شهر رمضان في الأدب العربي

شهر رمضان في الأدب العربي
        

تباينت مواقف الأدباء والشعراء من شهر رمضان بين المديح والغزل والعتاب والهجاء الصريح في بعض الأحيان, واختلفت هذه المواقف حسب اختلاف الأدباء والعصور الأدبية.

          لم يكن شهر رمضان بكل ما يتضمنه من معان دينية وروحية بالمناسبة التي يغفلها الأدب العربي شعرا ونثرا, ولذلك نجد الأدباء والشعراء يحتفلون برمضان ويحسنون استقباله من خلال إظهار آثار الشهر الكريم على عادات الناس وسلوكياتهم والاحتفال بالانتصارات التي حدثت خلال الشهر, باعتباره شهرا للهداية والنصر والكرم والجود وحسن الخلق, وقد هجا الشعراء من يرتكب المعاصي في رمضان, وإن كان بعض الشعراء ممن كان يثقل عليهم الصوم قد هجوا رمضان في بداية حياتهم مثل ابن الرومي وأبي نواس, ثم قالوا فيه شعرا جميلا عندما طعنوا في السن, فكان رمضان ملهما للأدباء المسلمين من العرب وغير العرب.

          ولقد حفل الأدب العربي منذ عصر صدر الإسلام بكثير من صور التعبير عن الحب والتقدير لشهر رمضان الكريم, وكان أول من فجر طاقات الحب والتقدير في نفوس المسلمين لهذا الشهر العظيم, هو البليغ الأول في هذه الأمة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث توالت في حياة المسلمين على عهد الرسول صور هذا البيان الرائع ومن أمثلته: ( أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب السماء, وتغلق فيه أبواب الجحيم وتصفد فيه مردة الشياطين, لله فيه ليلة خير من ألف شهر, من حرم خيرها فقد حرم الخير كله).

          ونجد أمير الشعراء أحمد شوقي يصور معاني الصوم تصويرا أدبيا, فيقول في كتابه (أسواق الذهب) : (الصوم حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع, لكل فريضة حكمة وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة يستثير الشفقة ويحض على الصدقة, يكسر الكبر ويعلم الصبر ويسن خلاله البر, حتى إذا جاع من ألف الشبع وحرم المترف أسباب المنع, عرف الحرمان كيف يقع وكيف ألمه إذا لذع).

          وفي التاريخ الإسلامي القديم والحديث تغنى الكثير من الشعراء بفرحة شهر رمضان ومنهم البحتري الذي قال في مديح الخليفة المعتصم :

بالبر صمت وأنت أفضل صائم وبسنة الله الرضية تفطر


          ويقول محمود حسن إسماعيل مرحبا بشهر الصيام:

أضيف أنت حل على الأنام وأقسم أن يحيا بالصيام
قطعت الدهر جوابا وفيا يعود مزاره في كل عام
تخيم لا يحد حماك ركن فكل الأرض مهد للخيام
نسخت شعائر الضيفان لما قنعت من الضيافة بالمقام
ورحت تسد للأجواد شرعا من الإحسان علوي النظام
بأن الجود حرمان وزهد أعز من الشراب أو الطعام


          ويصور مشهد الصائمين المترقبين صوت المؤذن منتظرين في خشوع ورهبة نداءه فيقول:

جعلت الناس في وقت المغيب عبيد ندائك العاتي الرهيب
كما ارتقبوا الأذان كأن جرحا يعذبهم, تلفَّت للطبيب
وأتلعت الرقاب بهم فلاحوا كركبان على بلد غريب
عتاة الأنس أنت نسخت منهم تذلل أوجه وضنى جنوب

ترحيب بالهلال

          وقد جرت عادة الشعراء أن يرحبوا بهلال رمضان الذي يأذن ببدء هذا الشهر الكريم, ويتفننوا في وصفه ويعدوه أمارة خير وبشارة يمن وبركة, فيقول الشاعر ابن حمديس الصقلي :

قلت والناس يرقيون هلالا يشبه الصب من نحافة جسمه
من يكن صائما فذا رمضان خط بالنور للورى أول اسمه


          ويذكر البحتري هلال شهر شعبان حين أصبح قمراً يؤذن بطلوع شهر رمضان, فيقول:

قم نبادر بها الصيام فقد أقمر ذاك الهلال من شعبان


          ويقول الشاعر الجزائري محمد الأخضر يمتدح هلال رمضان:

املأ الدنيا شعاعا أيها النور الحبيب
قد طغا الناس عليها وهو كالليل رهيب
فترامت في الدياجي ومضت لا تستجيب
ذكّر الناس عهودا هي من خير العهود
يوم كان الصوم معنى للتسامي والصعود
ينشر الرحمة في الأرض على هذا الوجود


ضيق وضجر

          وعلى الجانب الأخر نرى بعض الشعراء يضيقون بقدوم شهر رمضان ويعتبرونه قيدا لرغباتهم في تناول الشراب والملذات, ولذا يحزنون لرؤية هلاله ويعبرون عن حزنهم وضجرهم فيقول ابن رشيق القيرواني:

لاح لي حاجب الهلال عشيا فتمنيت أنه من سحاب
قلت أهلا وليس أهلا لما قلت ولكن أسمعتها أصحابي
مظهرا حبه وعندي بغض لعدو الكئوس والأكواب


          ونجد بعضهم يشمتون بهلال رمضان حين يدركه النقصان في آخر الشهر, فيقول ابن الرومي :

اني ليعجبني تمام هلاله وأسر بعد تمامه بنحوله


          ويقول ابن المعتز في هلال آخر رمضان:

يا قمرا قد صار مثل الهلال من بعد ما صيرني كالخلال
الحمد لله الذي لم أمت حتى رأيناك بداء السلال


          وهؤلاء الشعراء الذين يتضجرون من هلال رمضان يملأون الدنيا فرحا وبهجة بهلال شوال لأنه يأذن بنهاية الصيام, ويرفع عنهم قيوده, ويخلي سراحهم فيرتعون ويلعبون كما شاءت أهواؤهم, فيقول ابن المعتز:

أهلا بشهر قد أنار هلاله فالآن فاغد الى المدام وبكر
وكأنما هو زورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر


          ويقول أيضا:

أهلا وسهلا بالناي والعود وكأس ساق كالغصن مقدود
قد انقضت دولة الصيام, وقد بشر سقم الهلال بالعيد


          ويقول السري الرفاء ممتدحا شهر شوال الذي أقبل معلنا انتهاء رمضان:

قد جاء شهر السرور شوال وغال شهر الصيام مغتال
أما رأيت الهلال يرمقه قوم لهم - أن رأوه - اهلال
كأنه قيد فضة حرج فض عن الصائمين فاختالوا


          ويصل الحد ببعض هؤلاء الشعراء الذين يفرحون بانتهاء رمضان وقدوم شوال الى دعوة الناس للكأس والخمر التي منعها عنهم الصيام, فيقول مؤيد الدين الطغرائي في هلال الفطر:

قوموا الى لذاتكم يا نيام وأترعوا الكأس بصفو المدام
هذا هلال العيد قد جاءكم بمنجل يحصد شهر الصيام


          والفرحة بقدوم العيد ليست مكروهة بل مستحبة لمن صام رمضان ايمانا واحتسابا وقام ليله, ولكن  يجب ألا تتحول هذه الفرحة بقدوم العيد وشهر شوال الى ذم لشهر الصيام وسرور بانتهائه وفك قيوده, كما نرى لدى هؤلاء القلة من الشعراء الشامتين في انتهاء الشهر الكريم

بخلاء رمضان

          ولقد ذم بعض الشعراء ذلك الصنف من الموسرين البخلاء في رمضان والذين لم يعودوا أنفسهم على الجود والكرم والعطاء, وفي هذا يقول الشاعر علي الجارم الذي نزل ضيفا عند أحد البخلاء فهجاه بقوله:

أتى رمضان غير أن سراتنا يزيدون صوما تضيق به النفس
يصومون صوم المسلمين نهاره وصوم النصارى حينما تغرب الشمس


المكثرون من الطعام

          وفي رمضان نرى كثيرا من الصائمين يقضون فترة المساء في تناول مختلف الأطعمة, ويحشون معدهم بألوان عدة من الطعام, وقد يأكلون في شهر الصيام أضعاف ما يأكلون في غيره, وأمثال هؤلاء لا يستفيدون من الصوم الفائدة المرجوة . وفي ذلك يقول الشاعر معروف الرصافي وهو يصف بعض الصائمين الذين يتهافتون على الطعام غير مبالين بالعواقب:

وأغبى العالمين فتى أكول لفطنته ببطنته انهزام
ولو أني استطعت صيام دهري لصمت فكان ديدني الصيام
ولكن لا أصوم صيام قوم تكاثر في فطورهم الطعام
فإن وضح النهار طووا جياعا وقد هموا إذا اختلط الظلام
وقالوا يا نهار لئن تجعنا فإن الليل منك لنا انتقام
وناموا متخمين على امتلاء وقد يتجشئون وهم نيام
فقل للصائمين أداء فرض ألا ما هكذا فرض الصيام


          ويرسم عميد الأدب العربي طه حسين صورة أدبية للحظات الإفطار فيقول: فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب وأصغت الآذان لاستماع الأذان وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام, فترى أشداقا تنقلب وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة, تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب, الآن يشق السمع دوي المدفع, فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء, وإلى الجياع طافوا بالقصاع, تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود وتدعو الأجواف قدني .. قدني, وتصيح البطون قطني .. قطني, ومع تعدد أصناف الطعام على مائدة الفطور في رمضان فإن الفول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية.

صوم الجوارح

          وفي شهر الصيام, تصوم الجوارح كلها عن معصية الله تعالى, فتصوم العين بغضها عما حرم الله النظر إليه, ويصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة, وتصوم الأذن عن الإصغاء إلى ما نهى الله عنه, ويصوم البطن عن تناول الحرام, وتصوم اليد عن إيذاء الناس, والرجل تصوم عن المشي إلى الفساد فوق الأرض . وفي ذلك يقول أبو بكر عطية الأندلسي:

إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي مقلتي غض, وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما وإن قلت: إني صمت يوما فما صمت


          ويقول الصابي في الذي يصوم عن الطعام فقط ويدعو إلى التخلي عن العيوب والآثام:

يا ذا الذي صام عن الطعام ليتك صمت عن الظلم
هل ينفع الصوم امرؤ طالما أحشاؤه ملأى من الاثم?


          ويؤكد أحمد شوقي ذات المعنى فيقول:

يا مديم الصوم في الشهر الكريم صم عن الغيبة يوما والنميم


          ويقول أيضا :

وصلِّ صلاة من يرجو ويخشى وقبل الصوم صم عن كل فحشا


          أما الشاعرة علية الجعار فكانت من أكثر الشاعرات احتفاء بشهر رمضان, ففي ديوانها (ابنة الإسلام) نجد مقطوعة شعرية بعنوان (رمضان) جاء فيها:

وإن هل بالنور شهر الصيام يجود به الله في كل عام
وصمنا له طاعة في النهار وقمنا له خشّعا في الظلام


          وفي ديوانها الأخير (مهاجرون بلا أنصار) نجد قصيدة بعنوان (مرحبا رمضان) وفيها:

يا مرحبا شهر الهدى شهر السماحة والندى


          وتحدثت في قصائدها عن ارتكاب المعاصي في شهر الصوم فمقطوعة عن تارك الصلاة وأخرى عن المفطر المجاهر ومقطوعة عن إيذاء الناس, ثم اختتمت هذه المقطوعات بمقطوعتين الأولى تلاوة القرآن والثانية الصوم في رحاب الكعبة وتتحدث فيها عن تجربة المعتمرين في رمضان حيث يقضون أكثر أوقاتهم في البيت الحرام.

ريح المسك

          وإذا كان الجوع سببا من أسباب رائحة الفم الكريهة, فإن ريح فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, كما حدَّث بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم . وفي هذا المعنى يقول الشاعر الكبير محمد حسن فقي في قصيدة زادت أبياتها على 150 بيتا, نظمها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك :

رمضان في قلبي هماهم  نشوة من قبل رؤية وجهك الوضاء
وعلى فمي طعم أحسّ بأنه من طعم تلك الجنة الخضراء
لا طعم دنيانا فليس بوسعها تقديم هذا الطعم للخلفاء
ما ذقتُ قط ولا شعرت بمثله ألا أكون به من السعداء


          ونجد الشاعر أحمد مخيمر يناجي رمضان قائلا:

أنت في الدهر غرة وعلى الأر ض سلام وفي السماء دعاء
يتلقاك عند لقياك أهل الـ ـبر والمؤمنون والأصفياء
فلهم في النهار نجوى وتسبيـ ـح وفي الليل أدمع ونداء
ليلة القدر عندهم فرحة العمـ ـر تدانت على سناها السماء
في انتظار لنورها كل ليل يتمنى الهدى ويدعو الرجاء
وتعيش الأرواح في فلق الأشوا ق حتى يباح فيها اللقاء
فإذا الكون فرحة تغمر الخلـ ـق إليه تبتل الأتقياء
وإذا الأرض في سلام وأمن وإذا الفجر نشوة وصفاء
وكأني أرى الملائكة الأبـ ـرار فيها وحولها الأنبياء
نزلوا فوقها من الملأ الأعلـ ـى فأين الشقاء والأشقياء?


          وفي رمضان تتجه النفوس إلى الله بخشوع وإيمان, وفي ذلك يقول الشاعر مصطفى حمام:

حدِّثونا عن راحة القيد فيه حدثونا عن نعمة الحرمان
هو للناس قاهر دون قهر وهو سلطانهم بلا سلطان
قال جوعوا نهاركم فأطاعوا خشعا, يلهجون بالشكران
إن أيامك الثلاثين تمضي كلذيذ الأحلام للوسنان
كلما سرني قدومك أشجا ني نذير الفراق والهجران
وستأتي بعد النوى ثم تأتي يا ترى هل لنا لقاء ثان?


 

أحمد محمود أبو زيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات