برنارد لويس يرد على برنارد لويس!

 برنارد لويس يرد على برنارد لويس!
        

في عدد نوفمبر (2002) أثارت (العربي) في مقالها الافتتاحي (حديث الشهر) قضية المؤرخ لويس برنارد المعروف بميوله الصهيونية. وهانحن نعاود إلقاء الضوء على الأفكار المغرضة لهذا المؤرخ من خلال أحدث كتبه.

          يعرف المثقفون العرب اسم المستشرق الأستاذ برنارد لويس حق المعرفة. فهو أستاذ مشهور في الغرب تخصص في التاريخ الإسلامي, وكتب كتبا عدة في مواضيعه المختلفة خلال نصف القرن الماضي. إلا أن المثقفين العرب يعرفون الدكتور لويس لأسباب أخرى أيضا, وهي أن هذا المستشرق البريطاني المولد, الأمريكي الجنسية, الصهيوني الهوى, ما ترك مناسبة, خاصة في السنوات العشرين الماضية إلا وحاول فيها أن ينتقص من دور المسلمين عامة, والعرب خاصة, في التاريخ وذلك لمصلحة إسرائيل والجماعات الصهيونية الدائرة في فلكها في الولايات المتحدة. وقد ازداد نفوذ لويس في دوائر صنع القرار السياسي الغربي باعتباره خبيراً أكاديميا في التاريخ العربي والتاريخ الإسلامي خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر2001 في نيويورك وواشنطن, والتي اتهمت منظمة (القاعدة) الإسلامية بأنها كانت وراءهما.

          وقد أصدر الدكتور لويس عدة كتب ومقالات منذ ذلك الوقت كان أهمها (أزمة الاسلام) وكتاب (ما الخطأ الذي وقع فيه المسلمون في العصر الحديث?) ويركز الكتاب, وإن بطريقة سريعة, على بعض نظريات المؤلف التي كان قد ذكرها في كتب سابقة له عن أسباب تأخر المسلمين والعرب عن الغرب في العصر الحديث بعد أن كانوا متقدمين عليه في العصور الوسطى المبكرة, خاصة في كتاب (الاكتشاف الاسلامي لأوربا) الذي صدر عام 1982, ويذهب أحد أهم تفسيرات لويس لهذا السؤال إلى أن المسلمين عامة, والعرب خاصة, كان ينقصهم الفضول الفكري بعد الحروب الصليبية التي استطاعوا في نهايتها طرد الفرنجة من ديارهم وتمسكوا, بسبب ذلك الانتصار, بفكرة تفوقهم على الغرب معتبرين أنه ليس عند أوربا من جديد تقدمه لهم ويستأهل قيامهم بأي جهد للاستفادة مما قد تملكه في الجوانب الثقافية أو العلمية. وظلت تلك الفكرة, حسب قراءة لويس العامة, غالبة عند العرب والمسلمين برغم تقدم أوربا عليهم فيما بعد وتحقيقها لكثير من الإنجازات العلمية والفكرية, ليس في عصر النهضة الأوربية فحسب, بل وقبله وبعده كذلك. ويقول لويس: (إن الجدال الكبير حول الصليبيين الذي كان له مغزاه العميق في تاريخ الغرب, لا يكاد يثير الفضول في بلاد الإسلام, حتى النمو السريع في العلاقات التجارية والدبلوماسية مع أوربا بعد الحروب الصليبية, يبدو أنه لم يثر الرغبة في سبر أسرار الغرب العجيب, وهذا ما يمكن أن نلاحظه من خلال ندرة المعلومات وغموضها حول أوربا في الكتابات التاريخية الإسلامية المتأخرة منذ القرون الوسطى).

خوف من الإسلام

          بالمقابل, كانت أوربا شديدة الاهتمام بما يجري في العالم الاسلامي بسبب خوفها مما يمثله الإسلام كعقيدة, وما تمثله القوى الإسلامية المسيطرة على الجزأين الجنوبي والشرقي في البحر الأبيض المتوسط, فقامت بإنشاء العديد من مراكز الأبحاث المهتمة بالعالم الإسلامي منذ القرن الثاني عشر ميلادي, ورغم نجاح الكاثوليك في استرداد الأندلس من يد العرب المسلمين بصورة نهائية عام 1492, فإن ذلك لم يخفف من خوف أوربا من الإسلام والمسلمين بدرجة كبيرة لأن الأتراك العثمانيين كانوا يقومون في نفس تلك الفترة التاريخية بالتمدد السياسي والعسكري في أوربا الوسطى وبلاد البلقان ثم استطاعوا بعد ذلك بقليل الاستيلاء على القسطنطينية, عاصمة المسيحية الشرقية عام 1453, ولكن التراجع العثماني الواضح تجاه أوربا الغربية بدأ في القرن السادس عشر وأصبح مرئياً في نهاية القرن السابع عشر ودخل في وعي المثقفين ورجال السلطة العثمانية بعد هزيمتهم أمام أسوار فيينا عام 1686 ثم توقيعهم لمعاهدة كارلوفيتز عام 1699 التي اعترفوا فيها بهزيمتهم أمام امبراطورية آل هابسبورج الذين انتزعوا بعض الأراضي التي كانت تابعة للعثمانيين.

          وإذ وعى الأتراك العثمانيون تغيير موازين القوى بينهم وبين أوربا الغربية عندها, فإن العرب لم يعوا ذلك تماماً, ولم يصلوا إلى النتيجة نفسها إلابعد قرن من الزمن, أي في نهاية القرن الثامن عشر عند احتلال الفرنسيين بقيادة بونابرت لمصر عام 1798.

          لم تخف كل هذه التطورات التاريخية المسلم بها من جميع البحّاثة نقطة لويس الرئيسية التي تميّزه عن غيره من المؤرخين, وهي تشديده على عامل الفضول والذكاء الذي مثله الأوربيون منذ العصور الوسطى بعد الحروب الصليبية, مقابل عامل الكسل الذهني واللامبالاة تجاه الآخر الأوربي عند المسلمين. وكأن الأمر كان قد تحول إلى قضاء وقدر ثقافي محتوم!

          ولكن لويس قام بنفسه بالرد المقنع على مقولته هذه وذلك على مرحلتين. في المرحلة الأولى وفي كتابه (ما الخطأ الذي وقع فيه المسلمون...), يقول إنه وإن كانت العقيدة الاسلامية لا تشجع المسلمين على الحياة في أو زيارة  الأراضي غير الخاضعة للشريعة الإسلامية, فإن الغرب أيضا لم يكن يرحب بوجود المسلمين على أراضيه, فبالرغم من أن العديد من تجار مدن الغرب كانوا يقيمون في المدن الإسلامية, فإن طلب بعض التجار الأتراك الإقامة في مدينة البندقية وبناء مركز لهم فيها قبل نهاية القرن الثامن عشر قوبل بالاستهجان من جانب سلطات البندقية التي اعتبرت أن وجود أتراك مسلمين في المدينة أمر خطير لأن الأتراك, بخلاف اليهود والبروتستانت, يملكون جيشا وبحرية, ولم توافق تلك السلطات على الطلب التركي, على ما يبدو, إلا عندما شعرت أن وجود تجارها الكبير في استانبول والعديد من المدن العثمانية الأخرى سيكون مهددا.

النظرة الخاطئة

          أما المرحلة الثانية من رد لويس على نفسه بنفسه, وربما دون أن يعي ذلك مباشرة, فإنه جاء في مقال صدر له أخيرا في عدد شهر مايو من مجلة أتلانتيك مونثلي Atlantic Monthly الأمريكية.

          ورغم أن مقال لويس هذا يركز على مقارنة المفاهيم الإسلامية والمسيحية متحدثا عمّا هو مشترك وعمّا هو مختلف بينها, فإنه يتعرض في إحدى نقاط المقال إلى ما نعتبره ردا على أطروحته الاستشراقية التي بدأنا هذا المقال بها.

          يقول لويس إن المسلمين والمسيحيين الأوربيين نظروا إلى بعضهم البعض ودرسوا بعضهم البعض بطرق مختلفة وبصورة حادة, وذلك بسبب ظروفهم المختلفة. فقد كان على المسيحيين الأوربيين منذ البداية أن يدرسوا لغات أجنبية ليقرأوا نصوصهم المقدسة والكلاسيكية وحتى يتمكنوا من الاتصال بعضهم مع البعض الآخر. ومنذ القرن السابع ميلادي, أي منذ ظهور الاسلام وانتشاره السريع, نما لديهم حافز إضافي للتطلع إلى الخارج: كانت أماكنهم المقدسة على الأرض التي وُلدت عليها ديانتهم تحت الحكم الإسلامي ولم يكن يسمح لهم بزيارتها إلا بإذن من المسلمين. أما المسلمون فلم يواجهوا معضلة مماثلة إذ كانت أماكنهم المقدسة في شبه الجزيرة العربية خاضعة لسلطة إسلامية. وكان النص المقدس لديهم (القرآن الكريم) قد ظهر بلغتهم العربية التي كانت أيضاً على امتداد حضارتهم هي لغة الآداب والعلوم والأبحاث والتجارة ودواوين الحكومة, وأصبحت مع الوقت, وبصورة متزايدة, لغة الاتصال اليومي عندما أخذت المناطق التي فتحها المسلمون في جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا تتعرب وتنسى لغاتها ونصوصها المقدسة القديمة. صحيح أن لغات إسلامية أخرى كالفارسية والتركية نشأت فيما بعد, إلا أن العربية سيطرت على الفضاء الثقافي الإسلامي في القرون التأسيسية الأولى بعد ظهور الإسلام مباشرة.

          إن هذا الفارق بين تجارب واحتياجات الحضارتين الإسلامية والمسيحية الأوربية عكس نفسه في موقف كل منهما تجاه الحضارة الأخرى. فمنذ أن وطد الإسلام نفسه حاول الأوربيون دراسة لغات العالم الإسلامي بدءا بالعربية, لغة الحضارة الأكثر تقدما في ذلك الوقت. كما حاول بعضهم فيما بعد, ولأسباب عملية أساسا, دراسة الفارسية ثم التركية التي حلت محل العربية كلغة الدولة والعلاقات الدبلوماسية الخارجية في عصر الدولة العثمانية. وهكذا, فإننا نلاحظ أن انتشار كراسي أكاديمية لدراسة اللغة العربية بدأ في الجامعات الفرنسية والهولندية منذ القرن السادس عشر. أما جامعة كامبردج البريطانية فأنشأت أول كرسي لدراسة العربية عام 1632 وتبعتها جامعة أكسفورد عام 1636. وعندما لم يعد الأوربيون بحاجة إلى اللغة العربية لفتح أبواب العلوم العليا, فإنهم ظلوا يدرسونها بسبب الفضول الفكري والرغبة في التعرف على حضارة أخرى وطرائقها. وكذلك لأنهم ظلوا متعلقين بالعاطفة الدينية التي تربطهم بالأماكن المسيحية المقدسة مع أن لويس لم يذكر هذه النقطة التي كان قد ذكرها سابقاً عند هذا المنعطف.

نظرة قاصرة

          أما العالم الإسلامي الذي لم يكن لديه حوافز مماثلة, فإنه أظهر عدم اهتمام جدي بالحضارة المسيحية الأوربية. ومع أن هذا الموقف كان مفهوماً في البداية على أنه موقف احتقار لـ(البرابرة) الذين يعيشون خارج الحدود الإسلامية, فإنه لم يعد كذلك, عندما تحول ميزان القوى لصالح الغرب المسيحي. وينتقد لويس المسلمين العرب الذين حكموا الأندلس ولم يتعلموا الإسبانية أو اللاتينية, كما ينتقد المسلمين الأتراك الذين حكموا البلقان ولم يهتموا بدراسة اليونانية أو اللغات البلقانية مع أنها كان يمكن أن تكون مفيدة لهم في حكمهم للشعوب التي سيطروا عليها في تلك المناطق. وهو قطعا محق في هذا الأمر. إلا أن النقطة الأولى التي ذُكرت أن عدم اهتمام المسلمين بالغرب كان عائداً إلى أنهم كانوا مسيطرين على أماكنهم المقدسة ومعرفتهم العربية التي هي لغة دينهم وتفرعاته, والتي جعلت جزءاً غير يسير من اهتماماتهم الثقافية متحققة تبقى النقطة الأهم في تفسر لويس, وإن كانت لا تفسر كل شيء, فالمسلمون العرب كانوا يسيطرون على أماكنهم المقدسة أثناء العصرين الأموي والعباسي عندما قاموا بترجمة العلوم اليونانية والهندية والإضافة إليها!

          ويهمني أن أزيد هنا - وخارج المناقشة مع آراء لويس ومن يسير سيره - نقطة أخرى تثار بين الحين والحين, وعندما يجري الحديث عن (اكتشاف) أوربا لأمريكا ولماذا لم يكن المسلمون أو العرب هم السبّاقين إلى ذلك?! ولاشك أن هذا موضوع شائك لا تنفع في تفسيره إجابة مباشرة بسيطة. ولكن, قد يكون مفيدا التأمل في الرأي القائل إن أوربا كانت تحاول العثور على طريق بحري يصلها بالشرق الأقصى مباشرة دون المرور, ذهابا وإيابا, عبر العالم الإسلامي, الأمر الذي كان يفرض عليها أعباء سياسية ورسوما اقتصادية إضافية. وهي عندما (اكتشفت) أمريكا, إنما فعلت ذلك صدفة حيث ظن كولومبوس أنه وصل الى الهند وليس إلى قارة جديدة في البداية, ومن هنا جاءت تسمية سكان أمريكا الأصليين بالهنود ثم بالهنود الحمر!

          وعليه, فإن الأوربيين, مثلهم مثل المسلمين, كانوا جاهلين بوجود القارة الأمريكية إلى حين الوصول إليها فعلا في نهاية القرن الخامس عشر.

          أضف إلى ذلك, أن المسلمين لم يكونوا بحاجة إلى اكتشاف طريق بحري مباشر إلى الشرق الأقصى لأنهم كانوا على قدرة للوصول إلى هذه المنطقة بحراً وبراً وبصورة مباشرة بسبب قربها الجغرافي من حدودهم الشرقية في آسيا.

          وبالتالي, فإنهم لم يكونوا بحاجة إلى اكتشاف ما كانوا مكتشفينه فعلاً!

لماذا فشلنا?

          ثم علينا, في النهاية, ألا ننسى أن الحضارة الاسلامية لم تكن هي الحضارة الوحيدة التي تخلفت عن الحضارة الأوربية في بداية العصور الحديثة, بل إن هذا كان وضع جميع الحضارات الأخرى غير الأوربية الغربية. وبالتالي, فالاستثناء كان نجاح الحضارة الأوربية الحديثة في حيازة السبق على كل الحضارات وليس الاستثناء عدم مقدرة الحضارة الاسلامية على اللحاق بها, والسؤال الحقيقي الذي علينا العودة إليه بالرغم من كثرة الذين حاولوا الإجابة عنه دون إقناع كامل, هو: كيف نجحت اليابان في الولوج إلى عالم الحضارة الأوربية الحديثة, بينما فشلت المحاولات العربية والاسلامية في هذا المجال?

 

محمود حداد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





غلافان لطبعتين من أحد كتب برنارد لويس





غلافان لطبعتين من أحد كتب برنارد لويس





 





برنارد لويس