عطل في مدار الكون

عطل في مدار الكون
        

قصة

          أمس, حول مداره, عرفت معنى أن يتصبّب الرجل عرقا. كان الصيف يلهب صحارى جسده ويذيب ثلوج قطبيه.

          فكّرت في الكلمات التي سيخبرني بها, ذات خريف, إننا لن نلتقي ولن نتحاب بعد اليوم.

          سيأخذ يديّ بيديه, ويبعدهما عن مداره, ويفلتني لأقع في لا مكان, أو ربما في مدار كوكب جديد, أو في فلك من دون ثقب أعبر منه إلى ثقب ما, إلى قعر أفتقده. لذلك خطّطت لأرض تتلقاني عند وقوعي, ولحضن أحتمي به.

          أمس.

          الصيف.

          الحب فوق خط الاستواء, الأفكار الجهنمية والوساوس.

***

          غدا, ستتراكم الثلوج ثانية ليبتهج الطفل المستدير العينين السوداوين, الكرزي الشفتين. وسيركض أمامي, ذاك الذي يزورني في المنامات كي يرضع حليبي الساخن أو كي يسمع أغنية أو حكاية, سيركض أمامي مندفعا نحو هضبة بيضاء وسيأخذ حفنة ثلج ويرميني بها ضاحكا, حينها ستكون اللحظة المناسبة كي أبوح له بالسرّ, الذي ينبت كشجرة صبار بين رئتي, تؤلمهما كلما تنفّست. سأطلب منه أن يسامحني لأنني أسكنته تسعة شهور تحت جذور شجرة الصبّار, وسأخبره أن والده لا يريده لأنه...

          غداً...

          الشتاء.

          بهجة الثلج. رهبة الاعتراف والغفران.

***

          أمس الأول, بحت له بحبي إذ قبّلته. كانت قبلتنا الأولى. أردت بعدها الانصراف لألملم ارتباكي وهفوتي, ولكنه هدّدني, ما أجمل تهديد الرجال بألا نتركهم! مدّ إصبعه محذّراً بألا أرحل.

          أبعد قبّة قميصي الأبيض ليطبع قبلة بنفسجية في جيدي, فتفتّح زهر جلدي. صرت شجرة ورد. بنفسج وياسمين وزهر المشمش. وبعد أن اكتملت الباقة أطلق سراحي, كي يشتاق إليّ وكي يحبني أكثر بعد أن يشتاق إلي.

          في الشارع تساقط مطرٌ ربيعيٌ قصفَ, برغم رقّته, البراعم التي حلمتْ أن تصير مشمشا.

          كم هو بعيد ذاك الربيع, عندما وقفت إلى جوار كرسيه, وأهديته شفتين فجّتين ليقطفهما!

          كان شركاً لكلينا.

          أمس الأول.

          الربيع.

          الحب يولد برعماً تسحقه قطرة ضلّت غيمتها.

***

          اليوم, وأنا أتعلّق بمداره, وتتأرجح حواسي كأوراق فوق أغصان خريفية, وأنا أدفع حرارتي من مسامي إلى مسامه, أقول له إنني سأصبح أمّا بعد سبعة شهور.

          لا يلفظني كما توقّعت, ولا يزجرني ولا يبكي. يقول صمته إنه يعلم بأمر الجنين, ويقول أيضا إن عليّ أن أرى طبيبا في الحال. ويعيد ما قاله مرات ومرات, وهو أننا من عالمين مختلفين, من جيلين مختلفين, من قطبين نقيضين, وأن الأقطاب لا تلتقي.

          (لا يمكن أن نجتمع بوثاق أبدي), يقول قبل أن يرحل. لا أندب حظي لأنه لا يحبني, بل هو يحبني, ولكنه واحد من أولئك الذين لا ينجبون من معشوقاتهم, كي يبقى الحب وهماً لا يمسّه أحد أو شيء.

          يرحل ولكنّه ينسى مسامه فوق مسامي, ينسى رائحته في شعري, وذرّة صغيرة في أسفل شجرة الصبّار. وينسى أني قلت له يوما إني أريد طفلا منه كي لا يُهدر كل هذا الحب سدى.منذ اليوم ستنمو نواةٌ داخلي, وتصبح كائناً يستطيع أن يقلع أشواك حياتي.

          اليوم.

          الخريف.

          أُفلتُ المدار وأقول لجنيني: (هناك دائما شيء يخرق الثوابت...

          فلا تصدّق ما يقال عن تعاقب الفصول, ونديّة الأقطاب, ومواسم جني الثمار التي لا تخطئ موعدها, ففي موسم الصبّار سأجني الكرز)

 

بسمة الخطيب   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات