إصرار الذاكرة

 إصرار الذاكرة
        

          يصعب تقدير الحجم الفعلي لسعي الفن التشكيلي إلى رسم فكرة الزمن وجعله مرئيّاً, ولكن المؤكد أن سلفادور دالي فعل ذلك ببراعة لافتة في لوحته التي تحمل اسم (إصرار الذاكرة). وغنيٌّ عن البيان ما تحتله فكرة الزمان من مساحة طاغية في صلب فكرة الوجود وكينونة الإنسان, وجميع ما هو موجود, فالكون والإنسان وكل ما هو موجود, لا يمكن وجوده, أو استيعاؤه في معزل عن الزمنية, مع التذكير بالطبيعة التجريدية القصوى للزمان, وما يحتله أيضا من مكانة بارزة في بنيان جميع الفلسفات التي أنتجها الفكر البشري في جميع مراحل التاريخ.

          استعار دالي صورة الساعات الميكانيكية ذات العقربين لتجسيد فكرة الزمنية, ووزّع في فضاء اللوحة أربع ساعات (آلات لضبط الوقت, وليس وحدات زمنية) واحدة مغلقة, والثلاث الباقيات جعلها الفنان تتميّع كما لو كانت مصنوعة من المطّاط ذي الرخاوة القصوى, أو الشوكولاتة التي تسيح قبل بلوغها درجة الذوبان. إحدى الساعات المائعة ملقاة على غصن شجرة يابسة لم يبق منها سوى جذعها الأجوف مع غصن وحيد, والساعة ملقاة عليه كثوب مبلول متروك ليجفّ, والشجرة مغروزة في مكعب منتظم الحواف كما لو كان من الإسمنت المسلّح أو الحديد, وعلى حافته ساعة مائعة, وفي بؤرة اللوحة ساعة مائعة ثالثة ملقاة على كتلة غير واضحة الملامح, تشبه كائنا رخويا أو غضروفياً, كتلته العامة تشبه جذع حصان, ومع ذلك تشي مقدمته باختزان طاقة شبقية تسعى للإفصاح عن ذاتها. وفي خلفية المشهد ضفة بحر وهضبة عارية وبحر وسماء.

          لم تستند شهرة هذه اللوحة وقيمتها داخل الفن التشكيلي المعاصر إلى مجرد شهرة الفنان الذي رسمها وما يحتله من موقع طليعي في الحركة السريالية التي بلغت ذروتها في فترة ما بين الحربين, بل قامت أهميتها على ركيزتين لا يجوز فصل إحداهما عن الأخرى. الأولى: ركيزة بصرية خالصة داخل الإطار التشكيلي. والثانية: ركيزة فلسفية ذات صلة مباشرة بجوهر الأزمة الوجودية التي عصفت بالإنسان وحضارته المعاصرة, وخصوصاً في غرب أوربا.

          فالركيزة الفلسفية تتمثّل في قوّة الدلالات التي تتكثّفها اللوحة رغم قلّة العناصر والوحدات التشكيلية الموجودة فيها, ومع ذلك فهي تغوص في أعماق عدد من القضايا الكبرى التي ساهمت في تشكيل ما نسميه أزمة الإنسان المعاصر, وفي طليعتها علاقة الإنسان بالزمن المطلق, وطبيعته التجريدية الملغزة, وصلة ذلك بقضية الانتظار غير المجدي لكل ما لا يأتي, واكتظاظ أعماق الإنسان بالترقّب والتوقّع القلق, من غير أن يسفر ذلك كله عن أي شيء, ورغم ذلك يصرّ الإنسان على التذكّر والانتظار والترقّب, إلى حدّ الدلوف الفعلي في القتل الفعلي للزمن وإلغائه, أو العيش في معزل عن سيولته, من خلال جعله يتميّع ويذوب وهو في طريقه إلى طبيعته السائلة التي يمكن أن تئول إلى أي مصبّ أو مكبّ, أو تندمج في - أو تتحول إلى - أي عنصر آخر غير زماني. من غير أن يغيب عن الذهن أن السرياليين عموما, ومنهم دالي, حفلوا بالارتجاعات الزمنية والغوص في البواطن وما سمته مدرسة التحليل النفسي (اللاشعور), ولكن هذه اللوحة من خلال الساعات المائعة تعالج الزمن في سيرورته المزدوجة باتجاهي الماضي المتمثل بارتحالات الذاكرة, والمستقبل المتمثل بالانتظار والتوقّع, وكذلك في قطبيه الأزليين المتمثلين بالزوال والديمومة.

          وتعالج اللوحة أيضا قضيّة القفر الشعوري, أو الإفلاس العاطفي الذي يعانيه الإنسان المعاصر, وقطيعته المتعاظمة مع الطبيعة وتدميرها وإخضاعها لمنطق الهندسة الصارم, وإفراغها من موجوداتها التي تشكّل ثراءها المعهود. وتتميّع قدرته على التذكّر, ولا يلوح في خلفية المشهد الذي تفلح الذاكرة في انتزاعه من غياهبها المظلمة سوى هضبة باشرت تصحّرها رغم أنها تشاطئ بحراً, ولكنه بحر لم يعد أزرق.

          وتتصل هذه القضية بما يسمونه تشيؤ الإنسان وإفراغه من إنسانيته واستبداله بها عددا شديد المحدودية من الوظائف والاستجابات الآلية اللاصقة بما لديه من صفات حيوانية ترجع به إلى الدرك الأسفل من سلم الارتقاء المعروف في تاريخ الجنس البشري. كما تعالج اللوحة علاقة الإنسان بالفراغ بدلالاته جميعها, فالفراغ/الخواء لم يعد الإنسان المعاصر يعانيه على المستويات النفسية والعقلية والعاطفية فقط, بل يعانيه أيضا على المستوى المكاني والزماني, إلى الدرجة التي يتحول فيها الفراغ إلى متاهة مكانية, ومتاهة زمانية موازية, ترتادها الذاكرة, وتعجز عن الخروج منها, فتذبل كذبول تلك الساعات التي تتلاشى وتحتضر في لوحة دالي.

          وفيما يتعلق بالركيزة البصرية التشكيلية, فقد تضمّنت هذه اللوحة ذات القياس الصغير (33x24) والمنجزة عام 1931 قيماً تشكيلية لا تقل أهمية عما أثارته من قيم فكرية وفلسفية, تتصدرها قدرة دالي المدهشة على التصوير المتقن الدقيق لكل ما صوره في لوحاته جميعها, بالإضافة إلى طريقة بنائها وتكوينها الصارم, وتوزيع موجوداتها القليلة داخل المستطيل, والتوازن الدقيق بين المساحات القائمة إلى درجة السواد الأقصى, والفاتحة إلى درجة البياض الجارح من شدة الإضاءة.

          وربما كان الأهم من ذلك قدرة دالي على رسم المساحات الفارغة, فمن المعروف لدى الذين يمارسون فن الرسم خطورة ترك المساحات الفارغة داخل اللوحة, بحيث يدفعهم ذلك إلى ملئها بموجودات وظيفتها الوحيدة هي ملء الفراغ, أو يعمدون إلى تحريك الفراغ عبر حشده بعدد من الألوان, أو تدرجات اللون الواحد, خلافا لدالي الذي يشكّل رسم الفراغات لديه عنصراً رئيسياً قلما خلت منه لوحة من لوحاته.

          استثمر دالي في إنجاز هذه اللوحة لوحة سابقة رسمها عام 1929 تمثل امرأة على شكل فرس, نقل كتلتها العامة مع تحوير طفيف إلى بؤرة (إصرار الذاكرة), وفي عام 1952 أجرى معالجة أخرى لـ(إصرار الذاكرة) سمّاها (تحلُّل إصرار الذاكرة).

          بقي أن نشير إلى أن اكتظاظ (إصرار الذاكرة) بفكرة الزمنية والآثار المدمّرة للانتظار, وتميّع الوقت والذاكرة معا, يجعل هذه اللوحة تنهض بالتوازي مع مسرحية صموئيل بيكيت (في انتظار غودو), وتجعلنا أيضا نستذكر شكوى شعراء العربية الجاهليين من توقّف حركة الزمن الرديء عند أشد حالاته رداءة لدى امرئ القيس: (ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ...) وبطء حركته لدى النابغة: (وليل أقاسيه بطيء الكواكب...) وتحوّل دقائقه في شعرنا المعاصر إلى عصور لدى خليل حاوي: (رباه... كيف تمطّ أرجلها الدقائق... كيف تجمد...? تستحيل إلى عصور..).

 

صلاح صالح   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





معالجة أخرى أسماها دالي (تحلل إصرار الذاكرة) أنتجها عام 1952





اللوحة التي رسمها دالي عام 1929 واستثمرها في انجاز (إصرار الذاكرة)