جمال العربية

جمال العربية
        

أحمد بخيت.. بزوغ ساطع لشاعرية شابة

          بعيدا عن الرهان الذي يلذّ لبعض نقادنا إطلاقه على بعض شعرائنا الشباب, حين تفجؤهم موهبة شعرية غير عادية, فيسارعون إلى المغامرة بالحكم, والمصادرة على المستقبل.

          وبعيدا عما يملأ الساحة الشعرية العربية الآن, من تناحر وفوضى, وإنكار متبادل, ومن نفي جيل لجيل أو أجيال, وكأن الأمر حكْر على طريقة في الكتابة الشعرية, وأسلوب في الإبداع الشعري, يراد له أن يسود ويتحكم في مسيرة غيره أيضا.

          بعيدا عن هذا كله, يتابع الشاعر أحمد بخيت مشروعه الشعري في هدوء وروية, دون تقحم أو عجلة, أو محاولة لفرض الذات. المناسبات الشعرية - المقامة هنا وهناك - هي التي تبحث عنه وتسْتدعيه, وجمهوره - من الشباب وغير الشباب - يتجاوب مع صدقه الإبداعي بصدق مماثل, يصدّقه ويرى فيه مذاقا جديدا لم تعد تصادفه الأذن المتلقية والمستقبلة, واكتمالا شعريا يختلف بشكل لافت عن هشاشة ما تزدحم به الساحة من كلام أعرج مبتور, لا يستطيع الوقوف - بلْه الرقص - على قدمين, وليس هناك ما يؤازره ويعطيه شرعية وجوده الإبداعي: لغةً وموسيقى وجيشانا شعريا حقيقيا.

          في دواوين أحمد بخيت - المولود عام 1966 بمدينة أسيوط في صعيد مصر -: وداعا أيتها الصحراء, ليلى شهد العزلة, صمت الكليم, جزيرة مسك, الأخير أولا, وطن بحجم عيوننا. في كل هذه الدواوين نسيج شعري ممتد, يكشف عن التكوين التراثي الراسخ لهذا الشاعر, وعن قدرة فذة لديه تجعله يفلت من أسْر كلاسيكيته, مُطلقا روحه الشعرية العارمة, لصنع قصيدة جديدة, نابضة بوعي العصر ووعي الشعر معا.

          تخرج أحمد بخيت في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة وعمل معيداً بقسم النقد والبلاغة والأدب المقارن بكلية دار العلوم فرع الفيوم, وسرعان ما ترك العمل الأكاديميّ ليتفرّغ للكتابة, وليواجه في العراء والعزلة معركته مع الشعر, من أجل أن يبدع قصيدته هو, ويؤكد سمْته الخاص, ولغته التي ينحني عليها كما ينحني المثال على تمثاله, يُحكم صياغته ويعيد تهذيبه وتشذيبه, ويطلق فيه من روحه ما يدلّ عليه ويشير إليه. هكذا يفعل أحمد بخيت في فضائه الشعري وهو يصطاد مفرداته وتراكيبه, ويبني صوره وأخيلته, ويحرص على انسيابية متدفقة, وسلاسة لا تخطئها الأذن, وإيقاع قوي يرد القارئ والمتلقي إلى كلمات البداية, ليعيد تأملها, وتأمل فعْلها الشعري, قبل الوصول إلى خواتيم الأبيات والمقاطع.

          في قصيدته (شهرزاد) إحدى قصائد ديوانه (وطن بحجم عيوننا) يقول أحمد بخيت:

الديك صاحَ, على الصباحِ,
فنامي
كي تستريح سياطُهم, وحُطامي
من أين يأتي الشوق, يا محبوبتي
هل تمطرُ الدنيا بغير غمام?
هذي البلادُ - على اتساع قبورها -
لم تتسع يوماً لعشِّ غرامِ!
إنْ لم نجدْ وطناً يليق بحبّنا
فغرامُنا ضربٌ من الأوهام!
مدن الحكايا
لم تكن ليلاتُها
شعراً وجازيةً, وكأْسَ مُدامِ
كانت - كما شاء الطغاة - مُضاءةً
بالصبر والأحزانِ والآلامِ
مدن الحكايا الألْفِ كانت دائماً
نارَ الشعوبِ وجنة الحكامِ
ما مرّ طاغية أمام حديقةٍ
إلا ومات الوردُ في الأكمامِ
لم يبتسم يوماً أمام كلابِه
إلا وسالت دمعةُ الأيتامِ
لم ينكفئ يوماً على محْظيّةٍ
إلا ودبّ العُقْمُ في الأرحامِ
مأساتُنا عشْقُ الطغاةِ,
كأننا
لم ننْس - بعدُ - عبادةَ الأصنامِ
يا شهرزادَ الألفِ ليلةِ
ليلُنا
من رَهْبَةٍ ومظالمٍ وظلامِ
حرسُ الخليفةَ يخفرون منامنا
ويفتشون حقائبَ الأحلامِ
متْنا سكوتاً,
فالكلامُ مشانقٌ,
والسمُّ في الأوراقِ والأقلامِ
إني رأيتُ....
رأيتُ رملاً زاحفاً
من طنجةٍ حتى حدود الشامِ
ورأيتُ - ثَمَّ رأيتُ -
سرْبَ أيائلٍ
مبتورة الكفّيْن والأقدامِ
إني رأيتُ, ولا أُفسّرَ ما أرى,
يأتي غدًا
من يفهمون كلامي!
شكرا لمن وجدوا الحياة بخيلةً
فتكرّموا بالحقد غيْرَ كرامِ
شكرا لمن حمل الحقيبةَ
قائلا:
وطني: أنا
وعشيقتي وطعامي
شكرا لمن أكلت بعوْرةِ بِنْتها
وتقاسمت تفاحة الآثامِ
شكراً لأندلسيْنِ,
لم أفتحهما
وخسرتُ حربي فيهما وسلامي
شكرا لصوْم الروحِ:
عيدِ عذابِها
شكرا لأيامي تسيرُ أمامي
شكراً لسيدتي - الحياةِ -
لقاتلي...
شكرا لمقبرةٍ تجيرُ عظامي!

          شهرزاد ولياليها وحكاياها تصبح في وعي الشاعر الشاب وسدى نسيجه الشعري ولُحمته حالا تستحضر الوجود العربي الراهن والموقف الوجودي الروحي, يمتلئ به وجدان الشاعر ويفيض عنه, ويمتلِئ النص الشعري ويتوهج بالدلالة التي تنبض بفكرة الحرية وفي مقابلها زناد القهر والتسلط, والمأساة المتجسّدة في عشق الطغاة, امتداداً لعبادة الأصنام. ما يحدث في سياق الواقع من قتل للأحلام ومن رهبة ومظالم, أفظع بكثير من حكايا شهرزاد وقصصها الممتلئة بالرعب والفزع, وهذه الرؤية أو الرؤيا التي تتوقف أمام الرمل الزاحف - رمز الخراب وانتهاء الحياة والعمران - من طنجة حتى حدود الشام, هي العصب الرئيسي الذي تنشعب منه شعيرات الذاكرة القاسية, والموروث الباعث على الألم, بدءا من تفاحة الآثام - رمز الخطيئة البشرية - مرورا بأندلسيْن لم يُفتحا, وصولا إلى مقبرة تجير العظام وتؤوي مَن لا قبور لهم حتى لا يلتهمهم العراء!

          ترى, ما الذي كانت تحكيه (شهرزاد) لو أتيح لها أن تشهد هذا الزمان الذي يكتب عنه الشاعر بدم قلبه, وذوْب حسّه الوطني الجارف?

          ينصهر موروث الشاعر الديني والتاريخي معانقا وعيه الواخز وكلماته المدبّبة, في مقاطع من قصيدته الطويلة (وطن بحجم عيوننا) التي حمل اسمها الديوان, يقول في مستهلها:

عيناكِ آخرُ معجزاتِ الحبّ
في زمن الرصاص
نهران من غضبٍ,
وقد نصبا موازين القصاص
للرافعين منارة الدمِ
دون منٍّ وانتقاص
عيناكِ شعبٌ ثائرٌ
يترقب الغدَ والخلاص
في (بيْعة الرضوانِ)
يا قرآن عينيّ المُبينْ
تحت السماوات التي
ليست تخصّ اليائسين
بايعْتُ (جُلْجلة) الترابِ
و(كربلاَء) الواقفين
أقسمتُ إما أن أكون
هنا,
وإمّا أن أكون!
جئنا لينتصر الجمالُ
أمامَ آلاف الخطوبْ
والحبُّ رايةُ روحنا
ضدّ المذابح والحروب
ونضوجُ عاطفة المحبةِ
بدءُ تحرير الشعوب
وتساقطُ الطغيانِ
مرهونٌ بتحرير القلوبْ!
الفجرُ يغسلُ بالندى
جدران شارعنا الفقير
وأنا أفكّرُ
كيف يجمع حُبّنا عُشٌّ صغير
والطيبون, القابضون الجمْرَ
في كلّ العصور
يتقاسمون القهْرَ
تحت سماء عالمنا المرير
الليلُ بستانُ الرؤى
والحبُّ فاكهةُ الشتاء
وأنا المهاجرُ
خفقةٌ في الأرض من قلب السماء
لم أختصر إلا المسافَة
بين جفْنكِ والبكاءْ
لم أُعْطَ من شرفِ النبّوةِ
غيْرَ حزنِ الأنبياء!
يا عذبة العينيْن,
يا أحلى اكتشافاتِ العُمُرْ
يا نهْرَ أيامي
ويا شوقَ الترابِ إلى النّهْر
غنّيْتُ باسْمِكِ
أينعتْ رُوحي, وبلّلني المطرْ
فبأيّ آلاء المحبةِ
لا يُبايعكِ الوترْ?!
وصولا إلى قوله:
لي بيت شعرٍ
سوف يقرؤه الصباحُ إذا تنفّس
ويحلُّ شفْرتهُ النهارُ
إذا ظلامُ الوهم عسْعس
لا ريب فيه,
فلم يمرّ عليه شيطانٌ ووسوسْ
هي أمةٌ للخوْفِ
في ألفية القطبِ المُقدّس!
لا تقتلونا بالمراثي
لا تُحبّونا خُطبْ
لا تُفصحوا بلسان (حمْزة)
عن ضمير (أبي لهبْ)
لا تزرعوا في خضرة الزيتونِ
ذاكرة الحطبْ
لا يرْدعُ الحطّابَ إلا
ما تيسّر من غضبْ!
لما تألّق وجهُكِ الدّريُّ
في ليل القصيدة
أَصْفى مياه الروح فاضتْ
من منابعها البعيدة

* * * 

          لقد أتيح لشاعرية أحمد بخيت الشابة عدد موفور من الجوائز, من بينها الجوائز الأولى في الشعر للمجلس الأعلى للثقافة على مدار سنوات عدة, وجائزة أمير الشعراء أحمد شوقي, وجائزة (المبدعون) من الإمارات مرتين, وجائزة المنتدى العربي الإفريقي في (أصيلة) بالمغرب, وجائزة الدولة التشجيعية في مصر, وجائزة البابطين للإبداع الشعري في الكويت, لكن جائزته الكبرى, والحقيقية, أنه استطاع أن يشق طريقه - في دأبٍ وثقة - غير ملتفت إلى ما تموج به الساحة الشعرية من فوضى واضطراب وتناحر, وأن يؤصّل لنفسه نموذجه الشعري الرصين, وأن يضيئه بأقباس كاشفة من روحه, ووعيه بحقيقة دوره الشعري, وحجم انتمائه لوطنه وإنسانيته, ولموروثه الشعري - الذي لم يفقد انتسابه إليه - وإن صنَع - على عينيه - لغته الجديدة والمغايرة في الغناء!

 

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات