السورية فقد تم في مرحلة القتال ثم التفاوض المرحلي لفك الاشتباك, ثم تجمد الموقف على ما هو عليه الآن دون تجدد القتال أو استئناف المفاوضات. أما في الأردن, فتم في مرحلة القتال عام 1967 ثم التفاوض بعد حرب أكتوبر للوصول إلى اتفاقية وادي عربة واستخدام مبدأ تأجير الأرض المختلف عليها لمدة طويلة. كان الهيكل العام للحرب كما اتفق عليه في الاجتماعات السورية - المصرية المشتركة هو أن تقوم القوات المصرية في الوقت المتفق عليه بعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف وإنشاء رءوس كبار بعمق 8-10 كيلومترات شرق قناة السويس, ثم اتخاذ موقف الدفاع (آراء في القيادة العليا المصرية وفي القيادة السورية تذكر أن الاتفاق الاستراتيجي الذي تم الاتفاق عليه هو استئناف التقدم حتى خط المضايق ثم التقدم شرقا إلى الحدود حسب تطور الموقف). وفي نفس الوقت تقوم القوات السورية بالهجوم لتصل إلى قمة هضبة الجولان لتسيطر على وادي الأردن وبحيرة طبريا. كانت إسرائيل ترى دلائل على أن أشياء غير طبيعية كانت تجري أمامها في كلتا الجبهتين إلا أن مصادر معلوماتها وأجهزة مخابراتها كانت تستبعد قيام القوات العربية - بحالتها التي كانت موجودة عليها - بأي هجوم, إلا أنه وكما يقول الجنرال إيلي زعيرا رئيس المخابرات العسكرية في كتابه الذي ذكر آنفا: (وصلت الإشارة التي أدت إلى تعبئة وحدات الاحتياطي بالجيش تلفونيا من رئيس الموساد إلى مكتبه في الساعة 3 فجر يوم 6 أكتوبر 1973 محددا يوم وساعة الهجوم.. كانت إشارة وصلت في يوم 4/10 من المصدر الموثوق به أن من المتوقع قيام الحرب في الوقت القريب ونقل الإنذار يوم 5/10 إلى رئيسة الوزراء ووزير الدفاع ولكن بلاغ فجر يوم 6/10 كان القشة التي قصمت ظهر البعير) (من هو المصدر الموثوق به? لقد حدده زعيرا في كتابه تلميحا ولكن هل قام بذلك من يهمهم الأمر في الجانب العربي?). وبدأ القتال وفوجئ العدو تماما بما حدث لدرجة أن شبح الهزيمة كان يسيطر على كل من القيادتين السياسية والعسكرية في الأيام الأولى من قيام الحرب. لم يكن هناك تنسيق عربي في إدارة المعركة فبينما توقف التقدم في الجبهة الجنوبية ركز العدو على الانتهاء من الجبهة الشمالية أولا ثم استدار إلى الجهة الجنوبية تبعا لمبدأ من مبادئ الحرب وهو الحشد, أي التعامل مع الجبهتين قطعة قطعة اي جبهة جبهة. أحوال جبهات القتال ودون الدخول في تفاصيل القتال نجمل ما كانت عليه الأحوال في جبهتي القتال يوم 6/11/1973 حينما وصل هنري كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي إلى المنطقة بدعوة ملحة من الطرفين: - في الجبهة السورية تخطت القوات الإسرائيلية خطوط وقف إطلاق النيران لعام 1967 وأصبحت دمشق في مدى مدفعية العدو, ولكن من جانب آخر كان هناك صمود وكذلك عشرات الأسرى في يد السوريين لم يعلن عن عددهم أو أسمائهم الأمر الذي تقيم له إسرائيل أهمية كبرى. - في الجبهة الجنوبية أو المصرية كان الموقف غريبا بحق, فبعد أن قام العدو وبثغرة الديفرسوار بعملية (إييري ليف) أي البطل أصبح له 3 فرق مدرعة غرب القناة ولكن كان هناك في الوقت نفسه قوات مصرية كبيرة متماسكة شرق القناة وكانت القوات الإسرائيلية في الغرب والقوات المصرية في الشرق تقف كل منهما للأخرى كالصياد والفريسة, وفوق ذلك كان السلاح السوفييتي مازال موجودا في المنطقة يقلق الولايات المتحدة الأمريكية وكان الموقف العربي متماسكا, وبذلك كان الوضع سرياليا يحتاج إلى طرف ثالث يفك خيوطه. لم يكن مفهوم إدارة هذه الحرب المحدودة - أي قتال قتال ثم كلام كلام - مفهوما ولا متفقا عليه بين القيادتين السياسية والعسكرية في كل من سوريا ومصر مما تسبب عنه خلاف شديد وقت المعارك وحتى بعد أن سكتت المدافع وكان من الأنسب الاتفاق على كيفية إدارة الصراع واستراتيجية الحوار وتخطيطها ومراحلها المختلفة قبل يوم (ي) أي بداية العمليات, لأن مواجهة اختلاف الرؤى حينئذ تكون أسهل كثيرا من مواجهتها تحت أزيز الطائرات ودوي الصواريخ والمدافع. وهذا أسلوب عربي يقف حجر عثرة أمام تطور العمل العربي الجماعي, إذ جرت العادة أن يعلن عن تطابق الآراء بعد كل اجتماع عربي على المستوى القطري أو القومي ثم تظهر الخلافات عند التطبيق فتظل القرارات قائمة مع إيقاف التنفيذ... القرار لا يكفي ولكن تفصيلات تنفيذه هي بيت القصيد. ماذا نريد? الاتفاق عليه شيء جيد. ولكن كيف ننفذ مانريد? هذا هوالأهم... يعني توزيع الواجبات, مراحل التنفيذ, متابعته, تعزيز الإيجابيات ثم تصحيح السلبيات. لأن إصدار القرار والاتفاق على القضية بشكل عام لا يؤدي إلى إقامة البناء فهو أول خطوة في الطريق الطويل والمعقد للتنفيذ خاصة في أمور حساسة تتعلق بالحرب والسلام. وأرجو ملحاً ألا يكون مفهوم حديثي حتى الآن هو أن قتالا عنيفا لم يحدث وأن روحا قتالية متوثبة أحدثت خسائر كبيرة في قوات العدو الجوية والمدرعة والمشاة لم تحدث? أبدا كانت التضحيات كبيرة والقدرة القتالية فعالة اعترف بها الأعداء في المحاور المختلفة... كل همنا أن نركز على بعض السلبيات لأننا نطمح إلى الأجود والكمال فالطريق مازال أمامنا طويلا وشاقا. لم يكن ميزان القوى مختلا بدرجة كبيرة بين الطرفين أثناء التخطيط للحرب وقد يكون من المفيد استعراض القوات المتضادة لإعطاء فكرة عامة عن الموضوع, لأن العبرة أولا وآخرا تكمن في أسلوب القيادة لاستخدام ما يتيسر لها من قوات قبل العمليات بحسن تنظيمها وجودة تدريبها وتعزيز تعاونها أثناء القتال... كان على الجبهة المصرية 5 فرق مشاة, فرقتا مشاة ميكانيكيتان, وفرقتان مدرعتان, وبعض اللواءات والمشاة المستقلة, ولواء مظلات, ومجموعات صاعقة ومهندسين, 9 لواءات جوية ولواء قاذف ثقيل ولواء خفيف, قوات بحرية في البحرين الأحمر والمتوسط. وكان على الجبهة السورية 3 فرق مشاة, فرقة مدرعة, فرقة مشاة ميكانيكية, كتائب مقاومة سورية. وللتاريخ نذكر أن الدول العربية ساهمت بقوات قدر المتاح فعلى الجبهة المصرية: 3 أسراب مقاتلة من الجزائر وصلت أيام 9, 10, 11/10/1973, 3 أسراب مقاتلة قاذفة ليبية سحبها الرئيس القذافي قبل العمليات لاختلاف وجهة نظره في العمليات القتالية, سرب عراقي هوكر هنتر, لواء مدرع جزائري, لواء مدرع ليبي, لواء مشاة مغربي, كتيبة مشاة تونسية, كتيبة مشاة كويتية,30 طيارا من كوريا الشمالية. وكانت القوات العربية على الجبهة السورية كالآتي: 3 أسراب ميراج عراقية ابتداء من يوم 8/10/1973, سرب ميج 17 عراقي, فرقة مدرعة عراقية اعتبارا من 11/10/1973, فرقة مشاة ميكانيكية عراقية اعتبارا من 11/10/1973, لواء مدرع أردني اعتبارا من 13/10/1973, لواء مدرع مغربي, لواء مشاة سعودي. ومعنى ذلك أن التوازن كان معقولا إذ كان لدى إسرائيل 15 لواء مدرعا, 10 لواءات مشاة ميكانيكية, لواء مظلات, 450 طائرة, بعض القطع البحرية وكان ينقصها وحدات المشاة وكان التفوق العربي عليها كبيرا في قطع المدفعية وفوق ذلك كان عليها أن تحارب في جبهتين, علاوة على أننا قمنا بالضربة الأولى أي نحن الذين فاجأناهم وبدأنا القتال دون أن يتنبهوا لذلك. دروس التاريخ وهذا يحتاج منا إلى وقفة طالما أصبح في نيتنا تلقي الدروس من المعلم العظيم وهو التاريخ لنحفظها ونتعلمها تحسبا للمستقبل. - عند حساب توازن القوى لا يصح أن يتم ذلك على أساس عددي أي في المجال المادي, لأن بحث المجال المعنوي أهم مثل التدريب الجيد ورفع القدرة القتالية, القيادة, خفة الحركة, التصرف في المواقف المفاجئة. - عظمة المفاجأة ليس في تحقيقها ولكن في استغلالها فمن السهل مفاجأة العدو بعبور القناة أو اجتياح الجولان ولكن الأهم من ذلك استغلال ما سوف يكون عليه العدو من خلل في توازنه بالضربات المتلاحقة أي تحقيق المبادأة وعدم التنازل عنها بأي حال من الأحوال حتى لا يسترد العدو توازنه... الضربة الواحدة لا تكفي ولكن يجب أن تتبعها ضربات وضربات. - التراشق يتم بمواجهة الضربة الأولى بالضربة الثانية وهذا شيء في غاية الأهمية فقد بدأنا القتال أي قمنا بالضربة الأولى ولكن العدو امتص هذه الضربة وأفاق منها ووجه الضربة الثانية فوجه ضرباته أولا إلى الجبهة السورية ثم بعد أن سيطر عليها وجه ضرباته وركزها على الجبهة المصرية. علما بأن من يطلع على ما كان عليه الموقف الإسرائيلي بعد توجيه ضربتنا الأولى له من عدم توازن وخلل في التفكير ويأس من الموقف يصل إلى أنه كان من المحتم علينا توالي الضربات حتى لا يفيق ويسترد المبادأة. - اشتراك القوات العربية بهذه الصورة أمر جيد ولكن لم يتم بطريقة سليمة تبعا لقيادة مشتركة قبل العمليات تنظم وتسلح وتدرب وتخطط, ولعلنا لاحظنا وصول بعض القوات الجوية والمدرعة بعد بداية العمليات بفترات غالية وكان وصولها لإنقاذ الموقف أكثرمنه لحسمه... التدخل العربي شيء ممتاز ولكن استغلاله السيئ قلل من نتيجته. - تم القتال على جبهتين منفصلتين تماما دون قيادة مشتركة تنسق سير العمليات في كل جبهة, فكانت القيادة السورية تقود قواتها في الجبهة الشمالية وكانت القيادة المصرية تقود قواتها في الجبهة الجنوبية وأسند إليها - بطريقة شكلية - توجيه العمليات المشتركة في الجبهتين... كان الأصح أن تكون هناك قيادة سورية وقيادة مصرية وتدير وتنسق العمليات لهما قيادة مشتركة ثالثة... لم يتم الاتفاق إلا على يوم (ي) وهو يوم بداية الحرب والساعة (س) أي بداية القتال, وبعد ذلك دارت العمليات في كل جبهة منفصلة عن الأخرى لدرجة أن مصر قبلت قرار مجلس الأمن 338 دون معرفة سوريا أو التنسيق معها. وانتهت الحرب وسكتت المدافع وبدأ الحصاد, وهنا تختلف الآراء بشدة بين القيادتين السورية والمصرية وبين المؤرخين, ونحن ننأى في الظروف العربية الحالية عن فتح الجراح... تحول الصراع بالطلقة في مسارح العمليات إلى صراع أشد ضراوة بالكلمات حول موائد المفاوضات, والسياسة سوق تجارية كبرى تدور فيها المساومات ليل نهار. والسوق التجارية لا يتم التعامل فيها بالعدالة إذ لا يتم البيع والشراء إلا بالأمر الواقع فهو الذي يحدد المكسب والخسارة وهنا لا يعلو صوت فوق المصلحة... والأمر الواقع في السوق التجارية أساسه الواقع الجغرافي وليس الحقوق السياسية.. فالجغرافيا تفوق التاريخ في الحوار.. ما هو الوضع على الأرض? ما حالة القوات? هذه تقرر ما يصاغ في اتفاقيات تعبر عن توازن قوى الموقعين عليها لا عن توازن مصالحهم, ويطلق على الأولى الاتفاقيات الرديئة وعلى الثانية الاتفاقيات العاقلة. ويرى البعض أن الحصاد لم يكن يتناسب مع الوضع الاستراتيجي وقتئذ بعد توقف القتال بالرغم من أن القوات الإسرائيلية كانت على بعد 70 كيلومترا من دمشق, و100 كيلومتر من القاهرة: فقد كانت القوات المصرية أيضا في الشرق, وكان الاتحاد السوفييتي موجودا وفاعلا, وقناة السويس مغلقة أمام الملاحة الدولية, وباب المندب مقفلا أمام الملاحة في البحر الأحمر بواسطة الأسطول المصري, وحظر البترول العربي ساري المفعول ضاغطا على اليابان وأوربا والدول النامية, والدول العربية متماسكة بشكل غيرمسبوق, والدول الأفريقية قطعت علاقتها مع إسرائيل, وأخيرا تحول الرأي العام العالمي لصالحنا. ويرد الآخرون... كل هذا صحيح ولكن الموقف العسكري كان يملي نفسه على الموقف, والوضع العسكري كالعملة النقدية في السوق التجارية عن طريقه يتم البيع والشراء... المكسب والخسارة خاصة بعد التدخل الأمريكي السافر بإمداد إسرائيل بالسلاح علنا, (فليس في مقدوري محاربة أمريكا) كما قال السادات في رسالته إلى الأسد. وانتقل الموقف بعد ذلك إلى يد الولايات المتحدة وممثلها هنري كيسنجر مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي الذي اتبع استراتيجية المكوك وتكتيك الخطوة خطوة... بين كل خطوة وقت طويل دون أن يحسم الموقف... كان دخول كيسنجر إلى المنطقة فاكهة محرمة بالنسبة له لأنه يهودي الديانة... أخذ الرجل يعيد تشكيل العلاقات في المنطقة تبعا لنظرياته الشهيرة في مبدأ توازن القوى. كيسنجر الحاوي شبهه البعض بأنه كالحاوي المبدع الذي دخل المنطقة وفي حقيبته أرنب كبير حرص على عرضه في كل العواصم التي زارها وسط التهليل والترحيب وسمح للجميع بأن يتحسسوا فراء الأرنب ويداعبوه ثم يغادر واضعا الأرنب في حقيبته وهو متجه إلى المطار ليستقل طائرته البوينج إلى عاصمة أخرى يستعرض فيها ألعابه ثم غادر المنطقة في آخر الأمر بل ترك المنصب أو تركه المنصب ومن يومها لم يرجع الحاوي إلى المنطقة لا هو ولا الأرنب. آخرون شبهوه برجل أعمال حضر إلى المنطقة وجيبه الأيمن محشو بالسلام المنشود وجيبه الأيسر محشو بالأرض السليبة وعرض بضاعته على الجميع وقبض العربون مقدما من البعض ولم يقبض شيئا من آخرين ولكن حينما غادر المنطقة كان في جيبه الداخلي ما قبضه من أثمان غالية وكان السلام المنشود مازال في جيبه الأيمن والأرض السليبة في مكانها في جيبه الأيسر فلا هو أعطى السلام ولا هو أعاد الأرض. كان (هاينز كيسنجر) - وهذا هو اسمه الألماني - يلعب بالأزمات على طريقة الخطوة خطوة وأسلوب المكوك وانتهى إلى اتفاقيات أربع: - اتفاقية النقاط الست التي وقعت في 27/10/1973 في الجبهة المصرية. - اتفاقية فك الاشتباك الأولى على الجبهة المصرية في 19/1/1974. - اتفاقية فك الاشتباك الأولى والأخيرة في الجبهة السورية في 31/5/1974. - اتفاقية فك الاشتباك الثانية على الجبهة المصرية في 1/9/1975. واسترخت الأوضاع السياسية والرغبة في تحريك الموقف وبردت خطوط فك الاشتباك وقاربت أن تكون حدودا فكان لابد من قوة دفع جديدة... فكانت زيارة القدس فتحرك الموقف على الجبهة المصرية ببطء أحيانا وبسرعة أحيانا أخرى وانتهى إلى اتفاقية كامب دافيد التي خلطت بين الحدود السياسية والحدود الآمنة فالسياسة هي فن الممكن أولا وآخرا. أما الموقف على جبهة سوريا فمازال على ما كان عليه في 31/5/1974 يوم توقيع اتفاقية فك الاشتباك الوحيدة... إلى متى? الله أعلم. ولا أظن أن صفحات مجلة (العربي) الغراء تتحمل أكثر مما قلت, وماقلنا إلا القليل وبقي الكثير وفيه ما يمكن أن يقال وما لا يمكن أن يقال.
|