أرقام

أرقام
        

المرأة... والمفاوض!

          تلعب الأرقام أحيانا القول الفصل في التفاوض. ليس التفاوض في مجال الاقتصاد فقط, ولكن في مجال السياسة أيضا.

          وربما كانت هذه حال فلسطين حين ذهبت للتفاوض حول (خريطة الطريق) في منتصف عام (2003).

          وفي علم التفاوض (إن جاز التعبير) يكون النجاح رهنا بقدر من التكافؤ بين الطرفين وبما يصل بالمفاوضين إلى حل عادل ودائم, أما غياب التكافؤ فهو يؤدي إلى ما يسمونه (عقود الإذعان) والتي يفرض فيها أحد الطرفين شروطه عبرها, وتدخل التسوية إلى طريق مغلق ومصير مجهول حتى لو كانت ممهورة بكل التوقيعات اللازمة.

          وهذه هي الحال بالضبط حين بدأ الحوار حول خطة مختلف عليها حملت اسم (خريطة الطريق) ونالت بعض الموافقات الدولية والعربية كما حظيت بموافقة السلطة الفلسطينية مع تحفظات من الجانب الإسرائيلي.

          في ذلك الوقت, منتصف (2003), لم يكن الجانب الفلسطيني يملك من الأوراق غير الحق التاريخي والقانوني الذي أيدته قرارات الأمم المتحدة عند تقسيم فلسطين أو عند محاولة رد العدوان عام 1967, وتسليما بهذا الحق جاء التأييد الدولي والعربي.

          أيضا, كان في يد الجانب الفلسطيني النتائج التي أحدثتها الانتفاضة والخسائر التي تكبّدها الاقتصاد الإسرائيلي, وحال الاستقرار المفقود التي جعلت الإرهاب الإسرائيلي سياسة بلا جدوى, وبما دفع شارون للانتقال من خانة الرفض لمبدأ الدولة الفلسطينية إلى خانة الموافقة على دولة تقوم على فتات الأرض والحقوق.

          ولكن, وعند الوصول إلى هذه النقطة, نقطة التفاوض حول حل نهائي للقضية كانت قد تمت تهيئة المسرح.

          كان قد تم تصوير المقاومة الفلسطينية المشروعة على أنها إرهاب ينبغي اجتثاثه, وتم تصوير المعونات لأسر الشهداء على أنها تشجيع للإرهاب!

          وكان قد جرى استخدام آلات الحرب لترويع المدنيين وقتلهم, فلم تخرج الدبابات وطائرات الأباتشي لتواجه عدوا مسلحا, ولكن لتطارد الأطفال في الشوارع, ولتهدم البيوت, وتضرب عربات الاسعاف وقوات الشرطة الفلسطينية المنوط بها التصدي لعمليات العنف.

          نحو عامين ونصف العام من الترويع والتدمير والموت والسجن والحصار والحدود المغلقة سبقت المفاوضات وكان الهدف هو كسر الإرادة ولي العنق وفرض الإذعان.

          لكن المسرح لم يكن بحر دماء وصفقات سياسة فقط, لكنه كان أيضا: بحر أرقام تدفع كلها للركوع. 

          بعيداً عن أرقام القتلى والجرحى والمعتقلين, فهي أرقام خداعة, كانت أرقام الاقتصاد الفلسطيني تنطق بما يريده العدو.

          وطبقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد الصادر عن الجامعة والصناديق العربية (2002), فإن أداء الاقتصاد الفلسطيني وخلال خمسة عشر شهرا من الانتفاضة والمواجهة قد تدنى بنسبة (55) بالمائة قياسا على الأعوام السابقة, والبطالة (ديسمبر 2001) وصلت إلى حوالي ثمانية بالمائة, والبنية الأساسية التي تم بناؤها خلال الفترة الانتقالية التي تلت (أوسلو) والممتدة بين عامي (94-2000) تم تدمير معظمها.

          و... إضافة للتدمير والحصار حول الضفة وغزة ومنع الفلسطينيين من العمل وإعلان فلسطين منطقة معزولة عن العالم, إضافة لذلك - وطبقا للتقرير - فقد تم تقسيم الأرض الفلسطينية إلى (115) جزءا والانتقال بينها ممنوع فالحواجز المسلحة وحفر الطرق الرئيسية (بعرض وعمق خمسة أمتار) يمنع الحركة والتنقل! أما المصانع والورش - وحتى بداية 2002 فقط - فقد تم تدمير (75) في المائة منها كما تم تجريف (220) ألف دونم من الأرض الزراعية وجرى اقتلاع نصف مليون شجرة مثمرة, كما تم تدمير آبار المياه أو سحبها للمستوطنات الإسرائيلية. أيضا فقد جرى إغلاق أكثر من (90) في المائة من المطاعم والفنادق والمنشآت السياحية, كما جرى تدمير الثروة الحيوانية, ومنع الصيادون من العمل في البحر, في معظم الأحيان. إنه الخراب طريق للتفاوض والإذعان.

          أما التفاصيل, ونتائج (القتل على الهوية) والهدم وفق برامج منتظمة, فتقدمه أرقام كثيرة وموحية. 

          ثلاثة مؤشرات كان يمكن الوقوف أمامها للتعرف على حال المفاوض الفلسطيني وهو يعلن موافقته على خريطة الطريق, ويطلب الالتزام بها.

          المؤشر الأول, سوق العمل الذي يلخص بشكل ما حال الاقتصاد والقدرة على الكسب واستمرار العيش.

          وبصرف النظر عن انقسام سوق العمل بين عاملين في الاقتصاد الفلسطيني (وهم الأغلبية) وعاملين في الاقتصاد الإسرائيلي (وهم الأقلية) فإن قوة العمل التي زادت بنسبة خمسين بالمائة تقريبا خلال السنوات الخمس الممتدة بين عامي (96-2001) شهدت بطالة زادت من (24) في المائة من هذه القوة عام (96) إلى (77) في المائة عام (2001), ومن المرجح أن تكون النسبة قد زادت في العام التالي وحتى موعد التفاوض.

          دمر الإسرائيليون المنشآت والمزارع الفلسطينية ومنعوا العمل داخل أرض (48) أيضا حتى انكمش عدد من يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي من (65) ألف مشتغل فلسطيني عام (96) الى سبعة آلاف عام (2001), وأقل من ذلك عام (2002).

          ونظرة للقطاعات الاقتصادية الفلسطينية التي طالما جرى الاعتماد عليها لتدر سلعا وخدمات ودخلا نقديا. و... هذه النظرة تمكننا من إدراك ما جرى بينما ظلت نسبة العاملين في الزراعة شبه ثابتة في سنوات المقارنة الخمس المشار إليها سابقا, فقد انخفض عدد العاملين في الصناعة إلى الثلث وفي التشييد إلى السدس وفي الخدمات إلى الربع.

          نتيجة لذلك, وكمؤشر ثان على الأزمة, جاءت أرقام الناتج المحلي الإجمالي الذي تراجع خلال تلك الفترة من (4,6) مليار دولار إلى (1,4) مليار دولار ومن ثم فقد هبط نصيب الفرد من الناتج إلى ربع ما كان عليه عام (96) وليصل إلى (422) دولارا في العام, أي أقل من دولار ونصف الدولار كل يوم, فأي معيشة يوفر?

          أما المؤشر الثالث على (حرب التجويع) فهي موازنة السلطة الفلسطينية والتي كانت في وقت سابق قادرة على تسيير الحياة اليومية وتوفير بعض الاستثمارات, وإذا كان من الطبيعي أن يزداد عجز الموازنة ويزيد الاقتراض, فإنه من غير الطبيعي أن يقتصر الانفاق في عام (2001) على دفع رواتب الموظفين وبنسبة تصل إلى (90) بالمائة من الموازنة في مقابل (43) في المائة عام (96).

          واللافت للنظر أن السلطة الوطنية - مع انكماش الاقتصاد وتوقف النشاط - باتت هي جهة التشغيل الرئيسية حتى أنها ضمت وحدها حوالي ستين في المائة من جملة المشتغلين في الضفة والقطاع.

          إنه اقتصاد الأزمة, فهل لعبت المعونات والتدفقات الخارجية دورا في انتشاله, وبما يساعد على صمود الشعب الفلسطيني أو صمود المفاوض?

          في عام (2001) - وهي المحطة التي توقف عندها تقرير الجامعة العربية - كانت موازنة السلطة الفلسطينية حوالي مليار دولار بينها (720) مليونا معونات عربية وأجنبية, والأخيرة تفوق الأولى قليلا, ومن ثم فقد تآكلت الأصول الأجنبية التي كانت تملكها السلطة, وزاد الاقتراض, وعجزت المصارف الفلسطينية الخمسة عشر عن أن تقدم ما يدفع النشاط أو يساند الموازنة الحكومية والتي باتت أداة التشغيل الرئيسية! 

          هكذا جرت حرب التجويع والترويع قبل الوصول إلى نقطة التفاوض, وهي حرب بدأت مع زيارة شارون للمجسد الأقصى ثم مع توليه الحكومة مرتين بعد ذلك.

          لقد كان كل شيء على الأرض الفلسطينية يتراجع ليتسنى الركوع في الوقت المناسب.

          شيء واحد لم يتراجع هو الاصرار على الحياة, فقد كان أحد أهداف السياسة الإسرائيلية دفع الفلسطينيين للهجرة وإعلان بلادهم (مناطق شاغرة) ولكن وبينما حدثت الهجرة المعاكسة على الجانب الإسرائيلي, فإن شيئا من ذلك لم يحدث على الجانب الفلسطيني.

          و... على العكس من ذلك كانت المفاجأة نموا سكانيا بمقدار مليون مواطن جديد بين عامي (96) و(2001).

          كان عدد السكان (2,5) مليون فأصبح (3,5)  مليون, ستون في المائة منهم في الضفة الغربية وأربعون في المائة في غزة.

          إنه الإصرار على الحياة, وهي القنبلة السكانية التي يخشاها الإسرائيليون وهم يلهثون لجلب يهود جدد فيفاجأون بعودة المهاجرين القدامى إلى بلادهم الأصلية الأكثر أمنا واستقرارا.

          السؤال: أي العنصرين يحكم التسوية أو الصورة النهائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين? هل هي حرب الفزع والجوع التي خاضتها تل أبيب قبل التفاوض أم هي القنبلة السكانية التي تجعل الفلسطينيين أغلبية على أرضهم في وقت قريب?

          الأرقام تحكمنا مرة أخرى والحرب الإسرائيلية المستمرة هي حرب من أجل المستقبل ووفقا لتوقعات المراكز الإحصائية, فإنه - وبحلول عام 2050 - ودون عودة اللاجئين الفلسطينيين - سوف يكون عدد الفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس الشرقية أكبر من عدد الإسرائيليين, و(خريطة الطريق) إلى ذلك يحسمها رقم يقول إن معدل خصوبة المرأة الفلسطينية (6,1) طفل لكل امرأة, أما خصوبة المرأة الإسرائيلية فهو (2,6) طفل فقط لكل سيدة.

          المرأة الفلسطينية إذن تحسم الموقف وربما كانت سند المفاوض الفلسطيني في تاريخ لاحق.

... ورقم
.... لكنهم يعيشون أكثر!

          لم تكن حياة العرب وهم يدخلون القرن الجديد هوانا كاملا أو سوادا خالصا. كانت هناك بعض أوجه التقدم.

          نعم, كان الاقتصاد العربي مضطربا ومتذبذبا, وكانت التبعية للخارج تتزايد في السياسة والاقتصاد معا, وكان الأمن القومي يزداد هشاشة, وكان اللحم العربي المستباح في فلسطين وحال اللادولة في الصومال وجنوب السودان والقتل بلا سبب معلوم في الجزائر, وغياب الديمقراطية في كثير من الأقطار, كان كل ذلك نذير شؤم عند الكثيرين, ولكن - وعلى الجانب الآخر - كانت العودة تضم ملامح أخرى.

          وفقا للتقرير الاقتصادي للجامعة العربية (2002) فقد زادت نسبة سكان الحضر إلى إجمالي السكان في العقدين الأخيرين من القرن العشرين, ولأن انخفاضا قد حدث في معدل الخصوبة ومعدل الوفاة فقد زادت الفئة الفتية من العمر, وأصبحت نسبة الشباب غالبة.

          في الوقت نفسه, فقد استمرت الدول العربية في تخصيص نسبة عالية من ناتجها القومي على التعليم حتى بلغت هذه النسبة حوالي (5) في المائة من الناتج, وبما يعادل معدل الدول المتقدمة ويتجاوز معدل الدول النامية الذي سجل (3,6) في المائة بين عامي (93-1996), وقد بلغ الاهتمام في بعض الدول أن احتل التعليم نحو خُمس إجمالي الإنفاق العام (حال السعودية والمغرب وتونس وموريتانيا), ومن ثم فقد ارتفع معدل القيد في كل مراحل التعليم: الابتدائية والثانوية والتعليم العالي, وبينما لعب القطاع العام الدور الأساسي في دول الخليج والجزائر ومصر, اعتمد لبنان - على سبيل المثال - على القطاع الخاص بنسبة (71) في المائة.

          أيضا, فقد انخفضت معدلات الأمية بين البالغين في جميع الدول العربية, وبلغت (39)في المائة فقط عام (2000), واختفت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة تشغيل الأطفال دون خمسة عشر عاما في تسع دول عربية.

          أما التطور الأهم فهو في قطاع الصحة والعمر المتوقع عند الولادة, وقد ارتفع متوسط العمر المتوقع للإنسان العربي من (45) سنة عام (1960) إلى (66,4) سنة في نهاية القرن, وإن كان التفاوت واضحا بين معدل يبلغ (47) سنة في جيبوتي و(77) سنة في الكويت والسبب: تحسن الظروف الصحية وتوافر مياه الشرب والصرف الصحي بدرجة أكبر, مما قلل وفيات الأطفال الرضع وساعد على زيادة العمر المتوقع.

          العرب يعانون كثيرا, لكنهم يعيشون أكثر, وفرق بين التطور الطبيعي والتقدم الإرادي.

          إننا نملك فرصة أكبر في التطور, وفرصة أقل في التقدم.

 

 

محمود المراغي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات