القهارة

 القهارة
        

قصة

          القهارة, فرس شهباء مطهمة, ظل صوت صهيلها يدق ذاكرتي منذ زمن الطفولة البعيد, وبقي وقع حوافرها وهي تخب بإيقاع منتظم يتردد في سمعي إلى هذا اليوم, منذ كنت صغيراً ألهو حولها وأطعمها وأداعبها,وإذ يأتي المساء كنت آخذ رسنها وأقودها عبر حارات القرية المتربة مزهواً بها, وبعيون الأطفال والفتيات من أهل القرية وهم يتابعوننا معاً إلى حين أطلقها في الحقول لكي تلهو مع الريح لهواً خفيفاً وأجلس هناك بانتظارها على صخرة ملساء قرب آخر النهار.

          وفي حقل ذلك الانتظار كانت القهارة تحمحم حولي باعتذار, ثم تقفز أمامي كأنما هي تتودد إلي بمعروف لتفارقني من بعد إلى حيث تتشكل خيالاً فوق ربوة ثم ترمح من هناك لاهية كشراع تائه في لجة الريح أو متمهلة حيناً كظل يهجر الأمكنة, فيما وقع حوافرها كان يطرق مسامعي كأنما هو دوزنة ناي الوقت يوقع في الزمن ذلك الحنين إلى أوردة عميقة في خرائط الريف, وحدها جميلة من كانت تسكنني في تلك الأيام البعيدة, وهما أو خيالاً يجنحان دائما إليها, وكنت أتمنى لو تراني في يوم ما على ظهر القهارة أعدو بها أمام ناظريها, فارساً يمتطي صهوة البوح لكي يطير به إلى عتباتها.

          أتراني حققت ذلك يوماً.

          نعم حين أخذني أبي بيديه وقذفني فوق ظهر القهارة, وكأنما شعرت تلك الفرس بوجودي فوق صهوتها, خائفاً متمسكاً بمقدم السرج وقد ضممت ساقي بإحكام حول بطنها الضامر, فمضت هادئة أول الأمر تجتاز بي القرية زقاقاً, ثم عطفة, حتى حاذت بيت جميلة, هناك خبت بي قليلاً, قافزة قفزاً ناعماً إلى حيث انعطفت وهي تصهل نحو مدى في حقل قريب, ومضت هازئة بخوفي وهي تعدو متفلتة في ذلك الحقل وقد لوت رأسها نحوي تنظر إليّ بعينين حانيتين, كأنما تلك الفرس عرفت الكلام في ذلك النهار فكلمتني بود قديم تراكم فيما بيننا ونحن نلهو معاً في ظلال ألفتنا.

          يوماً بعد يوم, راحت صداقتنا تتوطد ورحنا نتداخل معاً في علاقة حميمة ربطتنا بوشائج متينة, وحين كنت أدخل أسطبلها لأقدم لها العلف, أو لأمسح جسدها الناعم, وأغسله أو أنظف لها السرج وألمعه, ثم أشرف على الحوذي وهو يحذو لها حوافرها صقلاً وبرياً, كأنما هي أصابع عروس, كانت تلك الفرس تنهض واقفة بعيد انتهاء الحوذي من عمله وهي تتأمل حافريها الأماميين تتمايل برشاقة أمامي ثم تسير خطوات إلى الأمام وخطوات إلى الوراء وهي تحمحم بصوت ناعم أقرب إلى همس الريح في حقول ملساء.

          كل مساء تقريباً, كنت أذهب برفقتها أو أمتطي صهوتها ثم حين كنت أترجل عنها وأخلع السرج عن ظهرها, كانت تلك الفرس تصهل قليلاً وتقفز حولي قفزاً ناعماً ثم تعدو خبباً في أول الأمر, أو ركضاً, إلى حين تتشكل في آخر المساء ظلاً يتداخل بنسيم ظلال شجر الخروب الذي كان يبدو لي من بعيد وكأنه يدعوني للاستراحة في ظلاله.

          حتى جميلة فقد راحت بدورها تكثر من السلام والكلام كلما التقينا صدفة أو مررنا قصداً من أمام بيتها حين خروجنا أو عودتنا, ترى هل كانت تلك الفرس تتلكأ قليلاً حين كنا نحاذي بيت جميلة, أغلب الظن أنها كانت تفعل لأنها ذات مرة وقفت أمام ذلك البيت من دون سبب, ثم صهلت من دون حاجة للصهيل, كان ذلك عند المساء حين أطلت علينا جميلة مبتسمة وهي تفرد لي في ظل ابتسامتها خفراً ريفياً, كأنها تدعوني إليها ثم تتـــردد, فدعــــوتها إلى رفقة صغيرة وفي طريق عـــودتنا حين مشينا ثلاثتنا معاً, شعــــرت كما لو أن هاتــــفاً يحـــثني لكي أضم جميلة وأقبــلها وهكذا فعـــلت, ولكن في الوقت غير المناسب طبــعاً, فـــفي تلك اللحــظة كانت الحاجة سعدى قد أطلت برأسها من بوابة بيتها, وصرخت بذلك الصوت الذي راح يعلو معلناً الفضيحة ومتسللاً إلى الأزقة والحواري وسمع أبي.

          لقد فررت ذلك اليوم من غضب قروي ومن عقاب كان ينتظرني, وأخذت طريقي إلى المدينة أياماً حتى هدأت أحوال النفوس التي قبضت على جمر تلك الفضيحة, وعندما رجعت إلى القرية بعد غيبة عنها, عدت مشتاقاً إليها, فهناك بانتظاري في تلك الأزقة الساكنة تحت يد الكون, جميلة والقهارة, وعلينا معاً أن نثير الكثير من الغبار والشغب تحت عين الشمس وإلى حين يعلن غياب القمر الليل كاملاً والأمكنة موحشة.

          في أول النهار كان وقع خطاي المضطرب هو الذي عكر سكون ذلك الصباح الوليد الذي كان يملأ الحقوق ويتكامل بها, لكأني كنت أجوس لأول مرة عتبات القرية بعد غيبة قسرية هي الأولى, منذ درجت طفلا في أزقتها, متلهفا وصلت, الصباح يتشكل مع الورد أضمومتي حبق وزهر بري قطفتهما من حاكورة طفولة ملونة وشكلتهما في ذلك الوقت, واحدة أزين بها عنق القهارة وثانية أنثرها قرب باب بيت جميلة, وفي إيقاع ذلك الصحو الراكد, دخلت المنزل خائفا ومترددا, ومحاذرا أن يراني أبي وعبرت فسحة الدار هابطا الدرجات القلائل إلى الإسطبل, وحين فتحت الباب, بدا لي كما لو أن تلك الفرس كانت بانتظاري, فانتصبت مرحبة كأنما هي بيدق مهزوم في ملكوت صبي خائف, ثم اقتربت مني وداعبتني برأسها كما يداعب الحنين أول اللقاء, كان لونها قد بهت قليلا أو لعله ذلك العتم الرطب في داخل ذلك الإسطبل هو الذي جللها بذلك الشحوب, ولكن أمي التي دخلت الإسطبل بعدي بقليل هي التي أخبرتني بأن القهارة مريضة, ولم ينفع بها حتى الآن طب أو علاج, لقد وقفت حولها حائرا ودرت وابتسمت, وربما بكيت, وأنا أربت على عنقها وأقبل وجهها بحرارة مشتاق, أما البيطري الذي جاء بعدي بقليل فقد أخبرني بأن حالها ميئوس منها وأن الأمل في شفائها ضعيف حين توسلاتي فقط هي التي استمهلته لكي يظل معنا بعض الوقت.

          في ذلك الصباح كان كل شيء حولنا يتبدل, حتى تلك الشمس الطالعة من رحم التلال البعيدة, كانت هي أيضا صفراء وشاحبة, وهي تبدد أشعتها على تصوينة البيت الغريبة, ثم تتمدد ظلالا يقذفها شجر الزلزخـــت حتى مدخل الإسطبل, حيث القهارة ممددة أمامي, عيـــناها مفتوحتان على فراغ عميق وقوائمها مشدودة وبطنها منتفخ وأنفاسها لاهثة ومتتابعة, ولعلي حين نـظرت إلى عينيها رأيت فيهما دمـوعا طـــفرت ثم انحـــدرت على وجهها حين لوت رأسها ونفقت أمامي بهدوء يشبه الاعتذار.

          لا لم يكن الحزن, بل بقايا زمن ودود كان يتكسر في ذلك الصباح نتفا صغيرة لكي يمضي برفقتها إلى الأبد, وحين أهلنا عليها التراب, وقفت طويلا هناك, كان المأتم متواضعا فيما حملت إلينا الريح مع الغبار ترتيلا عميقا راح يبسط كف الشوق مع الحنين رقيقا يداعب ذلك الوداع, وفوق ذلك الشاهد الحجري الذي وضعته فوق قيلولتها الدائمة, كان ثمة هلع حقيقي يغزوني ثم يعصف بي قويا وجارفا إلى آخر الحزن, ومن تلك البقعة حين نظرت شاخصا كان وجه جميلة يطل علي من شباك رغبة في جدار بعيد, وهو يواسيني بكلام لم أكن أسمعه, وبدموع كنت كأني أراها وهي ترف تحت سماء بلا غيوم.

 

هاني حلاوي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات