خصوصية التعبير التشكيلي العربي فاطمة الحاج

خصوصية التعبير التشكيلي العربي

بين سياق التعود في الفن التشكيلي ـ والتعود آفة الإبداع ـ والثورة العارمة على كل ما هو تقليدي, يتأرجح الفن المعاصر. فأين خصوصيتنا التشكيلية العربية في هذا الخضم?

فنون أسست لحضارات فجعلتها شاهدة, ناطقة, متلازمة مع خصوصيتها مميزة لعالم تلك الحضارات.

ففي الزمن الصعب حيث الإلغاء أو الصهر حاصل, كيف يمكن للفن بصفته المستهدف الأول أن يكون هو العاصي الأول?

يبقى للثقافة المتجذرة في المكان والزمان, تجذرا ممتدا مع من سبق إلى من يعاصر, يبقى لها أن تجيب. هذه الثقافة, هي صنيعة تفاعلات حضارية غنية وفاعلة في الرقي الإنساني, وعامل الخصوصية, هو الذي يعطي أملا ووعدا لخصوصية جديدة عند التخصيب.

دائما وفي كل حالات التفاعل الثقافي, عندما يدخل العنصر الجديد على ثقافة ما يبقى غريبا وملفوظا, إلا في الحالة التي يتحلل فيها ويصبح عنصرا متجانسا في نسيجها, فلا يتحلل عن جزئيات هذه الثقافة الجديدة.

الواسطي رغم تأثره بمنمنمات عصره, نلمس في أعماله ارتجال العربي (العفوية المميزة لتأليفاته), وروح الدماثة في تصوير موضوعاته, وإن كانت مرتبطة بمقامات الحريري, بعيدة في روحها عن نظامية المنمنمة الفارسية ودقتها.

والحضارة الإنسانية هي حلقات متصلة بعضها بعضا, وليست متطابقة الكم. حفاظنا عليها في حالة الرقي العميق يُعطي للخصوصية وتخصيبها أكبر الأثر. وللفن مداخل وتشعبات. والمدخل الأساسي, هو الإنسان ببعده وعمقه وليس بضيقه وانعزاله وركوده. فعندما يكتفي الشاعر بأن يقرأ فقط والموسيقيّ يسمع فقط والتشكيلي يرى فقط, ينسون أن للنهر روافد عدّة تشكل مجموعة هديره. إذ إن اختيار الإنسان لفن معين وتفوقه في قدراته التعبيرية عن ذاتيته, إنما هو الحالة النهائية الأقوى لمجمل الحالات الممتلئ بها هذا الكائن: (طرق كثيرة تؤدي إلى الله وأنا اخترت طريق الرقص والموسيقى). ذلك المتصوف الجليل (الرومي).

علاقة أم قطيعة?

سئلت مجموعة من المثقفين, من غير الفنانين التشكيليين عن مدى علاقتهم بالفن التشكيلي فجاءت إجاباتهم بأغلبها, تنم عن شبه قطيعة مع هذه الثقافة البصرية(1). فرغم التبريرات المعطاة نرى الهم التشكيلي, كحاجة داخلية, مفقودا.

فهل نحن بحاجة إلى سرد الحالة الثقافية الناتجة عن علاقة الفن التشكيلي بالشعر مثلا, في بدايات القرن العشرين من سرياليين وغيرهم.. وبكل ما كانت تحمل من مشاحنات ثقافية كانت تؤدي بالتالي إلى بلورة أفكار وفتح آفاق: آفاق بدأت تُغلق, تفاعل يجفّ, فتضيق القدرة المعاناتية التعبيرية.

فنان النصف الثاني من القرن العشرين, هو حصيلة معاناة لأشرس حربين. فلسفات وأنظمة قامت وهوت: مزاجية السلطة (في ألمانيا) تضييق الخناق على القدرات التعبيرية في الاتحاد السوفييتي سابقا.. تكنولوجيا متطورة جدا همّشت دور الإنسان, بالمقابل أعطته إمكانات هائلة, وبعدها إلى أين?

لا مبالاة, تعب مرتبط بتعب الفكر (الغربي). (2) نتائجه واضحة وردّة فعله عنيفة, ثورة على الماضي ورفضه وتحطيمه, والأعمال الفنية في المتاحف أصبحت مجموعة (عجزة غير متحركة) حسب رأي روبرت سميتون, مبالغة في التعبير عن الذاتية, وصلت إلى حد استعمال هذه الذات وفي بعض الأحيان إلى إيذائها.

أريدَ للفن أن ينزل إلى الشارع, إلى الناس, أن يشارك الجميع في صياغة العمل الفني. وأصبح الفن عبارة عن صرعة تفعل فعل الصدمة عند مشاهديها. وجاء النقد ليقول:

ولمَ لا?! هذه لعبة ديمقراطية الإبداع وعدم حصره في أنا منعزلة عن مجتمعه, متناسين أن أنا الفنان المتجذرة هي الجامع الحقيقي لكل الأناة, صاهرة إياها بصياغة تعبيرية ما.

فحطم الرمز في الغرب, بعد أن شهد ثورة عارمة على كل ما هو متعارف عليه: لوحة الحامل, منحوتة الأماكن العامة, ثورة حتى على اللون. وُضع مكانه رمز آخر أو رموز (لست هنا بصدد مناقشة هذا البديل)

دليل صحي لحركية البحث ومتطلباتها. في الفن, التجربة هي التي تبلور النتيجة, ولسنا دائما محكومين بالرضا.

هنا أهمية فعل الدهشة, فعل الفرح, وفعل الحزن وليس افتعالها.

قامت المؤسسات الرسمية والمتاحف والغاليرهات في الغرب بتبني ما يُنجز رغم تطرفه الشديد في التدميرية, واختراق حرمة المفاهيم والذوق العام. وهذا التبني هو مكمن الخطورة الذي خلق حالات متكررة من افتعال الصدمة, وكأن ذلك أصبح هو الهدف. ولكن أيضا, ربما كان هذا التبني نوعا من الالتفاف على الثورة الجامحة وإعادتها إلى رشدها, إلى روحها.

دوشامب أراد الذهاب بعيدا في عرضه لمبولته. أراد للفنان كما للمتفرج أن يخرج عن سياق التعوّد الذي هو آفة الإبداع(3).

وفي المقابل بقيت تُوزّع نسخا من هذه المبولة على المتاحف حتى سنة 1962, لماذا?

كثرت الحركات (بمسمياتها اللاتينية):

L event, Fluxus, performance, Happening, Ready-made,.. وحُرفت المقاصد, وفُرّغت المعاناة...

أين نحن من كل ما يعجّ حولنا?

نحن في هذا العالم العربي, ماهي المعطيات التي بحوزتنا, ما الحالة, الحدث, الذي يستحق الارتكاز عليه?

نحن الذين نستهلك الفكر والثورة والأيديولوجية, مسموح لنا بتبني فلسفات الآخر من أي جهة أتت ولكن ممنوع علينا أن نتفلسف. تهوي صروح في الغرب, فيغيب الظل في الشرق.

إن لم أشعر بكياني حرا, أنّى لي أن أكون حرّة التعبير, فالحرية قاعدته وإلا أصبح مفتعلا.

يقول ماكلوهان إن العالم أصبح قرية صغيرة بفضل التقنية الحديثة ووسائل الاتصال. ولكن هذا لا يعني أننا نعيش من دون خصائص تميّز حتى أفراد هذه القرية الذين ربما قرروا قطع صلات رحمهم بهذه الجذور.

- نحن في زمن نرفض الغَرف مما تبقى لنا من تراث, وإن أخذنا من حضارة الآخر فسطحيا, دون معاناة. نستهون الأمور عند ملامستها فنقلدها دون أن نعي عمق الدافع وراء التعبير عنها, أي فلسفتها.

نتأثر سطحيا بالإعلام وبالتنظيرات لهذه الأجواء, وهي إن شئنا أم أبينا في أغلبيتها غربية. ولأن تربتنا خصبة للتقليد لفقداننا الثقة, وللعلاقة الناقصة مع الأنا الداخلية, مع حدْسنا الفني لِشحٍّ في تجذرنا. فدخلنا على الآخر (الغربي) من حاجته هو إلى هذا المسلك التعبيري الخاص واستبحناه دون الإلمام بقراءة حاجاتنا الداخلية منه. علّنا بذلك نرفع عنّا وصمة التخلّف, ولهاثنا للحاق بركب العولمة والمعاصرة. والذي يرفع من وتيرة هذا الركض والوصول بأي ثمن, هو تبنّي مؤسسات اقتنائية وإعلامية لمثل هذه الحالات.

هذه مرجعياتنا اليوم. صورة قاتمة لواقع صعب. نحن مسئولون عنه.

ولكن, في الوجه الآخر, أناس تتلوى ألما, تتلون فرحا, تحاول, تقلق, تقف تتأمل إلى أين:

هل أنت وطني?
لستُ في ريبة ولا في ثقة?
ولكن النوارس المذبوحة في قلبي لا تقدر أن تنام?

قاسم حداد (4)

في الوجه الآخر شعر سعدالله ونّوس.

في الوجه الآخر جواد الأسدي والجعايبي, وجواد سليم وأدونيس, وصليبا الدويهي, وأم كلثوم, والرحابنة...

هذا الوجه مجموعا, يكون مرجعيّة تشده في العمق حتى ابن عربي والمتنبي, حتى قصر الحمراء وسمرقند.

الوجه الآخر في المقاومة في الجنوب اللبناني, وفي انتفاضة الحجارة في فلسطين.

وجه يوقظ الفكر, ويزرع النور في اللون ويجلجل الصرخة في لمسة الريشة.

وبالمقابل هذا الوجه منفردا, يشحّ فيه العطاء مهما كانت القدرات الذاتية عنده مشحونة.

مرجعية تأتي من صورة لكلمة من رواية, لها تتمة في لوحة, وإشعاع لنور حرف من شعر يضيء أغنية, أو سَفَر مع نص صوفي إلى عالم تتماهى فيه الأشياء, لتصبح حالة تأخذنا إلي جواب يكشف عن سؤال, إلى ارتعاش لحظة التجلّي, سَفَر في كنف الطفولة الأولى.

كل هذا الغَرْف

وعدّة السفر ملزِمة: القلق أولى علاماته, والسؤال العميق أولى الخطوات.

نسافر في مركب غربي, والحلم شرقي, والبحر زمردي ظهرًا وبرتقالي غسقاً.

ولكن من يستعر مخيّلة يخسر حلمه.

نهل الغرب من الشرق بشوق وفرح وافتخار. كان هذا الغرْف بمنزلة أسئلة هزت أسس الثقافة الغربية السائدة يومذاك, وقلق على هذه الثقافة ذاتها من الركود وبالتالي موتها. فكان التخصيب الشرقي لها قد دخل رحمها واعدا بتجديد الحالة الحلمية وتعميق الرؤى الإنسانية.

في ربط بين رباعيات الخيام ومنمنمة فارسية يبيّن ماكلوهان, كيف أن الخيام يمحو مناطق الربط ويخلق بدلها سلسلة من القفزات الرمزية, وكيف أن الحدود تضيق في التصور الغربي للمكان ثلاثي الأبعاد.

ويقول: (إن الحدود أو الملامح الخارجية التي ندركها من التصور ذي البعدين هي حدود متعددة الأبعاد, فيها يسود منطق حاسة اللمس التي تضمه بداخلها الحواس كما يحتضن الضوء الأبيض الألوان الأخرى.

من جهة ثانية كان عالِم الصوتيات فون بيكيس, يوضح معنى الفراغ السمعي المتعددد الأبعاد معتمدا على لوحات فارسية ذات بعدين (5).

ـ جرأة الأخذ وضرورته وزمانه حفرت عميقا, وتعب هذا الأخذ في إرساء حركات وأساليب. ولن نعدد لأنه يضيق المجال. ولكن أمثلة كاندنسكي Kandinsky وموندريان Mondrian ولوكوربوزيه Le corbusier وانطون غودي Anton Gaudi تبقى مضيئة من خلال أعمالهم وصلتهم بالمكان في الشرق من خلال تعدد الزيارات.

إن ما استقاه ماتيس Matisse من هذه الثقافة وأجوائها تم بدخوله بحدْسه الفني إلى الروح الشرقية, فكانت نكهة أعماله مميّزة تتجلى روح الشرق من خلال ماتيس. هذا, وكان لمعرض ميونيخ الذي أقيم سنة 1910 أثر مصيري في مفهومه للفن التشكيلي بشكل عام.

وأترك الكلام لـ كلي klee لكي يعبر من تونس في السادس عشر من أبريل 1912: (أترك العمل الآن, رهافة مطلقة تسري بي, زادتني أمانا, اللون يعبق بداخلي, يمتلكني, أعرف ذلك, إحساس باللحظة السعيدة: اللون وأنا واحد, أنا ملون)(6).

أول الطريق

ـ هذه الجولة ربما تضعنا على أول طريق قراءة الذات وبأدق التفاصيل: تنقصنا قراءة ذاتنا التاريخية, والفلسفية, والفكرية والفنية. أن نعي ماذا عندنا لنعرف ماذا ينقصنا, عندها نستطيع فهم الآخرعند قراءته والوقوف على إشكاليته الجذرية.

فهل نمتلك الجرأة ونعترف بشحّنا, وليس بما حولنا, ولكن بخوفنا الداخلي من أن نُنعت بالنقصان والاستعارة.

لنطرح المشكلة عاليا, وليكن سؤال التغيير من داخل الحركة التصاعدية في الذات. فالوقوع في نمطية العمل الفني هو أولى خطوات تخدير الإبداع. قراءتنا لعثرات الغرب ونقد هذه العثرات طبعا, دون أن نضع حلولا جاهزة, ربما تؤدي بنا إلى مفهوم متقدم لعلاقة الفنون بعضها بعضا, وبالتالي لعلاقة صحيحة مع الناس والمؤسسات.

في سؤال وجهته مجلة (كساندر) الفرنسية إلى فابيان جانيل: إننا بصدد تصدير قيم المجتمع الغربي الحديث. في المقابل لدينا الإحساس الآن في أوربا أننا وصلنا إلى طريق فني وثقافي مسدود. هناك أمر يراوح مكانه, يكرر ذاته, أمر لا يمكن استعادة انطلاقته... لهذا فاتجاهنا نحو الثقافات الأخرى هو بهدف البحث عن أشكال متقاربة من جذورنا(7).

توحدنا في المأزق, الكل يرى الحائط أمامه.

الحوار الداخلي المُلغى هو الحلقة المفقودة في هذه الأزمة. والمطالبة بعلاقة داخلية ليست جديدة, ولن تصبح جديدة, فتنبؤ المستقبل يأتي من القوة الإبداعية الآنية. والنهل من الحاضر بكل أبعاده وتضاده هو الحاجة الملحة إلى هذه القوة الآتية عبر الحلم.

إذن, المرجعيات الداخلية, أثبتت عبر العصور أنها الأبقى, لأن الداخل المرتبط عضويا بالزمان والمكان, يبقى التعبير عنه متنوعا ومتغايرا, بتنوعهما مهما قلنا بالتقنية الحديثة لوسائل الاتصال, وأن كل شيء يحدث في أي زمان ومكان في العالم يصبح في متناول الجميع.

 

فاطمة الحاج 




هل أصبحت الأعمال الفنية عاجزة وغير متحركة?





قد نسافر مع الفن في مركب غربي. ولكن الحلم عربي, قادم من أيام طفولتنا





في الغرب تحطمت الرموز القديمة, وكل ما هو متعارف عليه, وحلت أشكال جديدة, متطرفة أحيانا, ولكنها تسعى إلى صدمة المشاهد





في البدء كان الخط تعبيرا عما يجيش في النفس من أصوات





هل أصبحنا لا نرى ما حولنا ونشكو من الشح الذي يوجد في داخلنا?