الفن أم السوق?.. الدراما الموسمية السورية ليلاس حتاحت

الفن أم السوق?.. الدراما الموسمية السورية

في الوقت الذي يعتقد فيه صناع الدراما التلفزيونية أنهم حصلوا على امتياز لمجرد عرض أعمالهم في رمضان, حيث نسبة المشاهدة عالية جدا, لا يعلمون أنهم خسروا نمط المشاهدة, وأنهم فقدوا لغة التواصل مع المتلقي الذي يلاحق - وليس يتابع - كل المسلسلات في رمضان, لأن نمط العرض والتراكم الكمي لهذه الأعمال أمر شديد الإرهاق لا تناسبه متابعة عادية.

يتجسد هذا بوضوح في الدراما السورية التي انحصر تركيزها وإنتاج أعمالها الدرامية لتعرض في رمضان. وفي بقية العام يعاد عرض الأعمال التي سبق أن عرضت على القنوات السورية - فالأولوية للأعمال المحلية في رمضان - وعلى باقي القنوات الفضائية التي اعتبرت الدراما السورية لفترة من الفترات ضرورة لابد من وجودها, لما تقدمه من طروحات تعتمد أرضية فكرية تحترم عقل المتلقي, وتغييرا دائما في الشكل الفني ينمي ذائقته الفنية.

إلا أنها في الآونة الأخيرة وصلت إلى طريق مسدود, وتحول حضورها من ضرورة إلى مجاملة تستند إلى علاقات شخصية غير ثابتة. وربما كان أحد أهم أسباب انحدار هذا الحضور وجود المنافسة غير البريئة بين الفنانين والمخرجين والمنتجين.

والعشوائية في التلقي سببها الأساسي العشوائية التي تحكم هذه الدراما سواء في التوجهات والطروحات والتغييرات (النسبية) في الأسلوب الفني.

فمن (الإذاعة المصورة) وصولا إلى (الفذلكة البصرية) تعاني الدراما السورية اليوم طغيان الشكلانية, وإخضاع العمل لقوالب مسبقة وجاهزة في خيال المخرج, مما يعيدنا إلى ضرورة مناقشة ماهو بديهي ومحسوم منذ زمن وهو (علاقة الشكل بالمضمون).

تجربة خاصة

هذا ما نادى به المخرج هيثم حقي وعمل على ترسيخه نظريا من خلال كتابه (بين السينما والتلفزيون) وعمليا من خلال ما قدمه من أعمال تاريخية أو اجتماعية معاصرة.

غالبا ما تكون قيمة المضمون أكبر في الأعمال الاجتماعية, التي تقدم ضمن إطار تقليدي يتشابه بين مخرج وآخر, لكن عند متابعة ما قدمه حقي نجد انصهار جميع العناصر لإعطاء عمل منسجم إلى حد ما, وهو كما يصفه ممدوح عدوان (كالنحات الجيد الذي يقدم لك في النهاية منحوتة لاتظهر فيها ضربة إزميل).

لدينا كم كبير للأعمال الاجتماعية هذا الرمضان: عشتار - أحلام كبيرة - رجال تحت الطربوش - الخيط الأبيض - عصر الجنون - قيد التحقيق - أزواج - الهارب - شخصيات على الورق - الهروب إلى الهاوية - حكاية خريف - كحل العيون - حكايا وخفايا.

ترتيب وحصر هذه المسلسلات لايتضمن أي نوع من الأولويات لاحسب الجودة, أو الحروف الأبجدية, إنما هو حصر عشوائي شبيه بالسياق العام الذي يحكم هذه المسلسلات سواء في الطرح أو المضمون أو توقيت العرض أو الإخراج أو حسب الصدفة العشوائية نفسها.

لكن مسيرة هيثم حقي تجعله مستبعدا إلى حد ما عن هذا السياق لينفرد بتجربته التي تصب في سياق مشروع درامي بصري فيه الكثير من التجريب, مرتبط إلى حد كبير بالحياة والناس وقد تجسد ذلك في أكثر أعماله شعبية مثل (هجرة القلوب إلى القلوب, خان الحرير, الثريا, سيرة آل الجلالي, الدغري, ذكريات الزمن القادم).

وهو الآن يُطل علينا كما العام الماضي بعمل اجتماعي معاصر يحمل اسم (الخيط الأبيض) من تأليف نهاد سيريس, من بطولة: جومانة مراد, جمال سليمان, أسعد فضة, خالد تاجا, سليم صبري,... هذا العمل إنتاج شركة جومانة للإنتاج الفني.

يحكي المسلسل قصة مقدمي برامج تلفزيونية, (رأفت الشمالي) المشهور بجرأته وتخطيه الخطوط الحمراء للرقابة, ومعدة برنامجه (سهام البنا) التي تنفصل عنه لتنفرد ببرنامج خاص بها على قناة أخرى.

لكل منهما مشروعه المختلف, كلاهما صاحب مشروعين مختلفين يتقاطعان في استخدامهما الإعلام من أجل التغيير مع اختلاف الوسائل والأساليب, ودخول أصحاب رءوس الأموال للاستفادة من صراعات كهذه, ينتهي الصراع عند قيام (رأفت) بتأليف كتاب عنوانه (الخيط الأبيض) يبين فيه الخيط الأبيض من الأسود في كشف آلية الفساد عموما. العمل عبارة عن بانوراما لحياة معاصرة, ودخول إلى كواليس الإعلام المرئي المجهولة بالنسبة للعامة والمغرية لمعرفة تفاصيلها والاقتراب منها.

الدراما الاجتماعية

توجه أغلب مخرجينا للدراما الاجتماعية لم يكن عبثا, فقد حققت نسبة مشاهدة عالية, خصوصا تلك التي تلامس إشكاليات الطبقة الغالبة في المجتمع, مع الإشارة إلى أن الطبقة الوسطى بدأت تتلاشى في سورية متجهة نحو الأسفل أي نحو الطبقة الفقيرة, لذا كان مسلسل (أيامنا الحلوة) للمخرج هشام شربجي من أنجح الأعمال جماهيريا, حتى بعد عرضه خارج أوقات رمضان.

هذا العام أيضا يقدم هشام شربجي دراما اجتماعية (رجال تحت الطربوش) تأليف: فؤاد حميرة, إنتاج شركة لين للإنتاج والتوزيع الفني. تمثيل: خالد تاجا, عبد الهادي صباغ, كاريس بشار, نادين خوري, مها المصري, سامر المصري, سلوم حداد, أيمن رضا...

يتناول المسلسل علاقة الرجل بالمرأة سواء كانت زوجة أو أختا أو صديقة, خاصة لدى الشريحة المثقفة, التي تدعي احترام المرأة وحقها في المساواة مع الرجل, على الصعيد النظري لكنها عمليا عكس ذلك تماما, ( فنان مثقف صاحب شركة إنتاج فني, مدير مالي لشركة تديرها زوجته, محامٍ عاجز جنسيا...) عدة نماذج تحكي قصة التواطؤ الضمني بين المرأة وذاتها ضد ذاتها, فتأتي نتائج التآمر في مصلحة الرجل دائما, لأن المرأة فطرت على مبدأ أن تكون كبش الفداء والطرف الأكثر إخلاصا وتضحية في معادلة الأسرة.

ماذا عن المرأة في عصرنا الحالي? خصوصا إن حاولت طرح إشكاليات وأسئلة تجدها ملحة من وجهة نظرها.

أمل عرفة هذه المرة كاتبة القصة والسيناريو والحوار وبطلة مسلسل (عشتار) للمخرج ناجي طعمة, أرادت من خلاله إظهار إمكاناتها التي لم تستغل بالكامل حسب ماتعتقد من غناء واستعراض وتمثيل, رغم ماحققته من نجاح ضمن الإطار نفسه في (خان الحرير) لكن الوضع هنا مختلف فالعمل معاصر, يمزج بين الضحكة والألم شأنه في ذلك شأن الحياة, يعرض حياة فتاة في الثامنة عشرة من عمرها في أشد مراحل العمر أثرا في صياغة الشخصية وتركيبها النفسي والفكري والاجتماعي والإنساني.

الكوميديا الحزينة

يتشابه هذا العمل مع بعض الأعمال الكوميدية التي تنطلق من جدية الكوميديا وتعالج هموم الواقع بشكل كاريكاتوري يستجيب لكاريكاتورية الواقع, دون أن يعني هذا استخفافا بجدية المعالجة, أو الهموم التي يتم تناولها.

ربما بدأت الكوميديا في سورية بصورة لافتة قبل أربعة عقود - تقريبا - مع مسلسلات دريد لحام ونهاد قلعي (حمام الهنا, صح النوم...), واستمرت لنرى كوميديا حقيقية (الدغري) إخراج هيثم حقي, كتابة: د.رفيق الصبان عن قصة (زوبك) للكاتب التركي عزيز نسين. وكذلك سلسلة مرايا في بداياتها...

لكن بين الكوميديا (الرائدة) وما يعرض من كوميديا جديدة أربعة عقود تبدلت فيها المفاهيم والوقائع الاجتماعية, مما أدى إلى تغييرات في مفاهيم الفن التلفزيوني أيضا. لكن هل يبرر هذا الكم الكبير تلك الأعمال الكوميدية الهابطة, التي لم تتمكن من تحقيق توازن معقول بين مفردات العمل الدرامي المختلفة? وفور أن ينجح عمل يتحول إلى سلسلة غير منتهية مستنسخة عمّا سبقها وبشكل مشوه مثل عائلة النجوم (عيلة خمس نجوم, ست نجوم, سبع نجوم...) التي أطلق عليها فيما بعد (كوميديا التهريج), أيضا (جميل وهناء) بجزئيه اللذين حققا حضورا كبيرا, وهنا نتساءل: هل الجمهور لم يعد يجهد نفسه بمقولات وأفكار كبيرة, ويرغب في التسلية السهلة فقط?

أما تجربة اللوحات المستقلة فهي الأكثر رواجا حاليا والتي استفادت من مرايا, مثل (2 - 2 - بقعة ضوء (بأجزائه الثلاثة) - عالمكشوف..) هذه الأعمال حققت في البداية حضورا محليا وعربيا رغم كسرها لمفهوم البطل النجم, كما اعتمدت المفارقات الحقيقية التي لامست واقع حال المتلقي, وعالجت إشكالياته اليومية.

وربما أحد أهم أسباب نجاحها هو تجاوز الخط الأحمر للرقابة قليلا, لكن إن زاد الحد كانت اللوحات تمنع بالكامل أو تشوه باستئصال أجزاء منها.

إلا أن القاعدة التي انطلقت منها تلك الأعمال تغيرت مع استمرار السلسلة, فما نعانيه اليوم هو (برجوازية الكوميديا) التي كانت ترصد حياة المواطن العادي وما يمارس عليه من قهر في العمل والعائلة والشارع والسلطة.. وخير مثال مسلسل (يوميات مدير عام) و(بطل من هذا الزمان)..

والمضحك كان من خلال جملة من المفارقات. أما الآن فإن أغلب الحلقات تصور في (فيلات) وتعرض حال الطبقة الغنية. للجميع منازل فخمة, يركبون السيارات ويعيشون حياة الرفاهية...

فالكاتب الذي عانى حياة الفقر ورصد الشارع أثناء سيره فيه, تغيرت إشكالياته بعد ركوب السيارة والجلوس في مقاهي الفنادق, لذا أصبح ما يرصده لا يمس السواد الأعظم من الناس, مما أثر على نسبة مشاهدة هذا النوع الذي فقد جاذبيته, فلم يعد المتابع يشعر بنبض الواقع, ولايرى صورته الحقيقية على الشاشة الصغيرة.

ضمن التوجه نفسه يخوض باسم ياخور تجربته الإخراجية الأولى في مسلسل يحمل عنوان (هارموني) أو (بيتنا الحلو) وهو أيضا حلقات منفصلة تعالج قضايا اجتماعية, تدور أحداثه حول عائلة مؤلفة من ثلاث فتيات يقمن بعد إقناع أحد الأقارب بتأجير (القبو) في بيتهن لشاب في مقتبل العمر, وفي العلاقة مع المستأجر تقع مفارقات عديدة تمس الواقع المعيش. العمل من تأليف لبنى حداد, ويقع في أربعين حلقة, مدة كل منها نصف ساعة يعتمد فيها نظام السيت كوم, وهي التجربة النوعية الأولى في سورية, ويقوم بالبطولة: سلمى المصري, مها المصري, خالد تاجا, أحمد الأحمد, شكران مرتجى, باسم عيسى..., المسلسل من إنتاج (شركة شباب) وهو باكورة أعمال هذه الشركة.

كل هذا الشح في الكوميديا وتكرار المقولات, واستنساخ الشكل الفني, هل يلغي المقولة الشهيرة بأن الكوميديا تنشط حين تمر البلاد بمنعطف سياسي حاسم?.. أم أننا لانتعرض لأي متغيرات أو منعطفات, تؤرق صفونا?..

التاريخ الخجول

هذا الكم الكبير من الأعمال الاجتماعية سيقوم المتفرج بتصفيته ليخرج بعملين أو ثلاثة فقط تتميز بنوعية جيدة, بينما الأعمال التاريخية رغم قلتها سنويا فهي تحظى بمتابعة جيدة, وتلفت الأنظار بسبب حالة الإبهار التي يخلقها الإنتاج المكلف الذي يفوق أضعاف ما يكلفه أي عمل معاصر...

ظل حضور الدراما التاريخية قريبا من المشاهد, بسبب صلته بفن القص عموما, والقص الشعبي خصوصا, لاسيما الذي يروي حكايات الأبطال الشعبيين ومسرودات المعارك الكبرى وما فيها من مآسٍ وبطولات. لكن إلى أي حد ينجح مخرجونا في نقل الصورة من الخيال إلى حيز التجسيد?

(السيرة الهلالية) واحدة من السير الشعبية العربية المحفوظة في ذاكرة الناس, وتقديمها على الشاشة يفترض قراءة جديدة لها. هذا العمل من إخراج باسل الخطيب, كتابة محمد أبو معتوق وإنتاج تلفزيون أبو ظبي.

إن تقديم هذه السيرة يأتي ضمن مشروع لإعادة إحياء التراث الشعبي المتعلق بملاحم العرب (الزير سالم, داحس والغبراء...) وقراءة التاريخ من جديد.

إن المخرج باسل الخطيب مثلا يعتبر أن المسلسل يأتي (انطلاقا من حاجتنا إلى التركيز على القيم النبيلة في هذا الزمن بالذات), ويضيف: (في سيرة بني هلال صراع مع الآخر من أجل البقاء). يحاول المسلسل الارتقاء من المستوى البسيط للحكاية إلى المستوى الملحمي التراجيدي, كما أنه لا ينحو إلى التوثيق بل إلى الانتقاء والتقديم وفق رؤية تقود العمل.

لباسل الخطيب أسلوب ميزه عن غيره من المخرجين سواء في خياراته التي تحمل قراءة مستقبلية للواقع مثل (هولاكو) الذي قدّم قبل عام من دخول القوات الأمريكية بغداد, إضافة إلى أسلوبه الفني الذي أبرز أهمية الصورة في العمل الدرامي. وضمن تيار الدراما التاريخية تبرز عدة مسلسلات منها : فارس بني أمية, صراع الأشاوس, بهلول....

كل تلك الأعمال ما زالت تستفيد من الفورة الإنتاجية التي تناولت مراحل تاريخية معينة, وأنتجت أعمالا شكلت علامات فارقة في مسيرة الدراما السورية والعربية, مثل (إخوة التراب, خان الحرير, الثريا, الزير سالم, صقر قريش, ربيع قرطبة..). في الوقت نفسه ظهر تيار باسم (الفانتازيا التاريخية) يتنصل من أي رابط مع الزمان والمكان ولايرتبط بأي حقيقة بل بحكايات متخيلة, هذا التوجه انحسر لأن المتلقي لم يجد صلات حقيقية بحياته وهمومه اليومية, ومهما كان الحضور الفني قويا إلا أنه لايعوض الحضور الفكري.

حتى أكثر من برع في هذا المجال ويحسب له ما طرأ من تغييرات هو المخرج نجدت أنزور ( إخوة التراب, نهاية رجل شجاع, الجوارح, البواسل, الكواسر, البحث عن صلاح الدين..) يطل علينا هذا العام بعمل يحمل اسم (فارس بني مروان) لمؤلفه محمود عبد الكريم, إنتاج (جنة العريف للإنتاج والتوزيع السينمائي والتلفزيوني).

يتناول شخصية مسلمة بن عبد الملك ويحكي سيرة البطل الأموي ابن الخليفة الشهير عبد الملك بن مروان, وصمام الأمان للدولة الأموية, فهو ابن أمة لا تحق له الخلافة, وحين عرضت عليه رفضها, إضافة إلى كونه أديبا ومثقفا...

ليست الغاية من هذا العمل عرض السيرة الشخصية لـ (مسلمة) بل عرض للمرحلة الأموية بالكامل التي امتدت من حدود الصين إلى أعماق أوربا في زمن عبد الملك والوليد, هي ذاتها الدولة العربية التي أغمدت سيفها ومدت يدها في زمن خليفتها العظيم عمر بن عبد العزيز لتقول لجميع الأقوام, إن الحوار والتسامح هو المبدأ الأساس في علاقات البشر أمما وأفرادا.لذا حاول أنزور من خلال الولوج إلى التاريخ استخلاص كيفية الحياة اليومية والوضع القائم في تلك الفترة وليس فقط حياة من يرتبطون بالسلطة.

لنجدت أنزور وجهة نظر فيما يتم تناوله من التاريخ (الشبه كبير فيما يعرض, يتناولون التاريخ ليفتخروا به, رغم أنه مكتوب بوجهات نظر متعددة) ويتساءل (لم لاتتم الاستفادة من التاريخ وقراءته جيدا ورؤية مدى تشابهه مع وقتنا الحالي, فتاريخنا مكرر, لم لانحلله ونكوّن رؤية مستقبلية من خلاله?), ويستنكر أن نقف مكتوفي الأيدي أمام ما يحدث من متغيرات في سورية والمنطقة العربية.

لا يعني هذا لَيّ عنق التاريخ كما يفعل الكثير من الكتاب لإسقاط المرحلة فتبدو مفتعلة ومباشرة, إنهم يهربون بشكل أو بآخر من الرقابة وهذا ما أكده أنزور, فالمعاصرة في رأيه غير ممكنة بسبب الرقابة التي فقدت حسّها الوطني, والمحطات العميلة مسلوبة الإرادة, لذا لن يخاطر أي منتج بتمويل عمل قد لايرى النور.

والسؤال هنا: هل تاريخنا هو تاريخ ملوك وقادة وبطولات فقط, وإن كان التاريخ لايخلد سوى هذه الأسماء, فما الجديد والمختلف الذي تقدمه الأعمال التلفزيونية حين تتناول هذه الشخصيات? وهل تكشف أمورا لم نقرأها في الكتب المدرسية ونعرفها من خلال موروثنا, فنحن لم نعرف الحياة في تلك المراحل التاريخية, ولاطبيعة العلاقات بين الناس, أو انعكاسات الظروف المحيطة على العامة.

هذا ما حاول تقديمه المخرج حاتم علي في عمله السابق (ربيع قرطبة) للكاتب د.وليد سيف, وقد نجح في قسمه الأول في رصد حياة العامة وآلية عيشهم التي تقاطعت مع حياتنا المعاصرة, كما سحب هذا على الشكل الفني الذي تميز ببساطته وقربه من المتلقي.

التعتيم على التاريخ

أما فيما يتعلق بالتاريخ القريب, فقد كانت حقيقة الحياة أوضح رغم تغييبها لفترة طويلة بسبب المحاذير السياسية, فكلما ازدادت قربا أصبح التاريخ ملتبسا والرقابة أشد.

هذا هو سبب نجاح مسلسل (أيام شامية) للمخرج بسام الملا, والكاتب أكرم شريم, الذي قدم صورة الحياة في حارات دمشق الشعبية في فترة أواخر الحكم العثماني - ربما كانت البيئة هنا هي المفردة الأهم التي تنتظم الدراما كلها - فيما بعد استمرت السلسلة بعمل (الخوالي) ويتابعها الآن مع (ليالي الصالحية) إضافة إلى مجموعة الأعمال الرمضانية التي يمكن تصنيفها مع التاريخ القريب مثل: (ليل السرُار) للمخرج عدنان إبراهيم, تأليف نبيل ملحم. وبطولة: منى واصف, نورمان أسعد, سعد مينة, طلحت حمدي... إنتاج شركة عرب للإنتاج الفني.

كما أننا هذا العام نحظى بعمل إخراجي ثان للفنان أيمن زيدان الذي أثبت رؤيته الإخراجية المتميزة في عمله الأول (ليل المسافرين), فهو يرى ضرورة إعادة القيمة للعنصر البصري في الدراما التلفزيونية ويضيف: (تعاني الدراما في أغلبها الثرثرة الحوارية والفوضى الشكلانية وما نسعى إليه اليوم هو استعادة الصورة بحيث تتوازن مع المحتوى للخروج بعمل منسجم العناصر).

هذه المرة يقدم زيدان عمله (طيور الشوك) الذي يحكي قصة الطير الذي طعن صدره بالشوك, ليصبغ بدمه الوردة البيضاء الحزينة, فتصبح شبيهة بمثيلاتها من الورد الأحمر. وهذه حكاية معروفة أخذها قمر الزمان علوش وبنى عليها عمله الجديد الذي تولت شركة الشرق إنتاجه.

العمل اجتماعي له خلفية سياسية غير مباشرة تتناول فترة وجود الإنجليز في سورية في مطلع القرن قبل الماضي. من خلال هذا العمل يحاول زيدان أن يطرح مسألة العلاقة مع الآخر والحوار معه (من خلال قصة حب الشاب العربي لابنة القنصل الإنجليزي) أي أننا نستطيع أن نبني علاقة مع الآخر بانتفاء شروط استغلال طرف لآخر.

توجه جديد

وضمن دراما التاريخ القريب نلحظ هذا العام في رمضان توجها جديدا للدراما السورية يتغذى من القضية الفلسطينية, ليس بالإمكان تكوين وجهة نظر نقدية واضحة حوله قبل متابعته ومعرفة مدى استمراريته وتوجهه.

أنهى المخرج باسل الخطيب عملين, الأول (يحيى عياش) كتابة الناقدة والإعلامية ديانا جبور, إنتاج (غولدن فيجن), يحكي السيرة الذاتية ليحيى عياش منذ الولادة حتى الموت مستعرضا الظروف السياسية والاجتماعية والشخصيات آنذاك...., شارك في التمثيل: سامر المصري, رولا أبو أسعد, تيسير إدريس, مانيا نبواني, رضوان عقيلي...

والثاني (عائد إلى حيفا) عن رواية غسان كنفاني سيناريو غسان نزال, بطولة: سلوم حداد, نورمان أسعد, صباح جزائري, فاديا خطاب, سامر المصري...., إنتاج شركة عرب للإنتاج الفني.

في هذا المسلسل نقف أمام حالة إنسانية, وطنية, من ناحية أولى تشكل نكبة فلسطين عام 1948 بكل خلفياتها ومعطياتها السياسية محورا رئيسيا للمسلسل, ومن ناحية أخرى تشكل مأساة الإنسان الفلسطيني بكل العذاب الكامن فيها المحور الثاني من خلال سلسلة الأحداث التي تتوالى لنجد أنفسنا أمام عمل يقدم صيغة ثنائية حول العام والخاص, حول الوطن والإنسان, حول الذات والزمن. رحلة من التشرد يغوص في مخاضها مئات الألوف من الفلسطينيين بعد أن اقتلعوا من ديارهم, وبطلا العمل (سعيد وصفية) ليسا سوى زوجين ضمن هذا الحشد الكبير من المشردين. هذا المسلسل على الرغم من حجم المأساة وقتامة الأحداث فإنه يفرد مساحة كبيرة للأمل ويعيد إلقاء الضوء على مجموعة من الحقائق شبه المغيبة عن الذاكرة والوجدان, ليؤكد أن الشعب الفلسطيني قد قاوم بكل ما يملك وأنه لم يهجر أرضه بهذه السهولة التي أشيعت عنه آنذاك وأن حجم المؤامرة كان كبيرا جدا.

أما مسلسل (تغريبة بني فلسطين) لمؤلفه وليد سيف, ومخرجه حاتم علي, فهو يسعى لأن يسهم في إبقاء ذاكرة القضية الفلسطينية حية نشطة, ويقدم صورة واقعية للنماذج الإنسانية المركبة التي تتفاوت في إيجابياتها وسلبياتها وصراعاتها الداخلية. ويتابع العمل حياة عائلة فلسطينية ريفية في أجيال مختلفة يتشكل سيرها وتتطور شخصياتها على خلفية مأساة الشعب الفلسطيني.

لكن مانراه حتى الآن يعالج القضية الفلسطينية من وجهة نظر أحادية الجانب, ليس المقصود بذلك معرفة وجهة نظر الآخر (الإسرائيلي) أو دوافعه, لكن المتلقي بحاجة إلى رؤية المشهد بشكل أشمل وليس فقط الجانب النضالي.

كل مانراه لايختلف عن النشرات الإخبارية (بيوت ريفية تتهدم, أناس يرمون الحجارة, جنازات واشتباكات..) لكن لاعلم لنا بحياة المدينة مثلا وآلية العيش وما يعمل الناس في حياتهم اليومية لكسب قوتهم غير القتال والنضال...

ثم لماذا لايتم الحديث عن الخيانات وليس فقط البطولات? ولايقتصر هذا على فلسطين فقط.

هل تاريخنا حافل فقط بالبطولات, ألانستحق أن نقف أمام أنفسنا ونواجه حقيقة تاريخنا لنواجه حاضرنا ونخطط بشكل حضاري لمستقبلنا?

أسئلة عديدة لابد من طرحها على الدراما السورية, فالمشاهد بحاجة إلى الحقيقة المرة, لم يعد بالامكان الاستهزاء به, خصوصا مع وجود فضائيات تحقق له حرية الخيار والتنقل من محطة لأخرى ومن عمل تلفزيوني إلى آخر.

أزمة مركبة

وصلت الدراما السورية إلى طريق مسدود بسبب ارتباكها, سواء لعدم وجود تطوير لأصول صنعة السيناريو وقراءته أو توقع جدواه المادية, هناك أزمة نص حقيقية يعانيها مخرجون يعكسون بدورهم واقع حال الثقافة في سورية, وإفلاسهم هو انعكاس للإفلاس الثقافي والسياسي العام. لذا نادرا ما نشهد تغييرا في الأدوات الفنية أو تطويرات تقنية, أو رؤى مختلفة على الأقل, ساهم في ذلك عدم وجود اختصاصيين وكوادر فنية مجهزة أكاديميا, إضافة إلى الرقابة التي لاتحتكم لقوانين فنية, بل هي سلطة سياسية بحد ذاتها تؤطر أي محاولة للانعتاق والتجديد ومكاشفة الذات والواقع.

أما شركات الإنتاج فهي العامل الأساسي في رفع الدراما السورية وفي أزمتها اليوم, ورغم كثرتها فإن قلة منها تعمل مثل: شركة سورية الدولية, شركة عرب, لين والشرق اللتين اندمجتا في شركة واحدة...

تلك هي الشركات التي تنتج ما يقارب أربعة أعمال سنويا فيما عدا ذلك تنتج باقي الشركات عملا أو عملين فقط, والبقية تعمل كمنتج منفذ يحصل على رأس ماله من السوق الخليجية الذي يعتبر أساسيا لهذه الدراما (تحديدا التاريخية) على صغر السوق العربية برمتها.

لذا ارتبط الإنتاج بمزاجية الجهة المنتجة ورغباتها, مما يؤكد عشوائية الدراما السورية التي لايمكننا تحديد ملامح إنتاجية لها, ليس لأنها بلا ملامح, بل لأنها لم تطرح نفسها كقطاع أو فعالية إنتاجية دائمة تسعى لكي تتكامل فيها المصالح وتستمر.

كل ذلك جعل العمل التلفزيوني منتجا تجاريا, وميدانا للمنافسة وشراء الوقت والكسب الإعلاني الضخم, وإذا كانت الدراما التلفزيونية قد أصبحت الجزء الأهم والأخطر من الاحتفال الرمضاني, إلا أنها تموت خنقا بسبب ماذكرناه وعدم وجود مشاهدة حقيقية واعية.

أرهقت الجمهورَ المتاجرةُ باسم الفن, وجل ما يطمح إليه الآن هو عمل نظيف متقن وجيد, يرتقي بالرؤية البصرية الجمالية والذائقة الفنية, فما نراه من أعمال يتبع وجهة نظرهم وعيونهم التي تلتقط هذا العالم, نأمل أن يكونوا قادرين على جعلنا نراه بشكل أفضل.

وكما نقل كازانتزاكي عن أحد المتصوفين قوله: (إذا لم نستطع أن نغير العالم فلنغير عيوننا التي ترى هذا العالم)

 

ليلاس حتاحت 




لقطة من مسلسل (عائد إلى حيفا) المأخوذ عن قصة غسان كنفاني





(رجل تحت الطربوش) مسلسل اجتماعي من إخراج هشام شربجي





المخرج السوري المعروف نجدت أنزور





لقطة من أحد المسلسلات الاجتماعية التي تميز الدراما السورية