مساحة ود

 مساحة ود
        

أول التكوين

          المرة الأولى التي رأيت فيها ابنتي كانت مجرد نقطة دقيقة نابضة أقل حجما من علبة الثقاب. مجرد خربشة تتموج أمامي على سطح شاشة الكشف عند الطبيب.

          كانت ابنتي تنبض في وجهي من دون ملامح أو بدن, تصارع وحدها محيط الظلمة. لم يكن صوتي ليصل إليها, ولم تكن يدي لتمتد إليها وهي طي المجهول.

          قال الطبيب: أول التكوين. إنه القلب في شهره الثاني. حدجت مذهولا إلى الشاشة: كانت ابنتي تصارع الظلمة بمفردها, تلطم جدرانها بقوة, فتنحسر الظلمة, ثم تستجمع عزمها مرتدة لتطبق على النبضة حتى تكاد تغمرها, فيجدد القلب الصغير ضرباته العنيفة. تساءلت غير مصدق: أيعقل أن هذه الخربشة المرتعشة قلب إنساني? تسمرت مكاني وأنا أرى ابنتي قلبا صغيرا جدا بحجم نقطة عمياء في الكون, تخوض وحدها كفاحا ضاريا, دون أن تدرك أني أقف على مقربة منها فتستمد من محبتي قوة, أرمق تكوينها الأول, وأحن إشفاقا على حياتها القادمة القصيرة, الصغيرة, المجهولة المصير, في الدوران الأبدي بين نصف تريليون كوكب مجموعة شمسية. وأدهشني مرة وإلى الأبد أن القلب أول التكوين. قال الطبيب: إنه كيس القلب يضخ الدم فيتفرع القلب بداخله تدريجيا.

          سنة بعد أخرى تفرع ذلك القلب, ونما, وتفتح مثل زهرة, وأخذت النقطة الصغيرة تمشي على قدمين صغيرتين, وتقبض بيدها على اللعب, وتهز رأسها يمينا ويسارا عنادا, وتجري مني في أنحاء المنزل ضاحكة كأرنب آمن على حياته. وعندما أتمت الخامسة من عمرها, اقتربت مني ذات يوم وأنا جالس على حافة أريكة, كانت بعينيها حيرة عميقة وهي تسألني بتلعثم كأنها غارقة في الذنب: بابا من أنا? لم أفهم ما تقصده, فأعدت عليها اسمها: هانيا. هزت رأسها بنفي قائلة: اسمي هانيا.. لكن من أنا?

          دهمتني المفاجأة. كانت تستفسر عن أمر آخر تماما. فقد كنا أنا وأمها - وهي أجنبية - نتحدث في البيت لغتين مختلفتين, واحدة من الشمال والأخرى من الجنوب. كانت تسألني عن هويتها. ضممتها إلى صدري, ولم تكن محبتي الغامرة سوى نصف إجابة, لكني كنت موقنا أن القلب الذي صارع الظلمة بمفرده من أجل البقاء سيجد طريقه إلى هويته وأهله.

          عندما أصبحت هانيا في السابعة عشرة, جاءني صوتها من غربة البعيد, تكافح من جديد, وقلبها يجدد إلى الظلمة ضرباته العنيفة الأولى: بابا.. أنا قادمة إليك.

          هأنذا أذرع أرض المطار مرتبكا, أتوقف, أعتصر يدي, أتحرك, وأطالع السماء, ويشملني ظل قلبها وهو يمتد مقتربا من الأرض. هذه مشيئة السماء: أن نكون معا في الدوران الأبدي بين الكواكب.

 

أحمد الخميسي