نحت الخيول لـ (جياكوميتي) المجهول محمد المهدي

نحت الخيول لـ (جياكوميتي) المجهول

في عام 1925 وصل الشاب (دييجو جياكوميتي) إلى باريس لأول مرة, كان في الثالثة والعشرين من عمره يبحث عن علاقة حميمة, نظر في طريق ستراسبورج الرمادي وقال في حزن: (باريس. ليس فيها ما يبشر بالخير).

ولم يدرك (دييجو) أنه سيقضي في هذه المدينة 57 عاماً كاملة حينما انتقل في اليوم التالي لوصوله إلى حي (مونبارناس), بدأت الألفة تربطه بالمدينة التي سبقه إليها أخوه المثال المعروف (البرتو جياكوميتي) الذي كان يكبر (دييجو) بعام واحد, وقد سبق أخاه إلى باريس لدراسة الفن في أكاديمية (جراند شوميير).

(البرتو) وأخوه (دييجو) ورثا الاهتمام بالفن عن والدهما الذي عرف في سويسرا (الإيطالية) كرسام ونحات. وحينما انتقل (دييجو) إلى باريس لم يعرف الاستقرار لزمن طويل, تنقل من وظيفة لأخرى, من مدينة لأخرى, من دولة لأخرى. وذهب في بعض رحلاته إلى مصر.

اقترب (دييجو) من عمل أخيه الذي مارس الفن والنحت قبله حينما ساعده في إخراج أول عمل نحتي كبير. بدأت تتكشف مواهبه, وشاءت الظروف أن يلتقيا في عام 1929 بفنان ديكور معروف آنذاك اسمه (جان ميشيل فرانك). اشتركا في تصنيع احتياجاته الفنية لديكوراته... مقابض لأبواب. الطاولات الصغيرة. أدوات الإضاءة الجانبية. انفرد (دييجو) بمزاج خاص, كان يجذبه تشكيل نماذج الحيوانات. الغزلان. الأبقار. الخيول. القطط.

كانت له حساسية ورؤية خاصة في منحوتات هذه الفترة. أثناء الحرب العالمية الثانية سافر (البرتو) لزيارة عائلته في سويسرا, ولكنه لم يستطع العودة بسبب الحرب, وهاجر (جان ميشيل فرانك) إلى أمريكا ومات هناك. بقي (دييجو) في باريس, عاصر أحداث الغزو الهتلري لفرنسا. عمل في نشاطات عديدة. وانتظم في دراسة الفن لفترة. وعندما انتهت الحرب عاد أخوه وصديقه (البرتو) إلى باريس, وبدأت بينهما مرحلة جديدة.

كانوا يقولون عن رابطة (دييجو) بالبرتو (إن ما يمتلكه البرتو يمتلكه دييجو. إنها ملكية أربع أذرع بدلاً من اثنتين).

ومع ذلك فإن ذراعي (البرتو) صنعتا شيئاً يختلف عما نحتته أصابع (دييجو). ارتبطا وانفصلا في آن ولمدة أربعين عاماً كاملة, لم يعرف تاريخ الفن هذا النوع من الرابطة: أخوه, وصداقة, ورابطة روحية قوية نبيلة.

انصرف (دييجو) في تواضع إلى صناعة أدوات الديكور, وترك لأخيه النحت الكامل, اشتهر (البرتو جياكوميتي) وكان (دييجو) يساهم في التعريف بأعماق منحوتات (البرتو) وأبعادها, لكن (دييجو) من خلال تبتله في عمله المتواضع وصل لفلسفة بسيطة وعميقة أخذ (البرتو) يتحدث عنها بإعجاب.

عشق (دييجو) للأشياء الصغيرة... المقاعد. الطاولات. المقابض. الطيور. الحيوانات, أعطاها لمحة خاصة من روحه الفنية فعرفت به, ولكنه لم يعلن عنها, ولا سعى طوال حياته لأن يعرف بها, أو أن يشتهر عن طريقها, أو عن طريق صلته بأخيه (البرتو). يرى (دييجو) أن لكل شيء شخصية خفية, وأن الكائنات الظاهرة الحياة يمكن أن تموت وهي حية, كما أن الجماد الميت في الظاهر يمكن أن تدب فيه الحياة. يمكن أن يتحدث في ود عن نفسه, يرى أن هناك كرسياً يفرض حضوره وحيويته أكثر من صاحب سلطان أو جاه.

من هذه المداخلة بين الثابت والمتحرك خرج نحت (الخيول) لـ (دييجو)... شمعدان له قاعدة, وثلاثة أفرع للشموع, الملمس غير مسطح, نتوءات تزحف من القاعدة هينة, لتتفرع مشحونة ومشغولة بكتل صغيرة ترتقيها العين. تتسلق منحدراتها فجوة بعد فجوة, مشدودة بالمرتقى العلوي, رأس الخيول.

وإذا أراد المتلقي أن يحقق طموح الصعود للذروة عليه تتبع ضوئيات من طيات الرقبة والركون عند القمة... ثم التأمل.

فجوة عين الحصان الأول كهف غائر غامض, تجد لنفسها مخرجاً تشكيلياً ومفترجاً معنوياً في أنين صهيل الشفاة المدلاة. وتتم توأمة التشكيل والتكوين مع رأس الحصان الآخر الجورنيكي (نسبة إلى حصان جدارية جورنيكا لبيكاسو) الصرخة, المكسور النظرة. خيول (دييجو) تكتمل فيها درامية نتوءات الكتلة حينما تتابع العين توزيع الفراغ المحيط... فراغ يتصاعد من الرماد ليشتعل بالحيوية عند ذروة المنتهى.

في عام 1965 ترك (البرتو) صديقه وشقيقه (دييجو) في باريس ورحل إلى سويسرا وتوفي عام 1966, بقي (دييجو) وحيداً في باريس معروفا وغير معروف لفرط تواضعه. أصر لفترة طويلة على عدم توقيع أعماله, وحينما بدأ السوق يسرقها اضطر إلى التوقيع, اكتفى لاستحيائه وحتى لا يسرق من شهرة أخيه (البرتو جياكوميتي) بالتوقيع باسم (دييجو). اراد أحد اصدقائه مداعبته فقال له (ألا تعرف أنك أشهر المجهولين في تاريخ الفن)?! وتوفي (دييجو) عام 1992

 

محمد المهدي 




دييجو جياكوميتي





نزهة الأصدقاء ـ 1981م





خيول (دييجو)





مقعد له حضور - 1985م