صعود الواقعية

صعود الواقعية
        

لا أزال أذكر الأصداء العالية لصعود المذهب الواقعي على امتداد الوطن العربي, والذي اقترن بصعود المدّ القومي, تلك الأصداء التي جعلت منه المذهب الغالب الذي يدعو إليه الكثيرون, ويتحلق حوله كل المبدعين الطامحين إلى إبداع جديد.

          بقدر ما ارتبطت الدعوة إلى الواقعية بالطليعة الاشتراكية التي طمحت إلى تحقيق العدل الاجتماعي على امتداد الوطن العربي, في أفق التحولات المرجوّة, ارتبطت بالقدر نفسه بالمجموعات الشابة التي أخذت تتصدر المشهد الثقافي, وتصنع لنفسها مكانا جديدا, في موازاة جيل الأساتذة العظام, جيل طه حسين وهيكل والعقاد والمازني وغيرهم من الأعلام الذين تأثروا بمتغيرات الخمسينيات السياسية والاجتماعية والثقافية. وكان على رأس المتغيرات الثقافية بدايات الحضور المؤثر لجيل نعمان عاشور وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وغيرهم من الشبان الذين ارتبطوا بدعاوى الواقعية في الآداب والفنون.

          ولم يكن من قبيل المصادفة أن يغدو المذهب الواقعي, كما وكيفا, أكثر المذاهب الأدبية والنقدية شيوعا في الوطن العربي, وذلك بسبب مبادئه التي تصل وصلا حميما بين الفن والواقع في حركته المتحولة, والتي تؤكد ضرورة الالتزام بنقد الواقع الساكن وتعرية سلبياته, تطلعا إلى واقع جديد وتبشيرا به. وهي المبادئ التي أعادت الاعتبار للطبقات الفقيرة بالكشف عن آلامها, وتبني مطالبها العادلة, والدفاع عن حقوقها الإنسانية. وفي الوقت نفسه, تأكيد حضور الإنسان العادي الذي لا يتمتع بقدرات خارقة, والذي يتفاعل أو يتصارع مع غيره, في سبيل الانتقال من شروط الضرورة إلى الحرية, وذلك على نحو كان الانحياز فيه إلى الطبقات المسحوقة يعني تعرية الطبقات العليا والكشف عن مثالبها.

الناس في بلادي

          وكان الانحياز إلى الطبقات الكادحة يتجلى, أدبيا, في أعمال نعمان عاشور المسرحية التي أثبتت حضورها الواعد بمسرحية (الناس اللي تحت) سنة 1956, كما كان هذا الانحياز يتجلى في أعمال عبدالرحمن الشرقاوي الذي اختار الكتابة عن (الأرض) عنوان روايته الشهيرة التي صدرت سنة 1953, والتركيز على الظلم الواقع على الفلاح المسكين, وذلك في سياق إبداعي لم يفارق عالم القرية إلا ليهتم بالمهمشين في المدينة من الذين يقطنون (الشوارع الخلفية) - عنوان الرواية التي صدرت سنة 1958, وفي هذا السياق الإبداعي انطلقت قصص يوسف إدريس المعجونة بتراب الواقع, والتي أدهشت الجميع بالمجموعة الأولى (أرخص ليالي) التي صدرت سنة 1954. وهي المجموعة التي حرص يوسف إدريس على إبقاء أثر النطق العامي في كتابة عنوانها, حرصا على مشاكلة الواقع, واقترابا من العالم الحميم الذي يعيش فيه أبطال من طراز عبدالكريم, ورمضان, وعبدالنبي أفندي, والبرعي, وعبداللطيف, وحمودة, وعبده, وعبدالمجيد, وعوف الذين سبقوا - في الوجود - الصول فرحات و(أحمد المجلس البلدي) وغيرهما من المسحوقين المعذبين في أرض الواقع الذي يصل ما بين القرية والمدينة, دون أن يفارق خالق هذه الشخصيات انحيازه إلى القرية التي أصبحت رمزا للناس في مصر, أو رمز (الناس في بلادي) إذا شئنا الاستشهاد بعنوان الديوان الأول لصلاح عبدالصبور الذي صدر في مطلع عام 1957, أو شعره الذي قرأنا فيه:

الناس في بلادي جارحون كالصقورْ
غناؤهم كرجفةِ الشتاء في ذُؤابة المطر
وضحكهم يئزُّ كاللهيب في الحطب.
خطاهُمُو تريد أن تسوخ في التراب
ويقتلون, يسرقون, يشربون, يجشأونْ
لكنهم بشرْ
وطيبون حين يملكون قبضتي نقودْ
ومؤمنون بالقدر.
 

          ولا يمكن لمتأمل أن يتأمل دلالة المشهد الأدبي في الخمسينيات إلا أن يلحظ أن الواقعية التي مضى فيها الجيل الجديد كان طريقها قد تمهّد بفضل نجيب محفوظ عملاق الرواية العربية الذي حرث الأرض بأعماله الواقعية التي ضمت (القاهرة الجديدة) سنة 1945 و(خان الخليلي) سنة 1946 و(زقاق المدق) سنة 1947 و(السراب) سنة 1948 و(بداية ونهاية) سنة 1949 والثلاثية: (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية). وتظهر الواقعية من خلال الحرص على أسماء الأماكن الفعلية التي غدت علامة أولية على الالتزام الواقعي, كما تظهر في الانحياز إلى مشكلات الشرائح الفقيرة من الطبقة الوسطى التي كانت بمنزلة العمود الأساسي للمجتمع المصري. ولذلك, كانت المشكلة الاجتماعية في روايات نجيب محفوظ الواقعية مرتبطة بالضغوط التي تدفع إلى تسلق السلم الاجتماعي, ابتعادا عن الطبقات الفقيرة واتصالا بالطبقات العليا, ولكن بما ينتهي - في العادة - إلى كارثة, يدين بها الروائي على نحو غير مباشر المحاولات الفردية الملتوية التي يقوم بها أمثال محجوب عبدالدايم وحسنين للصعود إلى أعلى. وكان واضحا أن أعمال نجيب محفوظ التي أشرت إلى عناوينها صارت نموذجا للذرى الإبداعية التي يمكن أن تصل إليها الواقعية.

نموذج الواقعية

          وقد انتهى نجيب محفوظ من كتابة الجزء الأخير من الثلاثية قبيل قيام ثورة يوليو 1952. وعندما قامت الثورة شعر بأنها شرعت في تغيير العالم القديم الذي توفر على نقده اجتماعيا وفكريا, فتوقف عن الكتابة, معيدا التأمل في مساره الإبداعي ومنهجه في الكتابة, لكن ظلّت أعماله الواقعية - طوال سنوات صمته الكتابي الذي امتد لسبع سنوات تقريبا - هي النموذج الذي تتطلع إليه الأجيال على امتداد الوطن العربي, النموذج الذي نجد أصداءه الواضحة - على سبيل المثال - في أعمال الروائي السوري حنا مينا, خصوصا في كتاباته الأولى, وعلى رأسها رواية (المصابيح الزرقاء) التي لفتت الأنظار إليه عندما صدرت سنة 1954.

          ولعل دلالة نموذج الكتابة الواقعية الذي صاغه نجيب محفوظ, سواء من حيث تاريخ استهلاله وملامحه التكوينية, تلفت انتباهنا إلى أن الواقعية قد برزت بقوة بوصفها مذهبا أدبيا له جاذبيته العامة في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة, وبعد أن تجلت بواكير البدايات المؤثرة في سنوات الحرب ذاتها. ويرجع ذلك إلى أن الحرب كشفت عن الأزمة الحادة التي كان يعيشها المجتمع العربي على كل المستويات, وهي أزمة أدركت الطلائع المبدعة أنه لم يعد من المقبول تجاهلها, أو الفرار منها إلى عوالم وهمية, أو رومانسية, وإنما مواجهتها والتصدي لها بتعرية الجوانب المختلفة لأسبابها, الأمر الذي قاد إلى الغوص عميقا في مشكلات المجتمع, خصوصا من حيث انعكاسها على الشخصيات التي تنتسب إلى شرائح الطبقة الوسطى, مع الانحياز إلى الشرائح الفقيرة التي لا تختلف في معاناتها عما كان يشهده الفلاح في القرى المصرية أو العربية.

إرهاصات الواقعية

          ولكن رغم الارتباط المباشر بين تصاعد الواقعية والنتائج المباشرة وغير المباشرة للحرب العالمية الثانية, فإن الدعوة إلى مذهب الواقعية نفسه أقدم من الحرب العالمية في الثقافة العربية الحديثة, وبخاصة في الثقافة المصرية التي كان لها دور الريادة, وذلك بسبب ما عرفته من أشكال المثاقفة الباكرة. ولم يكن من الغريب - والأمر كذلك - أن نسمع عن مذهب الواقعية مطلع القرن, وأن تتتابع دعوات الواقعية من العارفين بالآداب الأوربية, والمتأثرين بتياراتها التي رأوها أقرب إلى تمثيل الواقع الذي يعيشون فيه. وكان من الطبيعي أن تحدث ثورة 1919 نوعا من الميل الواقعي في كتابات أبرز أفراد (المدرسة الحديثة), سواء الذين انتسبوا منها إلى الطبقات العليا مثل محمد تيمور الذي سبق شقيقه محمود تيمور إلى التيار الواقعي الممتزج بنزعة رومانسية متأصلة, أو الذين انتسبوا إلى الطبقات الوسطى مثل محمود طاهر لاشين والأخوين عبيد: عيسى عبيد وشحاتة عبيد.

          ومن الواضح أن الإرهاصات المتتابعة والتجليات المتعاقبة للنزوع الواقعي وصلت إلى ذروة تراكمها في الحرب العالمية الثانية, ومنحتها الحرب من لهيبها ما أنضج تيار الواقعية, وأخذ يدفع به إلى الصدارة, وذلك على النحو الذي جعل من خمسينيات القرن العشرين عقد الواقعية بلا منازع, حيث وصل المد الواقعي إلى أقصى درجات مدّه التي جاوزت الخمسينيات وسيطرت على النصف الأول من الستينيات, إلى أن حدثت كارثة العام السابع والستين, وأعادت تغيير الملامح الأساسية للمشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي, ومن ثم المشهد الأدبي الذي وضع الواقعية موضع الصدارة طوال الخمسينيات التي شهدت صعود المشروع القومي.

          وإذا كانت الحرب العالمية الثانية بما كشفت عنه من أبعاد حدّية للأزمات الاجتماعية, في تصاعد تيارات التمرد على الفساد السياسي والتراجع الاقتصادي, هي المسئولة عن الانبثاق القوي لتيار الواقعية, فمن المؤكد أن الانفتاح على تيار الواقعية الأوربية في الأدب الأوربي كان له تأثيره المهم, سواء في تعميق مفاهيم الواقعية عند كتابها الكبار من ناحية, أو الإعجاب بالأعمال الاستثنائية على نحو دفع إلى الصوغ على مثالها, أو - على الأقل - محاكاة تقنياتها الروائية من ناحية مقابلة.

          ويمكن أن نضع في حسابنا - ما دمنا وصلنا إلى هذه النقطة - التأثير الذي تركه الانفتاح النسبي على الماركسية (الإنجليزية بوجه خاص) نتيجة تحالف قوي ما أطلق عليه (العالم الحر) مع الاتحاد السوفييتي الذي شارك في هزيمة الفاشية والنازية.

انهيار الرومانسية

          وتتمثل الموازيات الأدبية لذلك كله في ثلاث علامات دالة. العلامة الأولى هي انحدار المثال الرومانسي وتشققه, خصوصا بعد أن وصل إلى درجة من الميوعة العاطفية ما كان يمكن لها أن تستمر في موازاة نيران الحرب التي صهرت التكوينات العاطفية الهشة, واستبدلت بها نوعا من الإحساس الواقعي القاسي الذي لم يعد في استطاعته أن يقبل أدبا متوجعا من الطراز الذي يشير إليه بيت علي محمود طه الذي يقول:

وإن أشهى الأغاني في مسامعنا ما سال وهو حزين اللحن مكتئب


          أما العلامة الثانية فكانت تبلور مذاهب جديدة, متمردة على النموذج الرومانسي, ومستبدلة بحضوره الآفل الحضور الواعد للمذاهب التي غدا المذهب الواقعي على رأسها. وارتبطت عملية الاستبدال بظهور أجيال جديدة بالطبع, وأعمال إبداعية جذبت اهتمام القراء لأنهم وجدوا فيها ما يوازي واقعهم الفعلي رمزيا, وما يجسّد مشاعرهم بطريقة فنية لا زيف فيها. وتتصل العلامة الثالثة بالتحول داخل التيارات القائمة بالفعل, تلك التيارات التي كان لابد لها أن تتأثر بنتائج الحرب وتتفاعل معها, الأمر الذي أدى إلى تحوّل دال في مواقف الشخصيات المؤثرة ذات الوزن الكبير داخل هذه التيارات.

أزمنة التحول

          والمثال الأول على هذا التحول هو كتابات طه حسين في مجلة (الكاتب المصري) في الفترة من 1945 إلى 1948, وهي الفترة التي أخذ فيها طه حسين يناقش الشيوعية للمرة الأولى, ويتحدث عن الوجودية في أبعادها النضالية, ويتوقف عند مفهوم (الالتزام) عند جان بول سارتر, ويمضي أبعد منه في تبني المفهوم, فيرى أن (الالتزام) لازم حتى في الشعر الذي أعفاه سارتر من تبعات الالتزام. وكانت مناقشة طه حسين لأفكار سارتر عن الالتزام موازية لما كان ينشره الثاني في مجلته (الأزمنة الحديثة) التي كان طه حسين يتابعها عددا بعدد, ويعقب على أفكار صاحبها الأدبية, حتى من قبل أن يصدر كتاب سارتر (ما الأدب). وبقدر ما كانت مواقف طه حسين الليبرالية تتخذ منحى راديكاليا, في مدى الالتزام بقضايا المعذبين في الأرض من الذين يحملون شجرة البؤس على أكتافهم, كانت الراديكالية الليبرالية تقترب اقترابا سريعا من اليسار, وذلك إلى الدرجة التي جعلت طه حسين, سنة 1946 على وجه التحديد, يدخل في حوار مع طوائف الماركسيين, وتنشر مجلة (الفجر الجديد) رسالة منه, يعلن فيها تسليمه بالاشتراكية, بل يضيف إلى ذلك براءته من (الاشتراكية الفاترة) مؤكدا أنه (يباشر إلى أقصى ما يستطيع).

          أما المثال الثاني, فهو موقف محمد مندور الذي عاد من بعثته إلى فرنسا كي يواصل طريق أستاذه طه حسين, فيتبنى المنهج التاريخي الذي تعلمه من جوستاف لانسون, والمنهج التأثري الذي تآلف مع نظرية التعبير التي رفع مندور شعاراتها من جديد بكتابه (في الميزان الجديد) الذي صدر سنة 1944. ولكن الممارسة العملية, ومتغيرات الواقع التي انتهت بالحرب, دفعت مندور إلى مجاوزة اتجاهه التعبيري ونقده التأثري, وذلك في موازاة تركه الجامعة سنة 1945, وارتباطه بيسار الوفد (جماعة عزيزة ميرهم) بل مجاوزة هذا الارتباط في الالتقاء باليسار من خلال مجلة (الفجر الجديد) التي شجعت اتجاهه الذي رأته واعدا في يساريته. ولذلك مضى مندور في طريقه التي تزايدت شعاراته الاشتراكية وتحيزاته الواقعية إلى أن وصل إلى ما أسماه (النقد الأيديولوجي).

          ولم يكن محمد مندور في ذلك بعيدا عن خطى زميله لويس عوض الذي سبقه إلى اليسار, وأعانه على الاقتراب من دوائره, خصوصا بعد أن أخذ لويس عوض يكتب عن رجعية ت.إس.إليوت ود.هـ.لورنس وغيرهما من أعلام الأدب الإنجليزي المعاصر في ذلك الوقت, وبتشجيع من أستاذه طه حسين الذي فتح له أبواب مجلة (الكاتب المصري) وفي نوع من التأثر اللافت بكتابات الناقد الماركسي الإنجليزي الشهير كرستوفر كودويل صاحب كتاب (دراسات في ثقافة تحتضر) الذي احتذاه لويس عوض في المقالات التي جمعها كتابه (في الأدب الإنجليزي الحديث) الذي صدر سنة 1950. كان ذلك بعد أن احتذى النهج الماركسي في مقدمة ترجمته لرائعة شيللي (بروميثيوس طليقا) التي صدرت سنة 1947, وفي مقدمة ديوانه الطليعي (بلوتولاند) الذي صادرته الرقابة بعد طبعه في السنة نفسها (1947).

          ورغم الضربة القوية التي وجهها صدقي باشا إلى التجمعات اليسارية سنة 1946, سواء بالقبض على الرموز المتمردة ومنها محمد مندور, أو بإغلاق الصحف اليسارية أو المتعاطفة مع اليسار, أقول على الرغم من ضربة صدقي باشا فإن الاتجاه الواقعي مضى مكتسحا ما أمامه, متحوّلا عن الواقعية النقدية التي غلبت على الأعمال الإبداعية إلى الواقعية الاشتراكية التي غلبت على الكتابات النقدية جهيرة الصوت في ذلك الزمن الذي فرض انتشار الأفكار الاشتراكية. وقد ظهر ذلك واضحا في الكتابات التي شهدتها مجلات اليسار المصري, مثل (التطور( التي صدرت لسنة واحدة, سنة 1940, وكان من أبرز كتّابها أنور كامل وكامل التلمساني ورمسيس يونان, و(الفجر الجديد) التي استمرت لعامين, 45-1946, وكان من أبرز كتّابها أحمد رشدي صالح وعلي الراعي ونعمان عاشور وأنور عبدالملك وعبدالرحمن الشرقاوي وأسعد حليم ولطيفة الزيات وكمال عبدالحليم, ورئيف خوري وأقران له من لبنان, فضلا عن مجلة (الكاتب) وبعدها (الغد). أما في سوريا فقد استمرت مجلة (الطليعة) منذ سنة 1935 إلى سنة 1948, بينما ظهرت (الطريق) في لبنان سنة 1941, وبعدها (الثقافة الوطنية) التي شهدت كتابات كل من محمود أمين العالم وعلي الراعي ولويس عوض, وانتقل إليها كتاب (الفجر الجديد) بعد إغلاقها بتعليمات من صدقي باشا.

الثورة وأزمة الديمقراطية

          وبعد ثورة 1952, بدأ الكتّاب الذين رفعوا شعار الواقعية يتحرّكون علنا, ذلك على الرغم من خلاف بعض الأجنحة الشيوعية مع الثورة, لكن المؤكد أن طوائف منهم التقت مع الثورة, خصوصاً بسبب التيار اليساري الذي وجد لنفسه حضوراً بين الضباط الأحرار في شخص كل من يوسف صديق وخالد محيي الدين. ودعم هذا الالتقاء موقف الثورة من الأحلاف الغربية الاستعمارية, والصدام المبكر مع حكومة نوري السعيد التي كانت منحازة إلى هذه الأحلاف. فمن المعروف أنه في مارس 1954 منعت جريدة الثورة (الجمهورية) من الدخول إلى العراق بسبب دعوتها إلى الحياد الإيجابي ومهاجمة فكرة حلف بغداد. وكتب محمد مندور في (الجمهورية) مقالا دالا على هذا المنع في الثاني عشر من مارس 1954. صحيح أن أزمة الديمقراطية انفجرت في مارس 1954, وترتب عليها استرابة الأحزاب الشيوعية في النزوع الديكتاتوري الذي أخذ يسيطر على توجه الضباط الأحرار, الأمر الذي أدى إلى إبعاد أو استبعاد خالد محيي الدين ويوسف صديق. ولكن مع ذلك ظل هناك نوع من التجاوب بين شعارات الضباط الأحرار وأفكار العدل الاجتماعي المرتبطة بالواقعية ارتباطاً كبيراً, ولذلك كان من الطبيعي أن تصعد الواقعية, نظرا وتطبيقا, في الخمسينيات الصاعدة, خصوصا بعد أن أدركت قيادات ثورة يوليو أن الكتّاب اليساريين حلفاؤها الطبيعيون في مقاومة الاستعمار, ومواجهة الأحلاف, والقضاء على الإقطاع, وتحقيق أحلام الاستقلال الكامل والعدل الاجتماعي الحقيقي.

          ومن اللافت للانتباه أن نجد منظري الواقعية وأدباءها موزعين على أهم المنابر الأدبية بين عامي 53-1954, فقد احتفت صفحات جريدة (المصري) - قبل إغلاقها - بكتابات محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وعبدالرحمن الخميسي, بينما اتسعت صفحات (الجمهورية) التي أصبحت الناطق الإعلامي باسم الثورة لكل من لويس عوض ومحمد مندور ومحمد مفيد الشوباشي وعبدالرحمن الخميسي الذي انتقل إليها بعد إغلاق المصري. وتولى لويس عوض - في الجريدة نفسها - الإشراف على باب (الأدب في سبيل الحياة). وهي تسمية تكشف عن الانحياز الواقعي. في سياق كانت كلمة (الحياة) ترادف فيه كلمة (الواقع) في الدلالة, بينما كان نفي صفة الصلة بالحياة عن عمل أدبي نفيا لقيمته الجمالية بالمعنى الواقعي, ولذلك استخدم محمود أمين العالم - على سبيل المثال - عنوان (الهارب من الحياة) وصفا سلبيا لكتابة إبراهيم المازني الذي وصف محمود العالم فلسفة روايته (إبراهيم الكاتب) بأنها الهرب من الحياة.

 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات