واحة العربي

 واحة العربي
        

السَّلْق والسَّلِيقة

          سوف أحتمي بسليقتي حتى لا تحاصرني بعلمك, دعني أعترف أنني - في حالات عدة - أظل منطلقاً في سعادة قصوى هاجراً كل أنواع الإدراك العلمي الضاغط في آفاق أزيز الطائرات وضجيج التسجيلات وتصريحات ذوي الشأن, وتراقص مشاهد أجساد المغنيات - أو الغانيات, وألوان مانشيتات الصحف والمجلات, وتحذيرات الأطباء وخبراء الضرائب وضباط الشرطة ورعاة التربية والثقافة والتعليم والأزياء - مع إضافة النشرات الجوية الحارّة الممطرة, ثم البئر المضيئة بظلام تحليلات الحوادث وسلوك الأحداث, وموعظة المقدمات التي تؤدي إلى الأفعال الشارخة للمشاعر, حيث لا يبقى سوى سلوان مضطرب يؤدي بي إلى نوم يبدو هادئا, لأتسلّق على فراشي قلق الهمّ والوجع, وربما - لهذا السبب وكما جاء في المعجم: السِّلق هو الذئب, ثم إن السَّلق نوع من النبات (عرفته جيداً في الأحقاب الأولى من عمري القروي), إنه بقلة - من البقول - لها ورق طويل غضُّ طري يؤكل مطبوخاً, وكلنا نعرفه دون أن يحظى بموقع مناسب في ذاكرتنا العصرية, تلك التي جاءت في جهازنا العصبي إثر تفاعل مزمن مع تيارات الكهرباء ودوراتها المغناطيسية في الأجهزة ومجالات الرؤية وشرائح المأكولات والعواطف والنسيج الصناعي الجميل الملامس للأجساد والمثير للرغبات والأمنيات.

          والسليقة هي الفطرة, أو الطبيعة التي تختزن الفطرة لتظهر في تلقائيتها البسيطة دون تعقيد, يقال - كما تعرف يا صديقي - فلان يتكلم بالسليقة: أي ينطق بالكلام صحيحا من غير تعلّم, كما أن السليقة تطلق على ما ينسجه النحل في خلية العسل طولاً, ما هو? لم يذكر القاموس إفصاحاً عنه أو تعريفاً علمياً به, كما أننا ورثنا صفة السليقي تعريفاً خاصاً لمن يعيشون في البراري, والذي جاء عنه قول الشاعر عن نفسه:

ولستُ بنَحْوي يَلُوكُ لسانَه ولكن سَليقِيٌ أقول فَأُعربُ


          ولقد حاولت - مراراً - أن يكون مأكلي - في المدينة - من السليق الخالص: أي اللحم والخضر تسلق بالماء دون أن يضاف إليها أنواع من السمن أو الدهن أو الزيت أو الأفاويه (أي مكسبات الطعم والرائحة), ولقد نجحت في ذلك ثم لم ألبث أن أحسست بوحدة بالغة, فقد كانت أمي تفعل ذلك بفطرتها القروية, إلاّ أن زوجتي - والتي هي بلا فخر من المدينة - كانت تفعل ذلك لي وحدي, أرى المائدة تتألق بأنواع من المطبوخات واللحوم المحمّرة وقوارب الروائح النفّاذة المثيرة للاشتهاء خارجة تواً بأوراك وصدور الدواجن من الفرن, وعيوني - التي ليس من السهل أن أغلقها - وأنفي - الذي من المستحيل أن أحول بينه وبين شم المتعة المشتهاة, وحركة أمعائي التي تئز من الإحساس باحتمالات وصول السليق (أو الحساء أو الشوربة) إلى الفم والبلعوم دون تدشين أو اشتعال الفلفل والبصل والثوم مع الكمّون, كل ذلك يتفاعل بعيداً عن أعضائي وأجهزتي فأحسّ بوحدة تدفعني بالشجن اليتيم المعروق, فأكاد أترك المائدة - حيث لا أستطيع التراجع في الاكتفاء بطبق اللحم المسلوق المشار إليه - وأقف في الشرفة وحيداً في الدور الخامس, وحيداً عنيداً, وجائعاً أيضاَ.

          لكن هذا الأمر الذي تراجعت عنه مراراً, هو ما أدى بي إلى أفكار قادرة على تعويضي - النفسي - بعض الوقت في مسائل لا أستطيع مواراتها بصفة دائمة - حتى لو كشفت عما أملكه من جهل خاص, فبناء على فهمي أو إدراكي أو إحساسي بهذا السحر الذي تسبغه السليقة وتفرزه الفطرة في عقلي: أكتشف أن جميع أنواع المدارس والمعاهد والكليات الجامعية التي تدرس الهندسة - المدنية في هذا المثال, أقصد هندسة الإنشاءات والمباني, يخرج منها عدد مذهل من المهندسين المعماريين, يرسمون ويخططون سمك الحوائط والأسوار ومدى عمق أساساتها في الأرض, مع دراسة وبحوث في الأنواع المناسبة للمباني لأرض معينة بما فيها من تربة ورمال وطمي وحصى, وتماسك أو تفتت بالرطوبة وتسلل المياه, وعندما يبدأ البناء يقف المهندسون يراقبون تنفيذ ما خططوه ورسموه من كل أنواع الارتفاع والزوايا وتفصيلات التداخل والبروز والقدرة على تحمل السقوف, لكنهم - كل المهندسين - يراقبون ويشيرون أو يأمرون فقط, دون أن يمتلكوا تلك القدرة السليقية التي تجعل القائم بالبناء صعوداً من الأساس حتى ارتفاع الجدران, وقد جلس في همة ونشاط, وبإحدى يديه المسطرين: الأداة المعروفة يسوي بها الآجر - طوباً كان أو أحجاراً, ويضع بالمسطرين الملاط (أو المونة ذات الخليط من الاسمنت والرمل الناعم), واليد الأخرى ترتفع إلى أعلى - بالفطرة المدربة ـ لتتلقى المزيد من الآجر, وعندما تقع قطعة الآجر من يد البنّاء تثير في العمال المنتشرين في ظلال الحائط - نوعاً من السخرية المرحة, لتندفع أغنيات الصبر والقدرة على التحمل تخفيفاً من الأعباء أو احتمالات سقوط طوبة أو حجر مرة أخرى.

          وقد ترتب عن أفكاري - غير المتقنة هذه - أن ظللت أزعم أن المدينة بما فيها من كهرباء وآلات ومجالات مغناطيسية, نجحت في تدمير السليقة والفطرة, فلم تستطع أن تنجب بين جدرانها واحداً من الحواة, والحاوي - كما هو معروف - ذلك القادر على استطلاع الثعابين والعقارب في مخابئها المظلمة, ثم هو الذي يمكنه أن يظل يتمتم ويهمس ويصرخ بلغة لا ندركها ولا نفهمها حتى لو كانت ذات أوامر ونواهٍ, حتى يخرج الثعبان من الظلام ويظل يزحف في الضوء لتمتد إليه يد الحاوي فتمسك رقبته رافعة الثعبان - أو العقرب ذات الزبانى الشرسة المسمومة - لتستكين بين يديه, يقولون هذا دجل, وهذا تمويه وافتعال قدرات فائقة, لكني - وبعقل واع وبصر ثاقب - رأيت ذلك - مثلك ياصديقي - مراراً, واستطعت أن أفهم الفرق جيداً بين الصفتين, ولاسيما أن المدن - أيضا - لايمكنها أن تفرز من بين قاطنيها  من يمكنه أن يكون قصاصاً للأثر, عساساً, يسعى في الآفاق الممتدة رمالاً أو براري أو غابات, ليصل بوسائل غامضة ونفاذة إلى مكامن الهاربين والحيوانات والحشرات, إنها السليقة ذات الحساسية المرهفة, والتي لم تتساقط قطعاً تحت نظريات الطاقة والكتلة ومربع سرعة الضوء وآلات الرؤية عن بعد, والأشعة الحمراء واندفاع الصواريخ والأقمار الصناعية في تيارات العلوم والمعرفة والقنابل ذات المجالات المؤثرة, والتي تظل حائرة أمام طبق ملوخية بالأرانب المسلوقة بروائح الفطرة الجميلة, والتي يمكن لك أن تحس بها إذا ما قرأت نصا أدبيا إبداعيا كتبه أبناء البراري بعيداً عما أحدثته المدينة في هذه النصوص من تحطيم حداثي.. بالغ الروعة والرعب أيضا, وبالتالي فعليك أن تحتمي بقدرتك العلمية الفائقة.. وتتركني أمام طبق السليق الجميل.

 

 

محمد مستجاب   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات