ثقافة ثالثة وراء الثورة العلمية
ثقافة ثالثة وراء الثورة العلمية
في ظل هذه الثورة العلمية الهائلة التي يشهدها عالمنا في الوقت الراهن, بات من الضروري أن تتم إعادة تعريف مفهوم الثقافة والمثقف. تعودنا أن نطلق كلمة مثقف على من يتمتع بمعارف في مجالات شتى خاصة في الفن والأدب والفلسفة, ولا يستطيع أكثر العلماء شهرة أن يدخل في دائرة المثقفين بعلمه فقط, وعليه إذا أراد أن يحصل على لقب مثقف أن يتأهل بمعارف أخرى. أما الآن فالوضع قد تغير تماما بعد أن تصدى العلماء لحل أهم المشاكل التي تواجه البشرية فبدأوا في صياغة ثقافة ثالثة تواكب وعينا الجديد بالطبيعة وبأنفسنا. نحن نعيش الآن في عالم جديد حيث أصبح تسارع معدل التغير أكبر في حياتنا, و العلم صار حكاية كبيرة تشغل مساحة واسعة من اهتمام الإنسان العادي. في هذا الإطار يبشر جون بروكمان في كتابه (ثقافة ثالثة وراء الثورة العلمية) بانتشار نوع جديد من الثقافة المعاصرة روادها وفرسانها العلماء والمفكرون العلميون الذين يصيغون مفاهيم جديدة وأفكارا وصورا للتعبير عن وعي البشر بأنفسهم وبعقولهم وبالكون المحيط بهم وكل ما يعرفونه في الظواهر الطبيعية. ويكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة بالنسبة لعالمنا العربي الذي تهيمن عليه الثقافة الأدبية والفلسفية ويعاني نقصا شديدا في الأبحاث والترجمات العلمية والمواد الإعلامية التي تركز على الجديد في المجالات العلمية المختلفة. ومن المفاجآت بالغة الإثارة التي لم يكتشفها بعد المثقفون العرب التقليديون أن العلم بدأ منذ أوائل القرن العشرين يتجاوز الخيال في مجال اكتشافات نظريات ميكانيكا الكم حيث تظهر مفاهيم جديدة للزمان والمكان والمادة نفسها تحتاج إلى إعادة صياغة وجهة نظرنا التقليدية عن أنفسنا وعن الكون, وهذا ما يتصدى له جون بروكمان في كتابه هذا. هل أينشتين مثقف? خلال السنوات القليلة الماضية حدث تغير مهم في الحياة الثقافية على المستوى العالمي, خاصة في البلدان المتقدمة, حيث تم تهميش الثقافة التقليدية, ولم تعد المعرفة التي انتشرت في الخمسينيات بفرويد وماركس والحداثة كافية لتأهيل الإنسان المثقف في التسعينيات. وكان عام 1959 قد شهد نشر كتاب سي. بي. سنو بعنوان (ثقافتان), ملقيا الضوء على طرفين لا يلتقيان, المثقفين أدبيا والعلماء, حيث كان المثقفين أدبيا في الثلاثينيات يسمون أنفسهم (المثقفين), كما لو أنه ليس هناك مثقفون غيرهم. وهذا التعريف لا يعترف بالطبع بثقافة علماء مشهورين مثل عالم الفلك إدوين هابل وعالم الرياضيات جون فون نيومان وعلماء الفيزياء مثل ألبرت أينشتين ونيلز بور وورنر هيزنبرج. كيف استطاع المثقفون أدبيا ترويج هذا المفهوم? قد يكون من العوامل التي ساعدتهم في ذلك أن العلماء لم يكونوا يركزون بشكل خاص على النتائج التطبيقية لأعمالهم وما تحدثه من تغيير في الحياة اليومية للناس, وحتى لو صاغ العلماء أفكارهم في كتب مناسبة للجمهور العام وهو ما فعله بعضهم فإن الجرائد والمجلات لم تكن تعطي الاهتمام الواجب لترويج هذه الثقافة العلمية. في الطبعة الثانية من (ثقافتان) عام 1963 أضاف سنو مقالة جديدة بعنوان (نظرة جديدة للثقافتين) متوقعا ظهور ثقافة جديدة (ثقافة ثالثة) تملأ الثغرة بين المثقفين أدبيا والعلماء بحيث تتيح لغة مشتركة بينهم. ليست ثقافة سنو الثالثة المتوقعة هي ما يعرضه جون بروكمان في كتابه هذا, حيث لا يشغله التواصل بين المثقفين أدبيا والعلماء, بل الأهم من ذلك, في رأيه, التواصل المباشر بين العلماء والجمهور العام, خاصة والمجال أصبح مفتوحا في الوقت الراهن أمام مفكرى الثقافة الثالثة للتعبير عن أعمق أفكارهم بطريقة يمكن لجمهور القراء الذكي أن يفهمها. وما كان يطلق عليه سابقا (العلم) صار في عصرنا هذا (ثقافة عامة).ونحن أمام كتاب يستعرض أفكار علماء يشاركون في أحدث المنجزات العلمية المعاصرة في عدد من المجالات منها: البيولوجيا التطورية, الوراثة, علم الكمبيوتر, والفسيولوجيا العصبية, وعلم النفس, والفيزياء. ولقد حدث خلال السنوات الأخيرة توسع كبير في نشر الأخبار والتقارير الصحافية العلمية في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة, ولم يعد غريبا أن تقابلك أكثر الموضوعات العلمية تخصصا موجهة إلى الجمهور العادي بلغة يمكن لغير المتخصص فهمها, في كثير من المجالات مثل البيولوجيا الجزيئية, الذكاء الاصطناعي, الواقع الافتراضي, نظرية الفوضى, الشبكات العصبية, الكون المتمدد, الأوتار الفائقة, الجينوم البشري, تقنية النانو, النظم الخبيرة, والفضاء المعلوماتي. ومما يساهم بدرجة كبيرة في إتاحة الأفكار العلمية للقارئ العادي أن الثقافة العلمية يتم بثها في المواد الموجهة للجمهور في الأعمار المختلفة فيجد الأطفال ما يلبي احتياجاتهم من تبسيط للعلوم المختلفة وتتدرج معهم هذه المواد اتساعا وعمقا كلما تقدم بهم العمر, وهو ما ينقصنا بشدة في العالم العربي حيث لا يتلقى الأطفال ما يحتاجون إليه من ثقافة علمية, وتكون النتيجة أن تقديم الأعمال العلمية المترجمة إليهم في الكبر تواجهه صعوبة عدم إلمامهم بالمبادئ العلمية الأولية. وتتميز الثقافة الثالثة التي يتلمس جون بروكمان ملامحها المعاصرة, من خلال رصده لآراء عدد كبير من العلماء وكتّاب الثقافة العلمية البارزين, بأن منجزاتها ليست مجرد مناقشات خارج الاهتمام العام تخص طبقة صفوة مغرمة بنزاعات لا تنتهي, كما كان الحال دائما, لكنها منجزات تؤثر على حياة كل شخص في العالم. وليس المثقفون بالطبع هم الذين يعرفون الأحداث لكنهم هم الذين يصوغون أفكار جيلهم. وكان عالم التاريخ الثقافي روسل جاكوبي في كتابه (آخر المثقفين) عام 1987 يرثي ذهاب جيل من المفكرين ويعبر عن حزنه لحلول جيل من الأكاديميين المجردين من العاطفة محلهم. يرى بروكمان أن جاكوبي كان على صواب في رثائه هذا لكنه كان على خطأ أيضا, لأن مفكري الثقافة الثالثة هم المثقفون الجماهيريون الجدد الذين يحتلون الآن مواقع المثقفين التقليديين. ويرى بروكمان, الكاتب الأمريكي ومؤسس نادي (ريالتي) ومدير مؤسسة (إدج فاونديشن), أن أمريكا هي المزرعة الثقافية لأوربا وآسيا, وأن هذا الانتقال الثقافي بدأ بالظهور ما قبل الحرب العالمية الأخيرة بهجرة ألبرت أينشتين والعلماء الأوربيين الآخرين من أوربا إلى الولايات المتحدة. وكان ما يميز الحياة الثقافية تاريخيا - كما يوضح بروكمان - حقيقة أن عددا قليلا من الناس هو الذي ينتج الأفكار المهمة من أجل الآخرين, وما نشهده الآن هو انتقال الشعلة من مجموعة من المفكرين, وهم المثقفون التقليديون, إلى مجموعة أخرى, وهم مثقفو الثقافة الثالثة الجديدة. من هم مثقفو الثقافة الثالثة? يجيب بروكمان بأن القائمة تتضمن أشخاصا محددين يتم عرض آرائهم في كتابه هذا, الذين أعطت أعمالهم وأفكارهم معنى لهذا التعريف منهم: علماء الفيزياء بول دافيز, جي. دوين فارمر, موراي جيلمان, ألين جوث, روجر بينروز, مارتن ريس, ولي سمولين, وعلماء بيولوجيا التطور ريتشارد داوكنس, نيلز إلدريج, ستيفان جاي جولد, ستيف جونس, وجورج وليامز, والفيلسوف دانيل دينيت, وعلماء البيولوجيا بريان جودوين, ستوارت كوفمان, لين مارجوليس, وفرانسيسكو فاريلا, وعلماء الكمبيوتر دبليو دانيل هليليس وكريستوفر لانجتون ومارفين مينسكي, وعالما علم النفس نيكولاس هومفري وستيفن بينكر. وقد أجرى بروكمان حوارات مستفيضة مع هؤلاء العلماء خلال ثلاث سنوات حيث دارت الحوارات حول أعمالهم وأعمال العلماء الآخرين الذين أتى ذكرهم في نفس الكتاب, ولم تكن النتيجة مجرد مقالات متنوعة في موضوعات مختلفة وليس مجرد استعراض لآراء مختلفة للعلماء, لكن بروكمان يرى أن كتابه هذا يمثل تاريخا شفهيا لمنظومة ديناميكية ناشئة, وإعلانا عن أفكار مفكري الثقافة الثالثة الذين يصوغون أهم أسئلة زمننا وأكثرها إثارة للاهتمام, وأن هذا الكتاب يمثل تواصلا بين هؤلاء المفكرين وبعضهم البعض الآخر, وتواصلهم مع الجمهور العام, ويصفه بأنه عرض لجماعة المثقفين الجدد وهم يمارسون دورهم المتوقع منهم. وتدور المعارف المعروضة في هذا الكتاب حول كثير من القضايا المهمة المعاصرة منها أصل الكون وأصل الحياة وكيف تكوّن العقل, مما يجعل مفهوم الثقافة الثالثة يتضمن ملامح جديدة لفلسفة طبيعية تتضمن ظاهرة التعقد في الطبيعة والتطور. وتوضح هذه الفلسفة كيف أن المنظومات بالغة التعقيد, سيان كانت منظومات حية أو منظومات في المخ أو الغلاف الجوي للأرض أو حتى الكون نفسه, ليست مجرد تصميمات نهائية كانت هكذا منذ البداية حتى الآن وستظل كما هي عليه الآن لكنها نتاج عملية تطور منذ زمن سحيق. البيولوجيا رقصة حية عندما يتصدى العلماء لشرح المعاني الكامنة وراء اكتشافاتهم العلمية فإنهم لا يتخلون عن منهجهم العلمي في التفسير لصالح تبسيط العلوم, بل يضيفون إلى المادة العلمية استعارات توضيحية تعيد صياغة تصوراتنا عن أنفسنا وعن العالم حتى لو أسلمونا لبعض الحيرة أمام المادة على المستوى الذري مثلا - التي يمكن أن تكون جسيمات كما نفهم معنى الجسيمات - حتى لو كان تحديد مكانها لا يتجاوز الاحتمالات, أو موجات أو مجالات طاقة, فالتفرقة التقليدية بين المادة والطاقة أصبحت في خبر كان بعد معادلة أينشتين الشهيرة عن العلاقة بين المادة والطاقة. ويبدأ الكتاب بالتصدي للتطورات المذهلة التي شهدتها نظريات التطور وعلم الوراثة. ومن المعروف أن الوحدة الأساسية لآليات الوراثة هي الجينات, التي يصفها جورج وليامز قائلا إن الجين يعتبر حزمة من المعلومات وليس شيئا مجسما في الأبعاد الثلاثة كما هو شأن الأشياء التي تحيط بنا في حياتنا اليومية. وتتحدد طبيعة الجين بإطار الأزواج القاعدية في جزيء الدنا الذي لا يعتبر في حد ذاته الرسالة المتضمنة لنشاط الكائن الحي على مستوى الخلايا لكنه الوسط الذي يتم فيه هذا النشاط. ويرى وليامز أن هذا التمييز بين الوسط والرسالة بالغ الأهمية في توضيح أفكارنا حول التطور. ونصطدم لدى ستيفن جاي جولد بفهم جديد عن التطور الذي نظنه جميعا تقدما مع مرور الزمن, إذا كنا نفهم التقدم على أنه يتجه إلى الأعظم والأفضل والأكثر تعقيدا, حيث يرى أن التغير الحادث خلال عمليات التطور ينحو نحو تبسيط الأشكال وليس تعقيدها. ويقول رتشارد داوكنز معبرا عن النقلة النوعية التي حدثت في علم الوراثة بعد اكتشاف بنية الدنا والجينات وانتقال هذا العلم من مجرد الوصف العام الخارجي إلى التحليل على المستوى الجزيئي: (أصبح من الواضح أن أفضل الطرق لفهم التطور تصوره على المستوى الجيني, حيث تعمل الجينات لمصلحة الجسم وحيث تعتبر الأعضاء في الجسم آلات للمحافظة على نشاط الجينات. كيف يرى بريان جودوين البيولوجيا المعاصرة? إنه يراها نوعا من العلم المنضبط حول منظومات ديناميكية معقدة تتصل بنشوء الأنواع الحية, حيث كل شئ يتغير. إنه يرى التطور رقصة لا تتوقف ليس لها أهداف مسبقة, تنبض بإيقاعات التنافس والصراع والأنانية والانتقاء لبقاء الأفضل. يراه رقصة بلا غرض كامن ولا اتجاه محدد, رقصة في فضاء التشكل, فضاء تشكيل الكائنات الحية. وحول التنوع الجيني الهائل في الكائنات الحية, يقول ستيف جونيس: (حصلنا أخيرا على ما يمكن اعتباره إجابة أولية حول سبب الاختلاف الكبير بين نوعين من القواقع حتى لو كانا في نفس المنطقة, لكننا لم نحصل بعد على أية فكرة واقعية, في ما يخص أي نوع, عن عدم التطابق بين فردين من نوع واحد. وهذا سؤال أساسي في التطور, تنبع عنه كافة الأسئلة الأخرى). وأنواع الكائنات الحية لها كينوناتها الخاصة, كما يوضح نيليس إلدريدج, كينونة معلومات حقيقية يحددها الزمان والمكان. والأنواع الأخرى من الكينونات تنجز أعمالا, فالكائنات التي تسكن في البيئة مثلا لديها بيئاتها الخاصة حيث تنشط فيها, بينما الأنواع لا تنشط بهذه الطريقة, فهي لا تنجز أعمالا, إنها مستودعات معلومات. ويبدو أن إلدريج يدخل بكلماته هذه معركة تعريفات, لذلك يحاول إلقاء مزيد من الضوء على قضيته هذه قائلا إن الأنواع ليس المقصود بها الكائنات الحية نفسها لكنها نوع من الكينونة يلعب دورا مهما في عملية التطور. أفكارنا برامج كمبيوتر من المعروف, حسب رأي عالم البيولوجيا فرانسيس كريك, الذي اكتشف عام 1953 مع جيم واطسون البنية الجزيئية للدنا, وحصلا باكتشافهما هذا على جائزة نوبل, أن اللغزين الأساسيين اللذين يواجهان العلم يتمثلان في قدرته على ردم الفجوة بين التركيب المادي للذرات والجزيئات والحياة, أي كيف تدب الحياة في المادة?, والفجوة الأخرى تتمثل في النقلة النوعية بين التركيب البيولوجي للمخ والوعي العاقل, لذلك فإن التصدي لتفسير ظاهرة الوعي يعتبر من التحديات المهمة للعلم ومن الموضوعات الجذابة في الثقافة العلمية. فإذا انتقلنا من عالم البيولوجيا الجزيئية إلى عالم الفكر والوعي, فسنجد العلماء جاهزين للإدلاء بشهاداتهم حول أحد القضايا المهمة في مجال العلاقة بين تركيب المخ وما يحمله من وعي بالهوية وكافة وظائف المخ المحيرة. قد نجد بعض العلماء مازالوا يحملون بقايا التفكير الميكانيكي من ميراث نيوتن لكن الغالبية التي تمرست بالمنجزات العلمية المعاصرة ما بعد أينشتين لديها الكثير من الأفكار المبتكرة. فاستنادا إلى مفهوم الماكينات الذكية, يرى مارفين مينسكي أن المخ مجموعة ضخمة من الأدوات ذات الوظائف المتنوعة, إضافة إلى تجهيزات لتصحيح الأخطاء, ثم مزيد من الآليات للتنبيه في حالات الأعطال والتداخلات غير المطلوبة, أي باختصار يعتبر المخ شبكة من الماكينات المتجانسة لضمان أداء الوظائف المطلوبة على أفضل ما يكون. لكن روجر شانك يتوقف مندهشا أمام بحثنا عن المدهش في المعلومات, فنحن نتوقع أن العالم يعمل بطرق معينة فإذا عمل وفق تصوراتنا أصابنا الضجر وانطلقنا نحو مزيد من البحث , فالنصوص من وجهة نظره تكون ذات جاذبية في حالة فشلها في التفسير لأنها تثير التحديات. أليس هذا بحثا واضحا عن مزيد من متاعب البحث العلمي? وحيث إن اللغة تميز الكائن البشري وساهمت في صنع حضارته, وهي مجال إدراكه لنفسه والكون المحيط به, فإن لها نصيبا كبيرا في عالم الثقافة العلمية, حيث يصفها ستيفين بينكر بأنها (غريزة), وأنها باعتراف الجميع مصطلح غريب لما يطلق عليه علماء الإدراك الآخرون عضوا عقليا أو قدرة فطرية أو منظومة تعليمية. ويرى بينكر أن اللغة مهارة تخصصية معقدة تنمو لدى الطفل ذاتيا دون جهد واع ودون تعليم, تنشأ وتتطور دون وعي بمنطقها الداخلي, وتكون من الناحية الكيفية نفس الملكة لدى كل فرد على حدة, ويمكن تمييزها بسهولة عن القدرات الأكثر عمومية الخاصة بعمليات الحصول على معلومات أو اكتساب سلوكيات ذكية. وأحد جوانب التحدي في موضوع الوعي هو عدم قابليته للقياس, لذلك يبحث العلماء عن مداخل مبتكرة للتعامل معه, من ذلك ما يراه روجر بنروز حيث يقول إن رأيه استقر حاليا على أن المخ ليس بالضبط كمبيوتر يتبع النظرية الكمية, رغم أن الأنشطة الكمية مهمة في معرفة الطرق التي يعمل بها المخ, لكن هناك الكثير من الأنشطة غير القابلة للقياس الكمي تحدث على الحدود بين عالم الكم والمستوى الكلاسيكي, وأن هذه الحدود ليست في إطار فهمنا الحالي لميكانيكا الكم. أي أن بنروز, الذي يعرف بالتمايز الواضح بين العالم الذي نعيش فيه وعالم ما تحت الذرة الذي نجحت ميكانيكا الكم في تفسيره, يضع النشاط العقلي في منطقة محايدة تحتاج إلى اكتشافات جديدة, ولا بأس من اقتراح هذه التحديات حيث البحث العلمي في أزهى عصوره. ويوضح ذلك أيضا أن الثقافة العلمية تتسع لوضع الافتراضات العلمية كما تتسع لنقد جميع المنجزات العلمية, حيث واقعية العلم تعتمد على قابليته للتكذيب أي أن النظريات الجديدة تنبثق من خلال نقد القديم. من أين أتينا وإلى أين? من سمات الثقافة الثالثة تصديها للأسئلة الكبرى التي طالما شغلت الفلسفة والعقائد نفسها بها, كيف ظهر الوجود? ما أصل الكون? كيف بزغت الحياة? وكانت الاكتشافات المتتالية حول الجسيمات ما تحت الذرية وحول المكان والزمان والانفجار العظيم في بداية الكون ودور الانتقاء في تطور الكائنات الحية وراء تأسيس قواعد راسخة لظهور ما نطلق عليه الآن الثقافة الثالثة. وحول نشأة الكون, يقول مارتن ريس إن علم الكون يكتسب جاذبيته لدى الجمهور العام لأنه من المعارف الأساسية التي تمكن العلماء من الخوض فيها بجرأة بعد عدد من الاكتشافات المهمة. وأصبحت الثقافة العلمية حول نشأة الكون من الأمور الشائعة في وسائل الإعلام حاليا لأنها تستجيب لتساؤلات عن أصل الكون لدى الجمهور. وعن نموذج الكون الذي يتمدد باستمرار منذ لحظة الانفجار العظيم حتى الآن, يرى ألان جوت أن من الملامح المثيرة للدهشة في هذا النموذج أنه يتيح للكون أن يتطور من شئ بالغ الصغر بشكل لا يمكن تصوره, شيء لا يتجاوز 10 جرامات من المادة, إلى هذا الكون الشاسع الذي يظهر لنا الآن.. حتى أصبح من المغري تماما السؤال حول إمكان إنشاء كون في المختبر, أو كون في الفناء الخلفي من منزلك , عن طريق عمليات من صنع الإنسان. إنه الخيال أيضا الذي تتيحه الثقافة الثالثة, فأمام اكتشافات علمية تتجاوز أحلام كبار كتاب الخيال العلمي, مثل وجود الإلكترون في مكانين في الزمن نفسه أو إمكان نقل المادة عن بعد دون أية وسائط أو ألغاز الثقوب السوداء, يحق للعلماء أنفسهم أن يشط بهم الخيال إلى آفاق ليست بعيدة عن التحقق في النطاق الزمني القريب. ويدخل لي سمون من خلال مقالته في هذا الكتاب في قضايا أكثر عمقا حول الفضاء والزمن, موضحا أن هذه هي المشكلة الرئيسية في الجاذبية الكمية, أي تفسير الجاذبية تبعا لقوانين ميكانيكا الكم, حيث إن أينشتين في النظرية العامة للجاذبية لم يكتف بتقديم نظرية عن الجاذبية ولكن أيضا نظرية عن طبيعة المكان والزمان, نظرية أطاحت بمفاهيم نيوتن عن المكان والزمان. ومشكلة الجاذبية الكمية هي كيفية الجمع بين فهمنا للمكان والزمان الذي أتاحته لنا النظرية النسبية والنظرية الكمية التي تصف لنا الكثير من الأمور الأساسية في الطبيعة. المثقفون متهمون بالسطو بعد أن توافر لدى بعض العلماء القدرة على التواصل مع الجمهور العام شاعت بينهم الثقة في قدراتهم على صياغة سمات الثقافة الثالثة, ويصف ستيفن جاي جولد هذه الثقافة بأنها تعد بالكثير لأن لدى العلماء الكثير من الأفكار الجذابة يحتاج الناس إلى معرفتها. ويقول بيتر ميداوور العالم البريطاني الحاصل على جائزة نوبل إنه لم يكن أمرا عادلا أن يعتبر المثقفون أدبيا أن العالم الذي لا يعرف ما يكفي من المعلومات حول الفن والموسيقى غير مثقف, بينما يرى هؤلاء المثقفون أنهم ليسوا في حاجة إلى معرفة أي شئ عن العلم, وأن كل ما يحتاج إليه المرء أن يكون على معرفة بالفن والموسيقى والأدب. ويصف جولد هذا الموقف بأنه لا يعبر عن الحقيقة الواقعية ويرى أن قلة عدد قراء كتب الثقافة العلمية ليس مقياسا لمدى أهمية هذه الثقافة لدى الجمهور العام, والمقياس هو الانتشار الواسع للمهتمين بهذه الثقافة وهو أمر أصبح واضحا. وحول مدى انتشار الثقافة العلمية يوضح موران جيل مان أن العلماء تعودوا على إعداد كتبهم للجمهور المهتم الذي يتمتع بمعرفة بمبادئ العلوم, وكاد الاهتمام بالثقافة العلمية أن ينقرض لولا ما حدث أخيرا من نجاح تواصل كثير من العلماء مع الجمهور العام من خلال وسائل الإعلام المختلفة. ويأسف لوجود مهتمين بالفنون والإنسانيات وحتى بالعلوم الاجتماعية يفخرون بقلة معرفتهم بالعلوم والتقنية أو الرياضيات, بينما الظاهرة العكسية غير موجودة فقد يكون هناك من العلماء من يجهل شكسبير لكنه لن يفخر بهذا الجهل. ومع ثورة الاتصالات بدأت الثقافة العلمية تزداد انتشارا وتلقى حاليا ترحيبا من جمهور واسع متشوق لمعرفة المزيد عن نفسه وعن الكون من حوله, وقد يطول الحوار والجدل حول أهمية الثقافة العلمية في البلدان المتقدمة التي أصبحت العلوم والتقنيات في نسيج حياتها اليومية, لكن هذه الثقافة تمثل لنا نحن العرب طوق نجاة من الفقر الشديد في الأبحاث العلمية, حيث يمكن أن تكون الثقافة العلمية دافعا لأجيال عربية جديدة نحو المشاركة في صنع المستقبل, من هنا يكتسب هذا الكتاب أهمية إضافية بالنسبة لنا.
|