إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي
        

القارئ وحكايته

          يعلم القارئ أن القصص النابعة من عمق التراث المحلي تحتفظ ببعض أسرارها لأبناء بيئتها, فكتّاب القصة الريفية يستقون حوادثهم من محيطهم, ويصوّرون وجوها وأماكن عرفوها, وهذه الحوادث والوجوه لا تنفصل عن زمانها ولا عن مكانها. وكثيراً ما تتسلّل إلى قصصهم ألفاظ من أفواه الناس لا يعرفها معجم العربية. وكثيرا ما تزدحم أحداث هذه القصص بالإشارات التاريخية المحلية, أو تكتسي فيها الأماكن بدلالات موحية, فيتعذّر على الجمهور إدراك أبعادها. لهذا تختلف قراءة أبناء بلداتهم لها عن قراءة سائر الناس, فقراءة الناس تتوقّف عند حدود النصّ, بينما قراءة أبناء البلدة تتغلغل في الذاكرة الفردية والجماعية فتصل إلى أبعاد بعيدة, فأولئك يقرأون بحثاً عن متعة التصوّر والتخيّل, وهؤلاء يقرأون بحثاً عن متعة التذكّر والسفر إلى مدارج الطفولة.

          وشتّان....

          ولقد كنت أغبِط أبناء هذه البلدات على ما يلتقطون من إشارات النصّ مما لا يلفت سائر القرّاء, وكنت أعتبر هذا الأمر متعةً مضافة هي هدية الكاتب إلى قومه, إلى أن قرأت مجموعة قصصية ريفية لأحد أبناء بلدتي, وتذوّقت لذّة اكتشاف خفايا النصّ, وشعرت بهذه المتعة المضافة التي تولّدها وحدة الذاكرة بين القارئ والكاتب, فأدركت أن في الانسان نوعاً من النرجسية يجعله يستمتع بحديث الناس عنه مثلما يستمتع بالحديث عن ذاته, ففي التحليل النفسي تشكّل قراءة قصص قريتنا, بما تصوّره من ملاعب طفولتنا وتستعيده من وجوه معارفنا وتنقله من حوادث حياتنا, مصدر متعة نرجسية حقيقية لنا.

          ليست القصص الريفية تاريخاً, ولكنها تجمع الأدب والتاريخ في مسارّة حميمة, فهي تستعير مادّتها من تاريخ محيطها, ولكنّها تعيد خلقها فتخرجَ آنق مظهراً من أصلها, وأبهى ألواناً, وأعمق تأثيراً, وأشدّ تآلفاً, بهذا يختلف عمل الكاتب عن عمل الواقع, وبهذا كان الأديب فناناً, ويحرص المؤلف على اختيار الشخصيات التي تثير اهتمامه واهتمامنا, وتحمل حكايتها نكهة لافتة أو عبرة إنسانية أو نكتة طريفة, وتنتمي إلى القرية بلهجتها وعيشها وهمومها وتفكيرها. ولكنه لا يقدّمها كما عرَفها الناس في زمانها بل يرسمها مع شيء من التجميل على غرار ما يفعله المصوّر المحترف من التحسين الذي يخفي العيوب والتجاعيد.

          لقد بقي التاريخ زمناً طويلاً مقصوراً على الحكام ولابد من استكماله بكتابة تاريخ المحكومين الذين طردتهم المراجع فاختبئوا في الحكايات. وتدوين القصص التي تنقل حكايات القرى والمناطق وتروي ما استقر في أذهان أهلها وكلامهم وأمثالهم, فضلاً عن أنه سبب متعة خاصة للقرّاء, ضرورة لحفظ الذاكرة الشعبية وإثراء التراث وترسيخ الهوية.

 

 

لطيف زيتوني