شعاع من التاريخ

 شعاع من التاريخ
        

كاليجولا... نهاية طاغية...!

          كان يحب نفسه ويعشقها, ويرى أنه أجدر الناس بالحياة على الأرض, وكان يقول لصاحبته: (إنني أحيا.. إنني أقتل... إنني أمارس قدرة المدمر, قدرة محمومة تبدو مقدرة الخالق إزاءها تقليدا مضحكا, وهكذا يكون المرء سعيدا! قد يقال إنني مذنب وسفاح, ولكن مَن ذا الذي يجرؤ على إدانتي في هذا العالم الذي لا قاضي فيه سواي?!...

          يالقسوة أن يكون للمرء حوافز تلزمه بأن يصنع كل ما يريد, وأن يمضي حتى النهاية, ولكم أخشى هذه النهاية! إنهم يقولون إنني مصاب بجنون العظمة, ولكن ألست عظيما بالفعل? ألا أستطيع أن أفعل ما أريد, وأتخلص من كل من لا يعجبني, أليس هذا هو قدر الآلهة? أنا إذن إله. وعلى كل أهل روما أن يعبدوني وأن يقيموا لي التماثيل في كل ميدان, فأنا أفعل من أجلهم كل ما أستطيع وأقدر على ما لا يقدرون كلهم عليه لأنني أنا وحدي أحقق لهم المستحيل....!).

          والحق أن تلك اللوثة التي أصابت عقل (جايوس كاليجولا) إمبراطور روما الشاب لم تكن جديدة عليه. فقد سبقه إليها الإمبراطور تيبريوس زوج أمه أجربينا التي استطاعت إقناع زوجها - بعد أن أصيب بخبال في عقله - بأن يولي عهده لولدها الذي لم يكن من صلبه. وبعد أن أقرّ مجلس الشيوخ تنصيب ربيب الإمبراطور خلفا له انتابته نوبة صرع وإغماء لم يُعرف سببها, حتى خيّل إلى بطانته أنه قضى نحبه, فالتفّوا حول كاليجولا الذي كانت أمه قد أوعزت إلى أحد رجالها بأن يكتم أنفاس زوجها بوسادة حتى لا يفيق...!

          حين جلس كاليجولا على عرش روما أعلن - تقرّبا إلى مجلس الشيوخ - أنه سيتعاون معهم في كل الأمور, وأنه سيسير على النهج الذي كان يسير عليه الإمبراطور أغسطس في سياسته. ووعد بتخفيض الضرائب وإقامة الألعاب الكبرى وإعادة ضحايا سلفه المنفيين, ولاح أنه سيكون على النقيض منه في كل شيء, ولم يمض على اعتلائه العرش ثلاثة أشهر حتى كان قد اكتسب حب الشعب فقرّبوا للآلهة مائة وستين ألفا من الأضحيات شكرا لها على أن وهبتهم زعيما رحيما محسنا...!

الطريق إلى الجنون

          يحكي التاريخ - كما يقول ول ديورانت في قصة الحضارة - إن الشعب الروماني (كان قد نسي حسبه ونسبه, إذ كانت جدته لأبيه ابنة أنطونيوس وكانت جدته لأمه ابنة أغسطس, وهما القائدان اللذان تنافسا بعد مقتل قيصر, وقد تجددت في دم كاليجولا تلك الحرب التي ثار عجاجها بين القائدين. وبرغم أن الإمبراطور الشاب كان يفخر بمهارته في المبارزة والمجالدة وركوب العربات الحربية, فإنه كانت تنتابه نوبات الصرع, ويكاد في بعض الأحيان يعجز عن المشي أو التفكير, وكان يختفي أسفل سريره إذا سمع هزيم الرعد ويفر مذعورا إذا شاهد اللهب فوق بركان أتنا. وكان مصابا بالأرق يطوف به ليلا في جنبات قصره الواسع يصيح طالبا طلوع الفجر...! وكان طويل القامة, ضخم الجسم, كثيف الشعر, إذا استثنينا رأسه الأصلع. وكان له صدغان منخفضان وعينان غائرتان تنفّران الناس منه, وكان يمثل بوجهه أمام المرآة كل المناظر المخيفة, كما كان حاد الذكاء, فكها لا يراعي في فكاهته احتشاما ولا قانونا. ولافتتانه بحب التمثيل كان يمثل ويرقص سرّا. وكان إذا رغب أن يشهده النظارة دعا زعماء مجلس الشيوخ متظاهرا بأنه يدعوهم إلى اجتماع خطير, ثم يعرض أمامهم رقصه...! ثم يخرج لهم من وراء الستار في زي فينوس وقد وقف على قاعدة تمثال...!

          والحقيقة أن كاليجولا قد يكون معذورا في اتجاهه إلى جنون العظمة, فلو أنه أتيحت له حياة هادئة يعمل فيها عملا يتحمل تبعته لجاز أن يهدئ ذلك من أعصابه. ولكن سم السلطة ذهب بعقله, إذ إن صحة العقل تحتاج إلى ضوابط وموازين. وما من أحد يستطيع أن يكون قادرا على كل شيء وأن يكون في الوقت نفسه سليم العقل, ولم يكن غريبا أن يقول لجدته أنطونيا حين أرادت أن تسدي إليه بعض النصح: (اذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي إنسان, حتى أنت)!, وفي إحدى الولائم, ذكر لضيوفه أن في وسعه أن يقتلهم جميعا وهم متكئون في مقاعدهم! وحتى صاحبته التي عشقها كان يقول لها متضاحكا: (إن رأسك هذا الجميل يمكن أن أطيح به بكلمة تخرج من فمي...)!

          وقد ازداد جنون العظمة بكاليجولا حتى أنه كان يصدر الأوامر إلى مجلس الشيوخ طالبا الخضوع لأوامره, وكان يسمح للشيوخ أن يقبّلوا قدميه تعظيما له وتبجيلا, ثم يتقبّل الشكر منهم على تشريفه إياهم بهذا التقبيل...!

          ولم يكن هناك ما يمنعه من أن يأمر بإعدام من لا يعجبه أو يعترض عليه حتى في مجالس الحكم, بل ويقوم بنفسه بتنفيذ هذا الحكم في مجلسه...! وكانت شئون الحكم وسط هذا العبث الإمبراطوري من الأمور التي لا يعبأ بها, وفي وسعه عندما يضيق بها أن يتركها لغيره من أصحاب العقول الصغيرة...!

المال من أيّ طريق

          أصحاب العقول الصغيرة هؤلاء هم الذين أدخلوا في روعه أنه بقدرته أن يجمع المال اللازم لعبثه وشهواته التي لم تنقطع طوال حياته, وأنه يستطيع أن يرجع العادة القديمة في روما بتقديم الهدايا إلى الإمبراطور, فكان يتسلم هذه الهدايا بيده وهو جالس في شرفة قصره من كل مَن يقدمها إليه. وشجعه ذلك على أن يقنع المواطنين بأن يذكروه في وصاياهم ويجعلوه وارثاً لهم, فكلما احتاج لمال لجأ إلى القضاء على مَن يملك أكثر حتى ينال الإرث بعضه أو كله, واندفع كاليجولا بعد ذلك إلى فرض الضرائب على كل شيء: على كل طعام يباع, وعلى كل الإجراءات القضائية, حتى الحمالين فرض عليهم 12% من أجورهم, والأكثر من ذلك أنه فرض ضريبة على مكاسب العاهرات تعادل مقدار ما تناله الواحدة منهن مقابل كل لقاء. وقرر القانون أن تظل من لجأت إلى التوبة خاضعة للضريبة حتى بعد الزواج, وكان الأغنياء في أيامه يُتهمون بالخيانة ويحكم عليهم بالإعدام لتصادر أموالهم لصالح الخزانة العامة, وكلما زادت أمواله زاد تبعا لذلك إسرافه حتى لم يلبث أن أفرغ خزانة الدولة فبددها تبديدا منقطع النظير. من ذلك أنه لم يكن يستحم بالماء بل بالعطور, وقد أنفق على إحدى الولائم عشرة ملايين من قطع الذهب. وأمر مهندسيه أن يقيموا على خليج (بالي) جسرا مستندا إلى عدد من القوارب بلغ من كثرته أن عجزت البلاد عن سد حاجة الناس إلى الغذاء بعد أن قل عدد القوارب التي تنقل الحبوب: وعندما تم بناء الجسر أقيم احتفال عظيم, وأضيء مكان الاستقبال بالأضواء الغامرة. وأخذ الناس يطربون ويشربون حتى انقلبت بهم القوارب وغرق منهم المئات. وكان من عادته أن ينثر من شرفة قصره النقود الذهبية والفضية على الشعب من تحته ثم يراقبهم في مرح وسرور وهم يتنازعون نزاعا قاتلا على اختطاف هذه النقود.

          كان آخر ما لجأ إليه كاليجولا من العبث وجنون العظمة أن أعلن أنه إله معبود لا يقل شأنا عن جوبيتر كبير الآلهة عند الرومان. فأمر بتحطيم رءوس التماثيل الشهيرة المقامة للأرباب لتوضع في مكانها رءوس للإمبراطور, وكان يسرّه أن يجلس في الهيكل ويتلقى عبادة الناس وما يقدمونه من قرابين, وادّعى أن آلهة القمر قد نزلت إليه وعانقته. وسأل تابعه ألم يرها بعينه, فكان جواب التابع الحكيم (كلا, إن أمثالك من الآلهة هم وحدهم الذين يرى بعضهم بعضا)!

          وأعجبت هذه الفكرة كاليجولا, فبدأ يدّعي أمام الجميع أن هناك علاقة بينه وبين فينوس إلهة القمر...! ولم يكتف بذلك بل جعل الأشراف يعبدونه على أنه الإله نفسه..!

          يرسم الكاتب الفرنسي ألبير كامي في قصته عن كاليجولا صورا من ألوان جنونه, فيقول: (منذ تلك الليلة كان كثيرا ما يشاهد في حديقة القصر في الليالي المقمرة ولا يعود إلى بعد أن يطلع الفجر, وذات ليلة تصورت زوجته سيزوينا أنه لايزال حزينا على أخته دورسيللا التي عشقها وأوصى أن تكون وريثة عرشه من بعده, وكان يعاملها كأنها زوجته الشرعية بعد أن طلقها من زوجها, وحين ماتت راح يقلب روما رأسا على عقب لأنها بعدت عنه, وإذ حاولت زوجته أن تخرجه من شروده وتسري عنه ليخفف من آثار حبه لأخته الميتة, انفجر فيها قائلا: إن الحب لا يكفيني وهذا ما شعرت به بعد موتها وما أدركه الآن وأنا أنظر إليك. إن هناك من يعتقدون أن الانسان يألم ويشقى لموت مَن يحبه, وهكذا ترين أنه لم يكن عندي مجرد طائف من حب ولا مرارة من أسى. ولكني الآن متحرر من الذكريات والأوهام, وإنني أعلم أن لا دوام لشيء, حتى أنت, لقد تتبعت مأساتي حتى فصلها الأخير, وقد حان الوقت لكي تهبط الستار بالنسبة إليك. وانقض كاليجولا على سيزوينا هائجا ثائرا وأحاط عنقها بيديه وراح ينهال عليها ضربا وركلا وهو يغمغم: أيتها الحمقاء. ألم أقل لك من قبل أن رأسك هذا الجميل يمكن أن أطيح به بكلمة تخرج من فمي...? الآن أستطيع أن أطيح به بيدي. وكأنما لمح من نظرات عينيها أنها تشك في سلامة عقله فقال صارخا: (لست مجنونا... ولكني أشعر أنني بحاجة إلى المستحيل, فأنا في حاجة إلى القمر, إلى شيء قد يكون جنونا وأنت تبعدينني عنه, الآن سآخذك معي إلى المستحيل, وهو ليس من هذا العالم في شيء, ولن أجده إلا في السماء...! ويستمر كاليجولا في الضغط على رقبة زوجته حتى تلفظ أنفاسها. وحين وجدها أصبحت جثة هامدة راح يهز جسدها وانطلق يصرخ زائغ البصر وهو يقول: لم أكن أقصد أن أقتلك, إنما أردت أن أجرّب فيك قدرتي على أن أميت, وأن أعيد الموتى إلى الحياة...!!).

          ومن الصور التي رسمها (ألبير كامي) مشهد كاليجولا حين رأى أحد الأشراف يرفع إلى فمه قنينة يشرب منها فسأله عنها فكان ردّه: إنها دواء للربو, ويصرخ فيه الإمبراطور: بل هو ترياق ضد السم. إنك تخشى أن أدس لك سما وتسيء الظن بي, وتتصور أن في نيتي تسميمك. وينفي الرجل عن نفسه هذا الاتهام قبل أن ينقض عليه كاليجولا صارخا: (إنك تتجنى على إمبراطورك) فالآن اشرب الترياق حتى النهاية: ويدفع القنينة إلى داخل فم الفتى بعد أن يطرحه على مقعد منخفض, وبعد صراع يدس الآنية بين أسنان الشريف ويهشمها بقبضته فينكسر زجاجها ويتحطم ويضطره أن يبتلع كل ما في فمه. وبعد اختلاجات يموت الفتى ووجهه ينضح ماء ودما. ويسأل كاليجولا الأشراف حوله عما كان في القنينة فيؤكدون أنه دواء للربو. فينظر إلى الجثة وهو يقول: لا بأس فالنهاية واحدة سواء تقدمت أو تأخرت قليلا...!!

نهاية طاغية مجنون

          يجتمع أشراف روما يتبادلون الشكوى فيما يتعمده الإمبراطور من تحقيرهم والتعسف في معاملتهم. ويتبادلون تذكر ما نالوه منه, فأحدهم اغتصب كاليجولا عقاره وممتلكاته, والثاني قتل أباه غدرا, والثالث سلبه امرأته, والرابع قتل ولده. وتذاكروا أن الأغنياء منهم كانوا يتهمون بالخيانة ويحكم عليهم بالإعدام لتصادر أموالهم لصالح الخزانة. وكان هو نفسه يبيع المصارعين والأرقاء بالمزاد العلني في سوق الرقيق ويرغم الأشراف على حضور المزاد والاشتراك فيه. وكان الواحد منهم إذا غفا في جلسة المزاد فسر الإمبراطور إغفاءه بأنه موافق على آخر عطاء للشراء حتى إذا استيقظ وجد نفسه قد كسب عشرة مصارعين وخسر عشرة ملايين من قطع الذهب. واشتدت حمية القوم وثورتهم بأن ينطلقوا ليقتحموا القصر ليفتكوا بالإمبراطور (النذل السفيه وأكثر الطغاة جنونا). ولكن كايوس شيريا ضابط الحرس المتآمر على مولاه - الذي طالما أهانه كاليجولا بالألفاظ البذيئة التي كان يبلغها إليه كل يوم لتكون بمنزلة سر الليل وجواز المرور - قال للمتآمرين: (بل لنترك له الحبل على الغارب ولندفعه في هذا الطريق حتى نجعل من جنونه حقيقة ملموسة. ولن يلبث أن يحين يوم يصبح فيه وحيدا تجاه دولة مليئة بالموتى وأبناء المقتولين..!

          وتمضي أيام, ثم يفاجأ كاليجولا بقعقعة سلاح خارج غرفته, ويدخل المتآمرون وينقضون عليه طعناً, بينما هو يضحك في خبل. ثم تتحول ضحكاته إلى شهقات, ويواصل الصراخ وهو يخرج الكلمات من بين شفتيه مختلطة بالغطيط: (إنني حي.. لاأزال... فالآلهة لا تموت).

          ولكن كاليجولا عرف في ذلك اليوم أنه ليس إلها قط!

 

 

سليمان مظهر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات